Scroll Top
السياسة المصرية

 

بخصوص التطورات الأخيرة في أزمة القطاع الصحي و تعامل الدولة بشكل عام مع هذه الأزمة، حقيقة أتساءل بجدية وهو تساؤل كلما أجبت عليه بيني وبين نفسي أو الأصدقاء عاد مرة أخرى: هل تظن حضرتك أن النظام المصري سيستمر بهذا الشكل؟ فدائما  كنت أقول بأنه رغم طرقه الوحشية لكن لديه بعض الذكاء والتأقلم مع المشكلات ولعل ذلك ظهر في أحداث المقاول محمد علي خاصة بعدها، لكن تعامل النظام مع الأزمة الحالية كان شديد الحمق ورغم معرفة أن الأزمة الحالية استثناء في طبيعتها لكن يعود التساؤل نفسه مرة أخرى؟

شوف.. مسألة الفشل الوظيفي للدولة هو موجود في مساحات مختلفة في الدولة المصرية لكن كذلك لاتزال هناك قطاعات أخرى تعمل وبنى تحتية موجودة لكن  حتى لو وصلت الدولة لحال الفشل الكامل، فكثيرا مايحدث أن تكون الدولة فاشلة ويستمر النظام  ولسنين طويلة، وذلك ليس فقط لأن هناك تقبل  إقليمي ودولي له، ولكن الأهم: عدم وجود إعادة توزيع لموازين القوة داخليا بحيث تفرض وضعا مغايرا.

فالتوازن في القوة داخل مصر حاليا، مختل بشدة، أي لايوجد طرف مدني أو حتى غير مدني يمثل قواما سياسيا مغايرا ويحوز على قوة مادية وشعبية، وهذه هي النقطة الأخطر. ومع ذلك – حتى في حالة أحداث مفاجئة مثل موت الرأس أو أزمة مفاجئة اقتصادية أو جيوسياسية –  بما قد يُحدث إضعافا كبيرا في وزن النظام كقوة سياسية فلا يزال هناك غياب للبديل السياسي الذي يستثمر ذلك ويُنمّي مصادر القوة الشعبية ويُفاوض ويحتل مساحات…

وعدم إدراك هذا المنطق والتشبث به مشكل. فعلى مستواي الشخصي مثلا، كنت أحكي كثيرا قبل ثورة يناير، كما في مقال نشرته قبلها بشهر (ديسمبر 2010) في جريدة القدس العربي

https://drive.google.com/file/d/0B3R3f5iENLhfYkJISHFfOWREbW8/view?usp=sharing

، عن وجود أسباب وعوامل مناسبة لحدوث الثورة، وعن منطقها واستراتيجيتها المطلوبة، لكن المشكلة التي أوضحتها حينها كانت عدم وجود حركة وطنية مُعارضة – بمعنى الجبهة ذات حد أدني من الرشد والكفاءة، وتتفق على صيغة ولو مبسطة عن العقد الاجتماعي للدولة الجديدة وأجندة التحول الديمقراطي، وبحيث تتعامل مع الحدث السياسي – أي حدث وخصوصا إن الثورة إن تحصل بمنطق استراتيجي ما وتستطيع أن تُفاوض وتُناور وتملء المساحات، مع التصاق بالأخلاقية السياسية والمصلحة الوطنية العليا.

 ومع ذلك حينما قامت الثورة ظننت أنه بالإمكان حدوث وتخليق ذلك مع الوقت وأثناء الحراك، وأن القوى الموجودة حينها – إخوان وغيرهم – كل المطلوب منهم فقط كان الاتفاق على صيغة ما لإدارة المرحلة الانتقالية بشكل وظيفي معقول ودون سيطرة طرف أو فتح مجال انهيار التجربة والعودة للاستبداد، بحيث تنفتح مغاليق التحول السياسي والاجتماعي اللازمة لنشوء نخبة سياسية جديدة، و تجديد الجماعة الوطنية ، وأنهم بالتأكيد سيكون عندهم حد أدني من الرشادة والوعي السياسي وحتى حُب البقاء لكي لا يرتكبوا كوارث… ولكن كما رأيت – حدث ما حدث..فالمشكلة ليست في بناء السيناريوهات أو حدوث فراغ ولكن المشكلة من يتواجد حينها. ولا ينبغي أن نفترض حول تغيرات غير موجودة دواعيها بشكل تلقائي تبعا لحد أدنى من المنطق عند الأطراف.. مرض منطقة الخيارات والفاعلين الذي ذكرناه من قبل:

