Scroll Top
السياسة

هل مايحصل في العراق فورة أم ثورة؟ أليس غياب الضمانة أن يقود الأمر لتغيير حقيقي للأفضل هو تضحية بدماء الشباب؟

وهل المبالغة الآن في الاهتمام بقضايانا المحلية والانشغال بها عائق حقيقي أمام ضرورات تجذر العنصر القومي والوحدوي فينا؟

 

النقطة الأولى) مشكلة محاولة التغيير دون توفر ضمانة لكونه تغييرا للأفضل..فبالنظرة المباشرة، هو بالتأكيد مرفوض، وإن فعل التثوير نظريا يُشترط له وجود قيادة ورؤية وتوفير ظروف مناسبة ودرجة من التحكم في المآلات (وهذا بالمناسبة موجود في الأدبيات اليسارية والإسلامية والقومية التقليدية حول الثورة وشروطها)، وإلا فبطبيعة الحال، أي فعل إنساني ينتج كحال انفجار وتفريغ دون حساب وضبط المآلات، ليس فقط عبثا، أو إهدارا لعزائم الشعوب وتضحياتها (نظرة سريعة فقط لضحايا شعوبنا في مقاربتها لحلم التغيير في العقد الماضي)، ولكن غالبا مايكون النتاج أسوأ كثيرا لأن الفواعل المحلية والإقليمية والدولية الفاسدة تستغل الفراغ الناشيء والخلخلة (مبكرا أو تاليا) لتمرير أجندتها (مصر)، وقد ينهار الوضع بالكلية بعد ذلك (سوريا، وليبيا واليمن..).

والحقيقة، أنا منذ صغري منفعلا وحالما بفرصة الثورة وناقما على أي فعل إصلاحي على أنظمة ركائز بنائها تتناقض مع مانؤمن به من مسائل الوحدة والتحرر والعدالة والرسالة والرشد.. وناقما بشدة على تراثنا الفقهي (السني على الأقل) الذي عادى بشدة مسألة الخروج على حكام الجور. وبالرغم من تحفظي المبكر (استراتيجيا) على طريقة تطور حالات من الربيع العربي انبثقت ذاتيا بالأساس (تونس ومصر)، ورفضي للحالات الأخرى التي ظهر العنصر الخارجي المُغرِض في انبثاقها وتحريكها مع تقديري الكامل (أخلاقيا وسياسيا) لحق الشعب في نقض شرعية أنظمته الحاكمة مهما احتالت بملف المقاومة، إلا أن ماحصل بعد ذلك كان درسا قاسيا.. لم يجعلني بالتأكيد أزهد في فكرة الثورة والتغيير، ولم تضف حتى على وعيي شيء لم يكن موجودا حول اشتراطاتها وطرق إدارة مآلاتها، ولكن أورثتني درجة عالية من التحفظ والتدقيق الشديد في التعامل مع أي محاولة تغييرية للتأكد من وجود هذه الاشتراطات..

بعدها، أيقنت، أنه لو لم يكن عندنا القدرة الاستراتيجية ولو بحدها الأدنى (في وضوح الرؤية، والمسار، والقيادة) لإدارة فعل الثورة في مساحات الحشد والمناورة والتفاوض والتدافع، أو القدرة على إدارة وملء الفراغ الناشيء ليس فقط لتكون المرحلة الانتقالية ضمانة على تحقيق أجندة الحد الأدنى للتغيير وبناء عقد سياسي واجتماعي جديد عليها ويضمن عدم النكوص للاستبداد، بل والحفاظ على درجة وظيفية للدولة أيضا (فلاتنهار كما حصل في حال مصر وأفرز مشكلات هائلة – أزمة سد النهضة مثلا).. أو نحكي على تدمير كامل لسوريا – بعد عقد مما حصل في العراق – وبهذا انتهى الصراع العربي الإسرائيلي- كما عرفناه تاريخيا- لأمد غير معلوم، بانهيار جبهته الشرقية.

حينها حتى تفهّمت بقَدَر، المنطق الذي حكم بعض الفقهاء الأولين – وإن لم يكن كلهم – في هذا الموقف شديدة السلبية من فكرة الثورة (مع مراعاة الفارق الزمني الحاكم على أي خروج أن يكون مسلحا) بسبب مارأوه من مآلات قادت للأسوأ من منظور التكلفة البشرية وقوة الأمة.. ولعل هذا ماأشار له ابن حجر في (تقريب التهذيب) وهو من أهم كتب مايسمى ب(علم الرجال) حين انتقد مسلك المُحدّثين في تجريح من يرى مذهب السيف (الخروج)، وقال (هذا مذهبٌ للسلف قديم، ولكنهم لما رأوا ماحصل في الحَرًّة .. تركوه).. ولكن هذا لايبرر للفقهاء منهجيا تحويل الفتوى المؤقتة وذات الاشتراطات في تحقيق مناطها، لحكما عاما، بل مسألة اعتقادية عن أهل الحديث كما في – العقيدة الطحاوية – (ولايخرجون على أئمة الجور!).

أعتقد أن الفكرة وضحت.. ولكن في ذات الوقت.. جيلي الذي أصابه الإحباط بسبب ماحصل، كان أشد ماأحبطه هو كُفران الشعوب ذاتها بقيمة الفعل السياسي الثوري، ولهذا فماحصل في الجزائر والسودان كان مُبهجا لنا كثيرا، والحقيقة – أن تلك الحراكات صارت أنضج كثيرا مما سبق، صحيح أن مشكلة القيادة والرؤية الاستراتيجية لاتزال، مع وجود تحسن في حال السودان أثر على تحسن المنتوج نسبيا – وجود قوى إعلان الحرية والتغيير-، ولكن كان هناك وعي أنضج كثيرا ربما بفعل التجربة.

