العلاقات المدنية العسكريةقراءات استراتيجية

إصلاح المنظومة العسكرية والمآل السياسي

5-9-2016

هل ما يحدث الآن من إحكام سيطرة المؤسسة العسكرية بفروعها على المفاصل الخدمية فى الدولة (صحةـ تعليم – لبن الأطفال!..)  يمكن تفكيكه وتحجيم هذه المؤسسة بعد تفشيها وتغلغلها فى الدولة لهذا الحد ؟

وهل هذا قد يؤدى لحدوث تداعيات ثورية أو احتجاجية قد تتطور لإحداث هزة فى هذا النظام؟


بخصوص لبن الأطفال فالمعلومات غير متكاملة، ولكني لاأعتقد أن الجيش خزن اللبن وعطّش السوق للحصول على ربح مادي أو سياسي. لأن هذا سينكشف وستنهار شعبيته، كذلك فهو لم يتحول بعد لعصابة! نظام القوات المسلحة حتى الآن لايسمح بفساد (غير مقنن) على مستوى فاضح، أو ضرب في الكلاشيه الخاص بالمصلحة الوطنية إلا بتحريف وتأويل يمكن بلعه.

الربح الاقتصادي – إن وُجد – فهو محدود للغاية، ولكن هو دخل على خط الأزمة بنفس المنطق العام للمرحلة:

محاولة إنقاذ  الوضع بسبب ضعف الإدارة المدنية، ممايمنع من تفاقم اجتماعي ثم سياسي يضر بحياة نظام يوليو 2013

– توسعة قاعدته الاجتماعية والسياسية، والتي تُحسب كذلك للسيسي (فمازال الجيش هو القاعدة شبه السياسية والموثوق بها التي يعتمد عليها، فكل محاولاته لتطوير قاعدة مدنية لحكمه إما كانت غير جادة أو فشلت – مثال البرلمان)

استغلال الوضع لتطوير قاعدته الاقتصادية (هذه تعود بفوائد على القطاع العسكري بالجملة وتوفر قاعدة سيولة تفيد المؤسسة في مواردها الداخلية وكذلك توسعة نفوذها السياسي والاجتماعي، ولكن هامش الفساد غيرالمقنن أو المقنن للقيادات العسكرية المنخرطة في هذا النشاط محدود على كل حال)

النقاط السابقة مهم الالتفات لها، ليس بسبب موضوع اللبن (الذي أرى تدخل الجيش فيه ليس تآمريا، ولكن اعتراضنا عليه هو ضمن الاعتراض الإجمالي على تدخل الجيش في النشاط الاقتصادي، واستبداله بالقطاع المدني في الإدارة والنشاط التنفيذي).

ولكن مهمة لأنها تتيح فهم أفضل لطبيعة النظام الحالي، ومآلاته، وسبل الإصلاح:

فالنظام كما ذكرنا من قبل، ليس نظام مؤسسة عسكرية تحكم، ولكنه نظام فارغ من داخله، على رأسه السيسي دون طبقة حكم ولكن تحته المؤسسة العسكرية (ليست شريكة) بينهما تعاقد قَبَلي ووظيفي (الأخير تطور بعد فشل مقامرته على أدوات مدنية وفي سبيل البحث عن إنجاز سريع)، وكذلك المؤسسة الأمنية في تنافس مع العسكرية في بعض الملفات التنفيذية وتحاول أن توسع لنفسها بتصدير صور وسياسات تصعيدية، مع أذرع في القضاء والإعلام.

ولكن ماسبق أبعد مايكون الحقيقة عن وحدة موضوعية أو منظمة..

طبعا هذا (شبه النظام) في سلسلة أزمات وإفلاسات تتفاقم مع الوقت (الأهم الاقتصادية، والإرهاب بسلوكه  الحلقي يكمن حينا ليطور أدواته وبنيته ويسمح بصنع حالة أمن وانتصار زائف ثم يضرب، انهيار الدور الإقليمي، وأزمة المياه، والفشل الوظيفي في القطاعات الحيوية، وكل ماسبق يغذي حالة الاحتجاج الاجتماعي وتعرية الأزمة السياسية والحقوقية)

——————————

ولكن هل هذا سيقود لانفجار شعبي، أو حتى ثورة؟

لاأعتقد.