Rationalization of strategy> Rational Actor Syndrome>

نعم أنا قرأت سابقا مقالات حضرتك عن الثورة المصرية وكذلك مقال ارتياد استراتيجي لكن أنا أتساءل أكثر عن نقطة بعينها أي السيناريوهات نفسها للسلطة الحالية بغض النظر عن كيفية التعامل مع ذلك، بمعني عند استحضار طبيعة وطريقة تصرف السلطة الحالية هل يُتوقع لها الزوال سريعا كونها شديدة العسف والوحشية وحتى تأثيرها الإعلامي ليس مثلا كنظام عبد الناصر بل النظام الحالي ككل ليس ككفاءة نظام عبد الناصر -رأسا ونظاما-؟ هل يتوقع لهذا الاستمرار أم العكس؟

ورغم  وجود أجهزة تعمل بل وتتطور كما ذكرت حضرتك لكن معظم هذه الأجهزة معروف طبيعتها لكن هناك أجهزة أخرى شديدة الحيوية للدولة –الصحة في مثالنا الحالي- تتخلها مشاكل جمة بل وتزيد، فقد كنت في تصوري الشخصي أرى أن لدى السلطة قدرا من الذكاء كما ذكرتُ سابقا وأن العسف قد يستمر لعقود بدرجة أقسي مما نعانيه بكثير تحت نظم أكثر تخلفا من المصري حاليا ودول أمريكا الاتينية وغيرها بها أمثلة على ذلك لكن أعادت الأزمة السؤال مرة أخرى..

لعل حاليا ما يحضرني كأحد الطرق لمعرفة ذلك هو النظر هل استطاعت السلطة السيطرة وتشتيت مراكز القوى داخل النظام نفسه بما يمنع من حدوث تغيير من داخل الهيكل السلطوي طبعا في حالة وجود أزمة وضغط خارجي مساعد؟ وهل هذا الإنهاء الكامل ممكن  أصلا؟ فهناك العبارة المشهورة rulers can’t rule alone فالحاكم سيظل دائما مستندا في حكمه لمجموعة غيره يمكنهم التأثر عليه وعلى النظام بأكمله  فما رأيك في ذلك?

بالبداية: طبعا متفهم ما تقصده .فهناك فارق بين تقدير سيناريوهات الحالة والظاهرة السياسية وحتى تقدير عوامل تخلُّقها، وبين وبين تقدير صياغات استراتيجية مبدئية للتأثير فيها ودفع الواقع لسيناريوهات محددة. وإن كان هناك ترابط بينهما.. فأثناء وضعك للسيناريوهات مثل هذا المقال القديم في يناير 2017

https://strategic-exploration.org/2017/01/02/egyptscenarios/

 ستحتاج أن تتذكر العوامل المؤثرة التي على أساسها ستحدث وتتخلق هذه السيناريوهات، ولابد أن تشمل على تدخلات ممكنة بغرض تغيير المسار السياسي وإمكانية حصول هذه التدخلات، وبالتالي الترجيح أي السيناريوهات أقرب للحدوث،

ففي كل السيناريوهات الأساسية تبعا لفواعل عامة – سواء استمرارية وضع السلطة في حال احتقان وفشل، أو غياب الرأس، أو انفجار تبعا لأزمة اقتصادية أو جيوسياسية حادة (المياه)، أو تعديل ذاتي جزئي من قِبَل النظام استجابة للأزمات، أو ثورة منظمة – ستجد أن عناصر مثل توازن القوة داخل مركبات النظام ومؤسساته، ومدى تطور ونضج الحركة الوطنية كرشادة ومراجعات ورؤية وقدرة وتعامل استراتيجية وتواصل شعبي – هو مايُساعد في ترجيح سيناريوهات معينة عامة، أو تحوّلات وتتابعات داخل كل سيناريو.