أما حال العراق فهو شديد الاختلاف إيجابا وسلبا.. ففقدان العراق منذ عقدين، ومامر عليه من احتلال أمريكي وإيراني، وحرب طائفية مُرعبة، وتفسخ في عرى الوطن وتراجعها تحت نير الطائفية، جعلت تصور ماحصل، وخصوصا أن تهبّ الانتفاضة من المحافظات ذات الأغلبية الشيعة، وضد نظام يتحكم فيه شيعة موالون لإيران، وتستعيد ثانية صفاء الفكرة الوطنية العراقية وتتخاصم بشكل أساس ضد التبعية الإيرانية، فهذا مبهج لنا جميعا بغض النظر عن أي مآل، لأنه ينبئنا لأن شعوبنا لم تمت، ويعيد رسم فكرة التحدي والمراغمة والانبعاث بعد الموت الاكلينيكي! وكذلك – الخروج النسبي للجيل الشاب في بلادنا التي نُكبت بفاتورة محاولة التغيير الفاشلة (وأعني تحديدا في مصر) من حال الإحباط مُلهما بما حصل في الجزائر والسودان والآن العراق.. وهذا له مابعده، حتى لو تم احتواء هذه الموجة.

وأختم هذه النقطة، بضرورة إدراك قيمة  بناء القدرة الحقيقية لتحويل فورات شعوبنا – الحالية والمستقبلة – لثورات حقيقية تُغير واقعنا منهجيا وجذريا.. وإن لم يحصل هذا من نخب ومفكري وذوي رأي هذه الأمة فممن سيحصل؟! ومتى؟!

أما الثانية) وهي التضاد – أو دعينا نقول مقتضى التوفيق – بين المساحة القومية والوطنية في النظر والفعل.. فأعتقد أن تاريخ نضالنا الفكري والعملي أشبع هذه المسألة بحثا على مستوى التنظير، والخبرة العملية إيجابا وسلبا.. من أفضل ماقرأت هو فصل للمفكر (القومي) الألمعي د.جمال حمدان رحمه الله – ونسبتي له فوق مصريتنا أننا أخذنا الدكتوراة من ذات الجامعة بانجلترا مع فارق نصف قرن – في كتابه (شخصية مصر) .. فصل”بين الوطنية المصرية والقومية العربية” وفكرته الأساسية أن بلادنا المحلية لكل منها أدورا محورية نوعية تتكامل في البعث القومي بأبعاده التحررية والوحدوية.

المقصد – أن هناك فارقا بين حضور الفكرة القومية فينا واختمارها، وضرورها بعثها في وعي وضمير ومخيال شعوبنا ونخبنا من اليوم الأول، وبين مقتضيات الفعل السياسي والاستراتيجي، والذي هو عالة على ماهو ماتشكل من مركبات الواقع (لمدة قرن من الزمان) وليس ماهو مأمول ونطمح له.. نفهم حينها سياسيا – أن بناء عقود سياسية واجتماعية تنتصر للديمقراطية والعدالة ولاتُخاصم القضية القومية هو واجب مرحلي أساس (وهذا يشمل حل المشكلات الضخمة في التفتت الداخلي الإثني والثقافي والطائفي في بلداننا بالأساس) قبل الانتقال لوسائط التكتل ماقبل الوحدة الشاملة.. ندرك – درس تجربة عبدالناصر – أن الوحدة، وحتى التكامل بين أقطار، تلزمها أمور أعقد كثيرا من الحلم والشعارات (حتى لو صادقة) وإرادة انفعالية للشعوب، ولكن تقريب مساحات التداخل السياسي والاجتماعي والسياسي والعسكري والمؤسسي، والتركيز الشديد و(التدرج) في تطوير العقد السياسي ومنظومة الحكم ومؤسساته.. (تجربة الاتحاد الأوروبي أخذت خمسين عاما، ولاتزال تعاني مشكلات هامة)..

وأخيرا ندرك.. أنه لايمكن أن نتخيل إمكانية وحدة قبل تغيير سياسي حقيقي في شعوبنا على حدة، لامتلاك زمام القرار السيادي للتحرك يمنة ويسرة.. وكل من بلادنا يعاني عوائق تختلف في مضمونها ونوعها وإن ليس في أثرها (تبعية لإيران أم لأمريكا وإسرائيل؟ انهيار الفكرة الوطنية لصالح طوائف وإثنيات؟ أم العكس- تطرفها على البعد القومي والوحدوي؟ نظام شديد المركزية وباطش وفاسد؟ أم نظام متفكك وفاشل وظيفيا وفاسد بالأساس؟) وهكذا – اختلاف العوائق والطبائع والمحركات، تقتضي اختلاف في المسارات الاستراتيجية ومزاجها ومشاريعها..

وهذا مقال قديم حول هذه النقطة

https://drive.google.com/open?id=0B3R3f5iENLhfTjRCNDdWSUhsbkU

وأيضا محاضرة قديمة

Comments (1)

لفت نظري الاشارة الى حراك السودان والجزائر كباعث لاخراج الحالة الشبيابية -ولو جزئيا- من حالة الاحباط

اترك تعليقا