بالتأكيد أمامنا سلسلة متصاعدة من الاحتجاجات الشعبية، وفقدان كبير لشعبية السيسي وانهيار الثقة في نظامه داخليا وخارجيا (خصوصا مع التطور الاقتصادي: تعويم الجنيه جزئيا ثم كاملا، رفع الدعم، الضريبة المضافة…)، والأسوأ في رأيي تداعي الثقة والتأييد الشعبي للجيش والقضاء لأسباب عديدة وساهم في ذلك أطراف مختلفة (هذا سيحتاج سنينا لإصلاحه حين نريد أن نعيد بناء دولة!)، ولكن لن تتطور لحال انتفاضة شعبية (بسبب -ومع – غياب رأس وأفق سياسي)، وكذلك بسبب بعض قدرة للأذرع الأمنية والإعلامية – مع حضور صورة القلق من مصير مشابه لتفتت دول الإقليم ماثلة شعبيا.

ومع ذلك – كل ماسبق يمثل فرصة حقيقية لأي قوى سياسية تريد أن تعيد تكوين وتطوير بنائها الذاتي(في القيادات والرؤى والأطروحات)، وتحاول التدافع على مساحات الفعل السياسي والاجتماعي بغية – وبالاستفادة من – تكوين قواعد شعبية لها.

وعلى هذا سؤالك: الدخول في الانتخابات؟

ممكن هذا طبعا كمحور عمل ضمن استراتيجية متكاملة، وليس أن يكون هو الاستراتيجية.. بفرض السلامة الإجرائية على الأقل.. أو الاستعداد للمقاطعة أو الانسحاب.

أي يسبقه تطوير البنية، ومسار الاحتجاج، وطرح البدائل، ويصاحبه التواصل الشعبي.. (وإلا فالمشاركة ليس لها ثقل وكذا الانسحاب) مع بضرورة بقاء مكونات خارج إطار الصراع على المساحات.

لعلك تذكر مقالي في ديسمبر 2010 بالقدس العربي عن الانتخابات والمشروع المصري.

المشكلة الحقيقية في تجربة مابعد يناير فعلا لم تكن الجيش ولا حتى مكونات نظام مبارك.. ولكن القوى السياسية التي أهدرت ثورة يناير (مبكرا جدا كما نعلم)، ثم فصّلت بدقة (كما يقول الكتاب) مبررات تعاظم القاعدة الشعبية والسياسية للجيش تمهيدا لتدخله.

ونحن أيضا جزء من المشكلة.. فالقوى السياسي التقليدية بميراثها العقيم فكريا وقياديا وتاريخيا ونفسيا – كانت أبعد حتى عن تطبيق شروط الحد الأدنى لعبور شبه آمن بعد يناير 2011 (قدر من القيادة التوافقية للملفات الحيوية مع تثبيت الكود الديمقراطي ممايفتح أبواب التطور الاجتماعي والسياسي لنشأة نخبة جديدة). ولكن أيضا – فشلنا كحالة شبابية ليس فقط أن نُكوّن بديلا، أو نتبنى أنماط من الفعل الثوري أكثر رشدا وانتاجا وتنوعا، ولكن حتى أن نضغط عليها بشكل حقيقي أو رشيد في تصحيح مسارها – مع الإقرار بوجود عوازل كثيفة وسياسات دفاعية انتهازية عندها ضد النقد.

نجحنا جزئيا فقط في الضغط على المؤسسة العسكرية لتسليم مبكر للسلطة – في إطار قاد لتفاهمات هشة ومحاولة فصيل للسيطرة.. قاد لكوارث فيما بعد.

الجيش (قيادته بالأساس) مسئولة عن إشكالات كثيرة بالطبع، ولكنه تصرف (كما يقول الكتاب) كجيش جمهورية شرقية تقليدية.. هو بالضبط أقرب للنموذج الباكستاني (خليط من: الوطنية، والترهل الوظيفي والاحترافي والثقافي، والاعتماد الخارجي، وتدهور الكود الإنساني، والربح).