ومع ذلك – عندما ترى التصور بالورقة أعلاه  ستجد أن  ترجيحي كان هو استمرار السلطة. صحيح أن بها درجة كبيرة من الفشل لكن ستستمر. وأن احتمال الفشل الوظيفي الكامل سواء بأزمة جيوسياسية أو اقتصادية..الخ هو احتمال ضعيف، وحتى لو حدث هذا الفشل يمكن للسلطة الاستمرار مع بعض التنازل، لماذا؟ بسبب غياب الحركة الوطنية وأثر حركتها في بناء واستعادة ثقة شعبية ما. وهذا بالمناسبة ما ظهر أثناء حراك محمد علي رغم أن السلطة تتنازل في هذه الأزمات بمنطق التاجر الأرزقي ، وليس وفق رؤية سياسية وتقديرية واضحة.. بحيث تعد مثلا بفتح المجال الاعلامي وغير ذلك في ظل الضغط وعند انحسارها يتراجع .

 

النقطة الثانية :أنه من الضروري فهم طبيعة النظام، والتطورات الحاصلة فيه مع الوقت. وهذا موجود بالورقة وبمقال ارتياد استراتيجي، لأنك لو لم تفهم طبيعته جيدا وبنية اتخاذه القرار وتوزيع مصادر القوة والمنطق الحاكم على مؤسساته داخله كيف يمكنك تخيل سلوكه؟ خصوصا أن لكل مؤسسة ملامحا معينة،  السيسي هو الحاضر ولكنه أعجز بحكم محدودية القدرة البشرية فضلا عن اهتراء تلك القدرة وملهاتها في حالته، والجيش له ملامح وكذلك للمخابرات وأمن الدولة وفوق ذلك كله لاحظ أن داخل هذه المؤسسات قدر عال من الفوضوية في طريقة تشكيلها وأدائها حاليا ولأسباب لها علاقة بالتصفية والتدخل الفوقي العبثي، ودخول عوامل شخصانية كالانتفاع وحب البقاء واختلاط دوائر النفوذ والفعل بينها تبعا لدخولها في مساحات التأثير السياسي والإعلامي والاقتصادي.. بدون إدراكنا لكل ماسبق، أي تكوين النظام المؤسساتي، وطبائعها المتغيرة، ومحصلة كل ذلك التدافع – الذي يغلب عليه اللامنطق أو حال الاتفاق العشوائي وليس المنظمة في محطات الحدث – فلن يمكننا تخيل سلوك النظام ككل بدرجة قريبة من الرجحان.

بالنسبة للجيش مثلا، وبالتحديد الدائرة القريبة من السيسي والتي هي ليست محصورة في المخابرات الحربية حاليا أو تقتصر عليها، وهو غالبا من قد يتبادر له الذهن عند الكلام عن تحرك من الداخل فهو له طبيعة معينة، صحيح أن له بعض الحدود والخطوط الحمراء  فيما يتعلق بالدولة  من نزعة وطنية حاضرة – كما يفهما هو بشكل ركيك وأبوي – ولكن هذا يغلب عليه بطبيعة الحال الطابع الدعائي الأجوف، فضلا عن التحور والتغيير الحاصل به من 2013 في بنيته ونظرته للأمور من تعلق بالسلطة المدنية، واعتياد على حال البطش والتمدد اقتصادي والانتفاع المؤسسي والشخصي..الخ. أمن الدولة كذلك، ليست هي من يدير الأمر رسميا، ولكنها بحكم توريط النظام في سياسة احتقانية وباطشة، توسع دورها فعليا في مساحات مدنية وإعلامية وسياسية، وهي نعم يغلب عليها طابع الفساد والإجرام دون أي مسحة وطنية، ولكنها أقدر على استيعاب المنطق السياسي والآثار الشعبية، فقد تُعطي توصيات في لحظات بعينها أكثر معقولية. أما المخابرات وحتى أجهزة ما كالخارجية وبعض التقنوكراط، ففيها درجة معتبرة من النضج والوعي المؤسسي، وقد تُفوض لمهمة ما خصوصا في حال أزمة، ولكنها بذاتها تم إخضاعها وتصفية قواعد وبنى داخلها.. وهكذا – فمنطق السيسي ثم الجيش حاكم، مع مسحة داخلية عملانية قوية من جهاز أمن الدولة، وظهور ما بين فترة وأخرى لمسحة رشد مؤسسي. هذا هو النظام.

أما ما يتعلق بأزمة كورونا: بالتحديد فأنا أتصور أنها كأزمة وكذلك  طريقة تعامل النظام معاها فعلا لا يقاس عليها، جزء كبير من ذلك لأن:

أولا – النظام الصحي بطبيعته منهار، وكما ذكرت في عرضي لمؤتمر الصلابة المرنة في 2014، يصعب عليك أن تقوم بها في ظل انهيار للبنية التحتية والوظيفية وكنت أحكي تحديدا عن مصر حينها،

Resilience- حول الصلابة المرنة للدولة في مواجهة الكوارث

وثانيا أن النظام يغلب عليه الطابع الحشدي والتجييشي، وبناء صورة ذائفة عن قوة الدولة والنظام. ودائما هناك أطراف يتم توريطها والتضحية والتمثيل بها لغرض هذه الأهداف القاصرة والسقيمة.

ثالثا هذه الأزمة أظهرت فشلا في السياسيات العامة للعديد من الدول بنسب مختلفة لكن كان منها ما هو مفجع من دول شديدة الكفاءة مقارنة بالمصري حاليا كبريطانيا وأمريكا مثلا، حتى ولو بسبب وجود عامل شخصي شديد الشذوذ كترامب وجونسون، وحتى لو اعتبرنا مسألة  أن هناك نسخ جينية – ودرجات متفاوتة من السلوك العدواني للفيروس.

لكن نعود فنقول أن سلوك النظام وهيكلية الأجهزة وطبيعتها بحيث ان تقول هذا النمط  يغلب ان تتدخل المخابرات فيه وهذا النمط أقرب للجيش أو رأس السلطة مباشرة، في الحقيقة في أغلب الأمور لا توجد سياسة واحدة وانما يتم التعامل بطريقة مواقفية طبعا للتوازن الحاصل في منظومة اتخاذ القرار وكيف يتماس ملف ما مع هذه المنظومة …وعندما نقول منظومة فلا نعني

system

 وانما الشكل العشوائي للمنظومة والذي تمت نشأتها وترتيبها  بطريقة

personalized

بحيث تُخدم المصالح الشخصية سواء رأسيا أو أفقيا –:دينامكيات داخلية-ـ كمثل ماتحدثنا فيه من قبل

مقال: ارتياد استراتيجي لواقع مصر الكسيف

فالخلاصة أن النظام الحالي مستمر وأن الأزمات الكبرى التي فيها تهديد لفكرة الدولة المصرية  ذاتها  غالبا ما تجد الخط العام –لمؤسسات الدولة وكذلك الشعب- يؤيد الخط العام للنظام وهذا ما حدث في 2013 والكارثة التي وقع فيه الإخوان بحيث استخدموا سلوكا وخطابا هو بالضبط يعزز من عنصر القوة في الخطاب الحشد والدعائي للنظام حول فكرة حماية الدولة وسط إقليمي تنهار دوله المركزية. …

وأخيرا لا ننسى دائما أن للنظام قدر من الذكاء الطبيعي بحيث يتراجع مع الضغط، صحيح أنه لا يفعل ذلك بمعنى المراجعة السياسية بل يتراجع بما يسمح له باستعادة الوضع السابق إلا أنه ينجح في ذلك خاصة وهذا سيكون دائما جانبا لابد من فهمه أن الأطراف الأخرى تساعده على ذلك بما فيها من ضعف وتفكك وأزمات وغياب للمراجعة الوطنية والأخلاقية. ودون المراجعة الجذرية تلك واستعادة حد أدنى من الأخلاقية والرشد السياسي والوطني، فضلا عن الوعي والقدرة، ستبقى المعارضة عاجزة عن تخليق مكونات سياسية جديدة للهبوط ثانية على الشعب، وبناء أطر جبهوية تتعاطى مع الحالة الشعبية بقدرها لأجل اكتساب ثقة متدرج لها وفق استراتيجيات تصعيدية وتفاهمية، احتجاجية أو تنافس على المساحات.

اترك تعليقا