——————————-

طيب – هل يمكن إصلاح هذه المنظومة العسكرية ومايحيط بها من وضع اقتصادي واجتماعي وسياسي ملتبس؟

بالطبع، ولكن ليس في معزل عن استعادة حالة الحراك السياسي والتحول الديمقراطي.

كنا نقول بعد يناير 2011 حتى 3 يوليو 2013 – أننا في مرحلة الانتقال الديمقراطي التي تحاول ضمانة عزل الجيش عن السياسة وضمانة حد أدني للديمقراطية، ولكن مرحلة التثبيت

Democratic Consolidation

التي تقتضي تطوير وإصلاح شامل في بنية المؤسسة العسكرية (قيادة وسياسات وعقائد وتركيب ومنظومات بشرية وتسليحية وأدوار وموارد) ستأخذ وقتا طويلا اعتمادا على تطوير الشرعية المدنية، وكذلك – القدرة الفنية التي يمكن أن يحصلها أو يستعملها القطاع السياسي والمدني في التعامل مع تلك الملفات – بشرط ألا يقودنا لحكم تنظيم شمولي كالإخوان، أو تهديم قاعدة الديمقراطية ذاتها كما حصل بشكل جزئي في تركيا.

مثلا:

تفكيك المنظومة الاقتصادية للجيش هي مسألة حتمية لاستعادة الروح الاحترافية للقوات المسلحة، ولكن أيضا لاستعادة حيوية التنافس في القطاع الاقتصادي والخدمي، ومنع المؤسسة من بناء قاعدة اجتماعية بما يتعدى وظيفتها الوطنية في ملف الدفاع.. وهذا حصل بشكل ناجح في تجارب أمريكا اللاتينية (الأرجنتين، البرازيل، ولحد ما تشيلي)

ولكن كيف تتم؟ وفي أي إطار زمني.؟ ومن يقوم بها؟ وماهو السياق السياسي الدافع لها في البداية بحيث يُجبر المؤسسة على الامتثال وفي نفس الوقت لا يُعرضها لحالة إذلال أو حتى قصور وظيفي (سواء في تلك المشروعات التي قد تفشل إذا أدارتها إدارة مدنية قاصرة، أو في الحاجيات الضرورية للقوات المسلحة التي يجب أن تديرها وزارة الدفاع ولكن بأدوات صحية وعليها رقابة واعية)

——

أيضا بمناسبة بوست باسم يوسف- ماهي البنية الأمثل وظيفيا ومن منظور ضبط العلاقات المدنية العسكرية، وأيضا استراتيجيا – للتجنيد والتعبئة: هل بقاء الوضع الحالي من التجنيد الإجباري الذي يقود لترهل (قوات فراغية

Hollow Forces

يجاوز نسبة 60% من الطاقة الاحتراقية للقوات – ويسمح بكل المشاكل السياسية والاقتصادية السابقة؟ أم جيش احترافي كامل كالدول الغربية – آخرها فرنسا التي تحولت من التجنيد للاحتراف في 1996 (طبعا لو كان دور مصر في الاقليم هو مايريده السيسي: مجرد داعم كسول للخليجي بسبب فواتير (الرز) وسلام دافيء مع إسرائيل- يبقى خلليه جيش احترافي طبعا)؟ أم نظام تجنيد إجباري (سمارت) كما يحصل في إسرائيل منذ التسعينات؟

كذلك – هل السياق الحالي يسمح – ليس فقط بتطبيق أي تعديلات وإصلاحات، بل حتى فتح نقاشات موضوعية تجاه أي أمر؟

تناول هذا الموضوع مثلا من أكثر المسائل تعقيدا في الإصلاح العسكري.. لأن هناك عشرات العناصر التي لابد من دراستها ومآلاتها بدقة.

مثلا تدهور القدرة النوعية والاجتماعي-تقنية

socio-technology

للقيادات التكتيكية وصولا للجندي  – دفعت الجيوش الشرقية لمحاولة ردم الفجوة النوعية بالعدد.. وهذا ينجح أحيانا – بحدود – ولكن له اشتراطات وتحويرات في العقيدة القتالية ومنظومة التسليح وسلسلة القيادة (مثلا – زيادة المشاة، المركزية القيادية المفرطة،التركيز على الدفاعات الثابتة، وحرب الاستنزاف لا المناورة، وحتى العقيدة السوفيتية في فن العمليات العميقة تعتمد على اشتباك قوات هائلة من المشاة بنسبة خسارة فادحة تمهيدا لاختراق المدرعات التي تصبح أشبه بمدفعية متنقلة – اقتبسناها بتحوير في حرب 1973 مع ترك تطوير الهجوم في الخطة الأصلية، وحيث حدث التطوير كان خلاف العقيدة القتالية ومهيئاتها، ولهذا فشل بالطبع بشكل كامل..

تلك النظرية السوفيتية هي على خلاف كل النظريات الغربية سواء الحرب الخاطفة النازية، والاشتباك غير المباشر، وصولا للمعركة الجوية الأرضية، لمعركة الأسلحة المشتركة)

الآن لاتوجد عقيدة قتالية مصرية على مستوى العمليات، فقط الوحدات على حسب تسليحها (شرقي – غربي ) تتبع قواعد عمل وتكتيكات معينة.

وأحيانا بعض النثرات الغربية يتم استيرادها لتعمل في منظومة تأسست تاريخيا على فرضيات شرقية.. دون علم وتأهيل حقيقي في الحالتين. أقل كثيرا مماكان في السبعينات وهذا حتى ماأشارت له بعض التقييمات الأمريكية التي احتكت بحرب الخليج 1991 وبالتدريب.

هل هذا بسبب  التداعي الاحترافي الذي صاحب حالة السلم، والذي كان من دواعي – ثم فاقمته بالتأكيد – الأنشطة الاقتصادية للجيش؟

الفريق أول محمد فوزي – رحمه الله – في مذكراته عن حرب 67 ذكر كيف أسهمت حرب اليمن بطبيعتها غير النظامية وعبئها النفسي في ترهل وعدم احترافية قطاعات كبيرة في الجيش المصري.. ماذا يمكن أن يقول هو الآن عن إمبراطورية الجيش الاقتصادية؟!

(نقطة جانبية – هذا الرجل الذي قاد  حروبا، وأسهم مع الشهيد رياض في بعث القوات المسلحة بعد موات حرفي، وكان قائدا عاما ثم وزيرا للدفاع في حرب باسلة – الاستنزاف – لم يأخذ رتبة مشير.. ثم تجد الآن من يحمل الرتبة دون أن يطلق رصاصة في حرب، أو من قبله لم يقد تشكيلا عسكريا فوق الكتيبة في معركة!)

طيب إذا أردت تغيير المنظومة – بأيها تبدأ؟ (التركيب الاجتماعي والنوعي البشري، التركيب الإداري ومنظومة القيادة والمناخ، العقيدة القتالية والفن العملياتي، منظومات التسليح، الرؤية الاستراتيجية وأدوار القوات المسلحة، العلاقات المدنية

العسكرية)؟ أم كله مع بعضه وهذا غير ممكن

وهل يحدث هذا في وقت سلم أو حرب؟ (بمعنى هل عندك مساحة من الوقت دون ضغط الواقع وحاجاته، لأن أي إصلاح في المنظومة العسكرية يعقبه ضعف في الأداء لفترة محدودة قبل استعادة النشاط تدريجيا حين تعمل العناصر الجديدة وتتراكب مع القديمة وصولا لحالة وظيفية متقدمة..

فهي منظومة تتكون من منظومات، وتغيير عنصر يؤدي فورا لآثار إيجابية أو سلبية على بقية العناصر.

system of systems

———————————————————-

المشكلة – أنك لست أمام حالة سياسية بتنوعات في الأفكار والرؤى وتتيح قدرة على النقاش الموضوعي (والأخلاقي) لأي تفصيلة كبرت أم صغرت..ولكن كما سميته في عنوان إيميلك.

مثال – مسألة اللبن.. فالجيش إما منقذ مصر وأطفالها، أو مجرد عصابة مرتزقة.

وأقل القليل من يطرح آراء تعتمد على الاحترافية والعلم أو استفهام أهل التخصص على الأقل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى