Scroll Top
السياسة المصرية

https://www.raialyoum.com/index.php/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d9%85%d9%87%d9%8a%d8%af-%d9%84%d9%84%d8%aa%d9%87%d8%af%d8%a6%d8%a9-%d8%a8%d8%a7%d9%84%d8%af%d8%a7%d8%ae%d9%84/

في حديثنا بالمقال  المنشور على هذه الجريدة الغراء (التقارب المصري التركي :ديناميته، وهل يُقدّم فرصة للتهدئة الداخلية بمصر)، وقبل تناول مُفصّل لموضعة التهدئة ضمن استراتيجية استعادة الحراك السياسي بمصر ومعادلاتها الممكنة تبعا لمواقف الأطراف منها، يظهر سؤال جوهري عن فواتير الدم التي تسببت بها المحنة التي تعيشها مصر منذ يوليو 2013، وبالأخص – في ظل التحشيد المتضاد لمؤيدي النظام ومؤيدي تحالف الإخوان.
وبالتأكيد أن المراجعات المطلوبة من جميع الأطراف قد تتناول كثيرا من الجوانب الفكرية والتقييم السياسي الإجمالي لمسارات مابعد ثورة يناير. ولكن تبقى فاتورة الدم حجرا عثرة أمام أفكار التهدئة ومحاولات طي النزاع الداخلي أو تقليله عوارضه الحادة – خصوصا تلك المُلحة وتتمثل في عشرات الألوف القابعون تحت السجن التعسفي وأضعفاهم من المنفيين قصرا وأُسرهم تحت المعاناة، وما يُقابله كذلك من وضع شاذ لمُعارضة يتناقض مع الأصالة الوطنية وروح النزاهة وقد تتورط على هوامشه نفسية تُشرعن العنف فضلا عن ممارسته.
وللتعامل المنهجي مع هذه القضية الحرجة – ليس فقط لمسألة التهدئة – ولكن لتقليل الاحتقان الذي يقضم من وحدة الوطن وأبنائه ومستقبله السياسي، يلزمنا الحديث في نقطتين: التحليل السياسي والأخلاقي لمدى مسئولية الأطراف عن فواتير الدماء تلك، ثم منطق وأدوات العدالة الانتقالية.

أولا) بالرغم من المسئولية السياسية الرئيسة، والجنائية في أغلب الأوضاع، لنظام مابعد 3 يوليو عن دماء آلاف الشهداء في المظاهرات والفعاليات المختلفة ، وهذه مسألة محسومة.. وهذا حتى بالنظر لتقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان التابع للدولة – فأغلب من قُتِل كان من المدنين العُزَّل وبالرصاص (العشوائي) للشرطة – بنص التقرير. ولكن كذلك – فإن طرف الإخوان وتحالفهم له مسئولية مباشرة:
ليس فقط بالمعنى السياسي بخصوص التجييش الهستيري للشباب وتصويرهم للمعركة أنها بين الحق والباطل والإسلام والكفر أو للشرعية الديمقراطية (وكلها صياغات غير صحيحة وليست صادقة) ودفعهم لهذه المعركة والاستشهاد فيها دون أفق سياسي واضح – سوى الاتكاء على انشقاق للجيش أو تدخل خارجي – وكلاهما لم يكن مُحتملا حصوله وهو بحد ذاته جرم وطني وأخلاقي حتى بتحققه.. وبخصوص رابعة والنهضة تحديدا، فكان هناك علم مسبق بالفض، ولكن بدل كشف هذا الأمر وتبعاته بجلاء للآلاف المعتصمة، فاستمرت وتيرة الشحن والتجييش حتى النهاية.
لكن أيضا بالمعنى الجنائي، فوجود سلاح في تظاهرات سلمية، ثم في اعتصامات بعد ذلك، هو جرم بالتوصيف المباشر والأخطر بما يقود إليه. بمعنى – أحد الأصدقاء سألني قبل الفض بأيام قليلة، عن نسبة الخسائر المحتملة. فأجبته: بالنظر لطبيعة الاهتراء الاحترافي لقوات الشرطة (نعم.. الجيش كان في خلفية الفض ولم يقم به فعلا!!) وعدم قدرتها للتعامل في فض التجمعات الشعبية، فكل قطعة سلاح موجودة وسط المدنيين، ستتسبب في عشرة قتلى، وهذا دون اعتبار عنصر الانتقام الموجود في نفسية الشرطة حتى.
فضلا عن التعمد في الاستمرار بسياسة الخروج من الاعتصام ليلا لغلق الممرات الحيوية للعاصمة، وهي التي استدعت قرار الفض بالأصل.

ثانيا)، فواتير الدم يُقصد بها كذلك تلك الخاصة بالأطراف الأخرى – غير تحالف الإخوان! سواء القتلي والإصابات جراء مظاهرات حلفاء الإخوان منذ 30 يونيو (وهناك توثيق معقول لها مثلا في موقع ويكي ثورة)، وكذلك تلك الخاصة بقتلى الشرطة في عمليات الفض والتعامل مع التظاهرات، ثم نتاج الإرهاب البدائي والمتوسط الذي قامت به أجنحة ارتبطت بهذا التحالف (بدءا من العمليات النوعية ثم المقاومة الشعبية، والعقاب الثوري،،،، وصولا لحسم).. وكل هذه مسئوليات جنائية وسياسية مباشرة.

لاننس كذلك فتوى القصاص التي قدمت شرعنة له، وغفلت عن أبسط قواعد النظر الشرعي أن القصاص (هم حكم قضائي ينطلق من مركزية الحفاظ النظام العام، والتحقيق في أدلة الأقضية كل على حدة، ولا يمكن أن يكون إفتاء حتى بشرط نزاهته وعلميته!)
ثم لسنين نفى تحالف الإخوان – وكثير فعلا من مؤيديهم كانوا مقتنعين – أن الإخوان لم تنخرط منهم مجاميع في نشاط مسلح. وأذكر حوارا لي مع أهم قيادة إخوانية حالية – في ديسمبر 2016 وحينها بالمناسبة طلب مني ورقة عن التهدئة نشرتها تاليا في مدونتي الخاصة. سألته: متى علمت أن مجاميعا من الإخوان سلكت هذا الطريق. قال لي في أواخر 2015! فأجبته: أنا االذي أعيش بالغرب وكنت أنزل مصر زيارات عابرة – قبل حرماني من زيارتها- علمتُ في فبراير 2014. ومع ذلك بقي يُعلن أن جماعته بعيدة عن الأمر.. فقط في النزاع الداخلي وضرب  مايُعرف بتيار (المكتب العامة) والضغط المادي على المكاتب الإدارية المتمردة (بما في ذلك بالضرورة من الضغط غير الشريف على آلاف الأسر التي يغيب عنها عائلوها وتحتاج للدعم) كانوا يستدعون هذا الملف.

وحتى الإرهاب الاحترافي في سيناء والوادي، سواء الدعم النفسي له، أو تمييع محاربته – عبر التأكيد لسنوات طويلة في مخالفة لأي بدهية وعي سياسي أو أخلاقية أنه من مسئولية النظام الجنائية. نعم – النظام بالتأكيد له مسئولية ضخمة عليه بالمعنى السياسي – تبعا لفاتورة الاحتقان والظلم فضلا عن فشله في محاربته وارتكابه جرائم حرب!، ولكن هذا التوصيف المعتوه عن أنه من يقوم به مستترا هو بحد ذاته – بالإضافة لبقية عناصر هذا الخطاب – جريمة مؤسفة حتى في حق البناء الإدراكي للجيل الشاب- نلاحظ أن الملايين من متابعي خطاب تحالف الإخوان استمروا لسنين يصدقونه بتسليم وفجأة اختفى دون تساؤل كذلك!

كل ماسبق، لا أقصد به (التسوية) بين كل الأطراف في مسئوليتها عن كل أنواع وحجوم الدماء! بطبيعة الحال، النظام بمصر له المسئولية الأكبر بالمعنى السياسي على العموم، والجنائي عن دماء آلاف الشهداء المدنيين في التظاهرات والاعتصامات. ولكن التأكيد – أن هناك (اشتراك) لمعظم الأطراف – وبالأخص الإخوان وتحالفهم – في نصاب الدم هذا، وأعني كذلك كل أنواع الدماء.

فضلا، أن فواتير الدم تلك ليس مقصودا بها فقط التي حصلت بعد 30 يونيو 2013، ولكن منذ 25 يناير 2011.. بكل مسئولياتها السياسية والجنائية، والتي تُغطي كذلك سنة حكم الإخوان.

ثالثا) وهنا نأتي لمسألة (العدالة الانتقالية)..و هي تختلف عن العدالة (الناجزة).. وهذا حتى كنا نقوله في 2011 و 2012 – حين كانت هناك مسئوليات جنائية وسياسية واضحة لنظام مبارك ثم المجلس العسكري، وحين كان شبابنا الذي استُشهد لم تُغرّر به هلاوس تمكين تنظيم، أو تحشيد زائف لحرب على (الدين)، أو المقصد كان استعادة سلطة ضائعة. وحين كانت موازين القوى – وهذه أهم نقطة – لصالح الحالة الشعبية إذ أننا كنا في أعقاب ثورة، ومرحلة انتقالية وتيار شعبي جارف، وفشل النظام وتوابعه في كل الانتخابات.

وأذكر حينها تصريحا للقيادي الإخواني (محمود غزلان) حول المصالحة مع النظام فيما يتعلق بجوانب القصاص. وعلقت في وقتها: أن العدالة الانتقالية لا مناص عنها ولكن لها منطق وظرف شديد الاختلاف.
وسأعود لهذه التصريح وسلوك الإخوان مع الملف بعد تناول العدالة الانتقالية.

في حالات الفوضى الأمنية والحرب الأهلية، و فترات من التحول الديمقراطي من نظام ارتكب انتهاكات حقوقية جسيمة.. يكون من الصعب الوصول لعدالة ناجزة.. لماذا؟

1- لأن تشوه أدوات التحقيق واهتراء الأدلة العدالية، وطبيعة السلوك العملي للمؤسسات الأمنية في عدم توثيق كثير من أوامر التصفية، يجعل هناك صعوبة بالغة من التحقيق العدالي بالمعنى الجنائي. يُمكنك أن تحدد بسهولة المسئولية السياسية (أوامر الفضّ) ولكن صياغاتها دوما يُدفع أنها ضمن سياق القانون بمبادئه الخاصة بتناسبية القوة مثلا. ويكون أصعب أن تُحدد من أطلق فعليا الرصاص (العشوائي) أو الانتقامي وتمييزه عن الاستخدام المشروع له.
وإن كان هو ليس مستحيلا في كل الأحوال، ولكن صعب.

2-  ليس فقط أن هناك صعوبة في تحقيق العدالة الناجزة.. بل إن ثمن تحقيقها لن يتحمله المجتمع، إما بسبب حجم ضرر كبير في بنيته وسلامته، أو تفويته لمصالح ضرورية لبناء نظام سياسي وعدالي مستجد.. بمعنى:
أ. إذا تتبعنا فعليا كل المسئوليات السياسية والجنائية – بما فيها مجرد التحريض على وسائل التواصل الاجتماعي – في كل ماسبق تناوله من فواتير الدماء، فستكون فاتورة القصاص مُرعبة وتهدم تماما بنية المجتمع وسلامته.. فضلا – أننا نحكي عن مؤسسات وكيانات ذات تجذر وشعبية واسعة .. (الجيش، الإخوان، الشرطة، أحزاب مدنية، وحتى أطراف إقليمية).
ب. غالبا تُطرح العدالة الانتقالية في وضع به تصادم إرادات وموازين قوى، وحال تحول ديمقراطي واجتماعي.. فيتم الضغط بملفات فواتير الدماء والانتهاكات على الأطراف المعنية لتنعيم ممانعتها ضد خيارات وآلات استعادة الديمقراطية، والأخطر التحول في مؤسسات الأمن والعدالة لضمان عدم تكرار الانتهاكات تلك.

رابعا) ولهذا تًحاول منهجية العدالة الانتقالية أن تُقارب وتوازن بين ماسبق.. لأنه بوضوح جلي، لايُمكن لمجتمع أن يتحرك للأمام، وهو مُعبّأ بفواتير الدم والانتهاكات تلك.. وحتى نحن كبشر لنا تركيب أخلاقي ونفسي محدد، لايُمكننا أن نعيش حياتنا مع تلك الغُصة – خصوصا لو كان الشهداء لنا بهم صلة القربي الشخصية أو في القضية والمبدأ. وهذا مقصود الآية الكريمة في ربط (الحياة) ب (القصاص).

العدالة الانتقالية ترتكز على ثلاثة نقاط جوهرية:

ا-  ظرف عام يرتبط بتغير موازين القوى.. أي حصول ضغط واسع تُجبر الأطراف المعنية على المُضي فيها (الحرب الأهلية في لبنان مثلا بإفلاس الأطراف والضغط الذي حصل على المارون وكذلك حزم الضغوظات والترغيبات التي قدمتها الأطراف الدولية والإقليمية الراعية)، ومثل الأمر حصل في كل التجارب : أيرلندا الشمالية، جنوب أفريقيا، أمريكا اللاتينية.

2-  لجان تحقيق واسعة ومحايدة، لاستجلاء أكبر ما يُمكن الوصول له من سلسال الحقائق. ولابد أن يتمثل فيها ليس فقط العنصر القضائي والحقوقي، ولكن تمثيلا واضحا لكل أطراف الدم مُجرّدين عن صلاتهم السياسية والحزبية. أهم ركيزة في العدالة الانتقالية هي مساعدة المجتمع لاكتشاف الحقيقة وأن هذا – ليس فقط مهما كوفاء للشهداء – ولكن تقديم فرصا للندم والتوفية العدالية والعقابية.

3-  ولهذا، فلابد أن تتحرك العملية على تشريع توافقي يضع في الأخير أكواد مخففة للعقاب، إلا في أحوال يكون فيها الجرم واضحا بتلبس وقصد كاملين، وتفتح مساحة أوسع للمصالحة على قاعدة التبادلية والقبول بتغييرات هيكلية في بنية النظام السياسي والعدالة وإصلاح أجهزة الأمن وتطوير العلاقات المدنية العسكرية.. وهذه هي الثمرة الحقيقية.

ولهذا -نفهم هنا، لماذا تصريح القيادي الإخواني في أوائل 2012 كان خاطئا.
لأنه لم يطرح تلك المنهجية القائمة على التحقيق، وأولوية العدالة كفكرة وخصوع – حتى إن لم تكن ناجزة، ولم تأتي في معرض تفاوض لإعادة تعريف موازين القوى ولصالح تنحي المجلس العسكري مثلا عن السلطة والقبول بتغييرات هيكلية في جهاز الأمن وعلاقة الجيش مع الدولة الناشئة كنسق دستوري ووظيفي.. .

نقطة جانبية – سلوك الإخوان مع هذا الملف عموما كان شديد الانتهازية، وأنا لن أحكي عن مجمل تعاملهم مع الملف بدءا من موقفهم مثلا من أول تعدي يقوم به الجيش في حادثة ضباط 8 أبريل 2011 والمظاهرات التي حصلت ردا على ذلك وسقط فيها ضحايا وحينها قام الإخوان وحلفاؤهم بمليونية (الجيش خط أحمر – لا للوقيعة بين الشعب والجيش) في تزييف لمحورية عامل الدم، فضلا أن خلافنا حينها لم يكن مع الجيش ولكن المجلس العسكري وفي مسئوليته السياسية عن المرحلة وليس حتى كقيادة عسكرية، مرورا بالمواقف من ماسبيرو ومحمد محمود والعباسية ومذبحة بورسعيد 1 و2 وقانون التظاهر..
أنا سأحكي عن موقف في التكييف القانوني والسياسي للأمر.نظام الإخوان استغل مثلا أحكام البراءات في نوفمبر 2012، ليصد ر الإعلان الدستوري الكارثي الذي هدم السلطة القضائية وجعل الرئيس حاكما بأمره، وكان العنوان الأبرز حينها: تحريك منظومة عدالة ثورية للقصاص.. الغرض الحقيقي بالأساس كان منع المحكمة الدستورية من نظر شرعية جمعية الدستور، وبالفعل – حين تم تأجيل نظر المحكمة للقضية تحت ضغط الإعلان ومظاهرات الإخوان التي منعتها من الانعقاد ولكن بضوء أخضر من الجيش كما أظن، تم التراجع عنه خصوصا مع الضغط الشعبي المفاجيء في أحداث الاتحادية.
وحين نظرت المحكمة القضية بعد الاستفتاء، خلصت لبطلان شرعية الجمعية التأسيسية، ولكن إهدار ذلك تحت اعتبار الموافقة الشعبية على الدستور بما لها من قيمة حاكمة. وربما كان هناك عنصر سياسي في موقف المحكمة بالنظر لتأييد المجلس العسكري له.
لكن النقطة الأهم هنا، هي أن العنوان الذي تحركت له كل هذه الجلبة (محاكمات ثورية) فجأة اختفى. ولم يتبق منه إلا تعيين محامي عام موالٍ (تغاضى عن تحريك قضايا ضد انتهاكات عناصر إخوانية قامت بتعذيب أفراد عند قصر الاتحادية واشتركت في العنف وفاتورة القتلى حينها)، وكان أحد أهم أسباب وأدوات أزمة ماقبل 30 يونيو.. وفي رأيي – تسبب حتى توهين الشرعية السياسية للنظام في مفصل هام كاستقلال القضاء، بالإضافة لنقاط جوهرية أخرية. فالعبرة في الأخير هي السعي لاستقلاليته على الحقيقة (خصوصا مؤسسة الادعاء) وليست أن تكون موالية وبتعيين الرئيس! أي استبدال تبعية بأخرى!

والغرض من ذكر ماسبق، ليس في التوهين من قيمة الشهداء الذي سقطوا من هذا التيار قطعا، ولكن للاحتراس أن قضية العدالة والدماء والقصاص كثيرا ما يتم توصيفها وتوظيفها بشكل غير رشيد أو صادقوهذا ضرره الأخلاقي بمثل ضرره السياسي على مصلحة البلاد والعباد !

إذن، باستعراض كل ماسبق، نفهم أن هناك متطلبات وجودية لتحريك مشروع للعدالة الانتقالية غائبة بالأساس.. ونحن الآن كما أشار المقال السابق، في مرحلة بدائية للغاية.. فقط لنزع فتيل الأزمة الاجتماعية والإنسانية الخانقة، وفتح بعض النوافذ في الحال السياسي العام.
والحقيقة – أن الظروف في ديسمبر 2016 – حين كتبت ورقة التهدئة (وكانت بطلب أهم قيادات الإخوان بالمناسبة، وأوصلتها عن طريق وسيط كذلك للنظام) – كانت أفضل كثيرا مما هي عليه الآن.. حتى باعتبار النقطة التي ألح عليها هذا المقال من استعادة التقارب التركي المصري الناشيء لفرصتها ولو بدرجات أقل.
وكان رأيي حينها ضرورة المراجعة السياسية قبل المصالحة والتهدئة الجذرية تلك، والتجريم الصريح للإرهاب (وبيان الإخوان الأول من نوعه في إدانة الحادثة الإرهابية بحلوان بعد ذلك ثمّنتُه -ولكنه لاقى نقدا حدا من أتباع هذا التيار)، لأنه بدون التخلي عن الصورة الملائكية للذات والمشيطنة للخصم عند تيار الإخوان، فأي حديث من قيادته على التهدئة سيدفعهم للتشنج والتخوين، ولكنه حينها رفض كلية فكرة المراجعات، وأنه فقط مهتم بالتهدئة مع النظام. وبالفعل، بعد حديثنا بأيام- بمجرد أن أشار عرضا لفكرة التهدئة انقلبت عليه الدنيا، فتنصل منها.

ولكنه هاهو يعود لفكرة التهدئة الآن بكل ثقة ووضوح، مع تطوّر السياق المُشار إليه سابقا والدعم التركي، وهذا بالتأكيد شيء مُثمّن ما وُضع الدور التركي فقط في مستوى الوساطة –  وإن كان في ظرف أقسى كثيرا على مصر وشعبها، وأقل ضغطا على النظام من 2016! وسيكون حديثنا المرة المُقبلة – بإذن الله – مستكملا لطبيعة التهدئة وأُطرها المُقترحة.

ذات صلة

خارطة طريق للوفاق الوطني بمصر

مقال – التقارب المصري التركي – ديناميته، وهل يقدم فرصة للتهدئة الداخلية بمصر؟

ورقة عن التهدئة والوفاق الوطني – ديسمبر 2016

Comments (6)

حضرتك كدا يا دكتور منطلق في مبدأ العدالة الانتقالية من منطق الدولة و القانون و النظام القائم و ليس من منطق الثورة او حتى “المنطق الاسلامي” الجهاد و خلافه
يعني حضرتك بتصف الافعال بعين القانوني رجل الدولة المفاوض كوسيط بين السيسي كنظام و الاخوان و باقي التيارات العاملة كحال وصلنا له صار فيه السيسي مهيمنا هيمنة كاملة محق فيها كل أعداؤه و كل ما يتمنوه سيحصلون عليه إن حصلوا من السيسي كعطاء بعد تضييعهم كل اوراق القوة الضاغطة
اتفق مع حضرتك في هذا التصور بشكل كبير
لكن هل السيسي من الاساس مستعد للتفاوض مع المعارضين ناهيك عن الاسلاميين؟
وهل حاجة التركي للتهدئة الداخلية بين السيسي و الاخوان كبيرة لهذه الدرجة التي تجعل من السيسي يتحول من التعامل مع الإخوان على انهم ملف امني فقط إلى انهم طرف يمكن الكلام معه و الجلوس معه على طاولة ناهيك عن التفاوض و الاخذ و الرد ؟!

لا بالعكس! لاحظ أن هذه المساحات ليس بالضرورة من طبعها التناقض والإحلال.
بالتأكيد هناك مساحات كثيرة غائمة ومُلتبسة بسبب جمود تطور الفقه السياسي لقرون، وتراكمات لأطنان من الأسئلة والتجديدات المُعطلة – وللمفارقة – هي في ذات ماسألت:
أ. مسائل كعلاقة القانون بالشريعة، ومفهوم الشرعية، وفكرة الدولة الوطنية وإطارها المدني وعلاقته بمرجعية التشريع.. هذا في ملف البناء التشريعي والدولة.
ب. مسائل كالخروج المسلح والتباين بين جوانب الثورة والنسق الدستوري، وعلاقة ذلك بالنظر الاستراتيجي وليس فقط الحُجية القانونية والشرعية .. في الملف الآخر)

وأدعوك بداية – لمراجعة مقالين حول كلا الجانبين:

في نقد التغيير المسلح

الشريعة والقانون

ولكن كإجابة مباشرة عما طرحت، فأجيب كالتالي:

1- بالمنظور الفقهي، فمسألة الخروج المسلح على الظالم كما تعلم هي ذات جدل تراثي كبير. ولكن رأي المُجيز لها يبنيه على الحساب الدقيق للمصالح وبالأخص الضرر، وإلا صار مُحرّما – ووجود عارض التأهيل فيه قد يرفع الإثم الأخروي – بشرط صدقية هذا التأويل واستنفاذ عنصر الاجتهاد، ولكن تبعاته القضائية تبقى مُرتبة عليه، والأمر التطبيقي مداره في الأخير على نظر القاضي والإمام.
أنا أعطي لك أوضح مثال/ وهي وقعة كربلاء، فلا يُمكن مقارنة صفاء الغاية والشرعية السياسية لخروج الإمام الحُسين – عليه السلام – بما نحكي فيه. ومع ذلك – فحين تبينت له موازين القوى والترجيحات، ليس فقط توقف عن الخروج المسلح (طلب منهم فقط العودة لبيته)، ولكنه أخلى الجميع من بيعته. ولكن ثباته وقتاله عن نفسه حينها لم يكن منه بد لأنهم قطعوا عنه طريق الرجوع وأجبروه أن يُسلم. فيكون قتاله وصحبه الأخيار حينها خارج التكييف الفقهي تماما للخروج المسلح، ولكن رد الاعتداء بما (ما ليس منه بد غير القتال!).
ولكن كما أسلفت في مقال (نقد التغيير المسلح)، فما انحزت له في سنيني الأخيرة، هو التحريم – كإفتاء زمني – لمجمل حال الخروج المسلح – لكل اعتبارات الجدوى وغياب الشرعية السياسية ونضج القوى وإشكاليات الدولة الحديثة في التجنيد الإجباري ووجود منطق مغاير لفكرة الشوكة القديم والتركيب القبلي العسكي!
طبعا – ليس من نافل القول الإشارة لموقف جمهور الفقهاء المانع، دون مبالغة. وأذكر أن أهم قيادة شرعية إخوانية كتب مقالا بعد ثورة يناير بشهور قليلة اسمه (منهج الإسلام في مناصحة الحكام) وحينها ادعى أن (الإسلام) يقول بتحريم الخروج على الحاكم الظالم!! هكذا! وهذا ساقط بالطبع بأي معنى أصولي أو اخلاقية سياسية. ولكن كذلك يُنبيك عن طبيعة اللعب في بنود الشريعة على حسب الهوى السياسي!

2- الجل الغالب في مظاهرات الإخوان في يونيو 2013 وماتلاها كانت سلمية بالطبع، وهذا مايجعلنا بوضوح – كما أشرت بالمقال – نجزم بالمسئولية السياسية وأغلب الجنائية للنظام. ولكن كما ذكرت كذلك، فهناك مسئوليات يتحملها تيار الإخوان في شركة الدم، حتى في هذه المظاهرات، لاتنفي المسئولية الأصيلة للنظام بكل تأكيد.
ولا بد أن ننتبه، أنه حتى الخروج السلمي، له جدوى ويُلزم القادة بتدبر حسابات المكسب والخسارة وفاتورة الدم. وقد تأتي قيادات للأسف الشديد تُغامر بشبابها في محرقة لهدف سياسي – عليه طعون في الشرعية السياسية بأقل تقدير، ودون جدوى تجريبية، واتكاء على احتمالات بعيدة وساقطة أخلاقيا لو تحققت.
هل هؤلاء يخرجون من المحاسبة لا لهم ولا عليهم؟!
أذكر حوارا لي مع أحد القيادات الوسيطة في 2015 على ما أذكر. وكان مسئولا عن الحراك في محافظة كبيرة. وسألته، ألم تنتبه أن نفس ال Pattern
يتكرر في هذه المظاهرات: حشود سلمية وبينها قطع معدودة للسلاح، فيحصل اشتباك مع قطعان الشرطة والبلطجية، وقائمة تالية من الشهداء.. ألم تسأل نفسك – أليس من يتخذ القرار يُريد بفاتورة الدم شيئا؟! وأعني الفاتورة ذاتها لأنها مُحققة بلامحالة، ومسلكه في المتاجرة بها واضح وجلي؟
قال لي: منعت نفسي أن أفكر، لأن نتيجة التفكير ستكون سيئة!

أنا أذكر أول بيان من قيادة الإخوان هنا بلندن يأتي بعد دقائق من مذبحة الحرس الجمهوري، وكل البيان عن قتل المصلين، وأنه لابد من عودة مرسي!
في حين أن الانحياز الأخلاقي والشرعي – وحتي السياسي الرشيد كان لابد أن يدفع الخطاب لمنطق آخر تماما أمام هذه الفجيعة.

أختم هذا الملف (الجهاد والنظر الشرعي فيه) – أن هناك خطايا تم ارتكابها من قبل تيار الإخوان، وبالتأكيد ففكرة الخروج المسلح مرفوضة بشكل كامل، والتأول الفاسد فيها قد يُنجي صاحبه كديانة، ولكنه لا يقود لتحلله من المسئولية القضائية.
نعم – ذات النظرة تقول بأن أطراف النظام لها مسئولية أكبر كثيرا، فحتى لو ترتبت موازين القوى وساد منظور عدالي واحد – وهذا غير حاضر كما أشرت، ومع كل تعقيدات العدالة الناجزة المذكورة سابقا، فدرجة من العدالة الانتقالية والتسويات والمصالحة مطلوبة ، خصوصا لو ارتبط بها تحقيق مصالح عامة في تحقيق مقصودات الدولة الراشدة والنظام العدالي الأمثل.

أما مسألة الثورة في مقابل النظام الدستوري والعام والدولة، فهذه مسألة معقدة، تناولناها كثيرا بُعيد يناير 2011..
وهي تعتمد على عناصر:

1- مدى شرعية النظام السياسي القائم، فلو النظام شرعي بالكامل، ففوقيته الدستورية تبقى حاضرة.. حينها، تكون أي محاولة (تثويرية عليه) الأصل أن تكون باطلة (بمبدأ المشروعية – أي آثاره القانونية)، إلا إذا صنعت شرعية سياسية جديدة. وهذا ماحاولت أن تفعله ثورة يناير ولكنها فشلت. هي أسقطت رأس النظام، ولكنها لم تنشيء عقدا اجتماعيا مستجدا، يتم ترميزه كوديا في الدستور وتنشأ عليه سلطات ومؤسسات دولة مستجدة.
بل انظر إلى كم (العكّ) في هذا الباب، دعك حتى من الانتهازية والسقوط الأخلاقي وشق الصف المدني والشعبي إلى غير رجعة، الذي حصل.
تسليم الحكم للمجلس العسكري (وهذا يخالف دستور 71)، وقبلت به القوى السياسية، والذي قام بتشكيل لجنة لتعديل هذا الدستور!! بمعنى أنه لايزال يقر بحاكميته،
واستفتاء مارس (غزوة الصناديق) قال نعم للتعديلات
ولكن المجلس أصدر إعلانا دستوريا مغايرا – استبدل به دستور 71 بما يعطيه حق إدارة المرحلة الانتقالية ويستدعي انتخابات برلمان ورئاسة قبل صنع دستور جديد يضع إطارا مستجدا للدولة بحكم الشرعية!! وقبل بذلك المؤيدون والمعارضون أيضا! :))

وبالتأكيد نظام مابعد 3 يوليو فاقد للشرعية السياسية، مع أن له غالبية من التأييد الشعبي. ولكن كذلك نظام الإخوان كانت فيه ثلبات كثيرة في باب الشرعية السياسية لكل الاعتبارات الأصيلة والطارئة (أي تلك التي حكمت على شرعية النظام السياسي الناشيء تحت ظل المجلس العسكري، أو تلك التي تسبب فيها الإخوان أنفسهم في مسائل كالدستور وسلطة القضاء ومخالفة الإعلان الدستوري لأغسطس 2012 فقط لتمتين هيمنة الفصيل، والسلوك السياسي ذاته، وهامشية نسبة نجاح مرسي في الانتخابات هذه تعطي له درجة محدودة من التفويض الشعبي لكسر البنى النظامية والحركة السياسية!، وهكذا).

2- حالة الثورة – حتى لو لها أساس شرعي المعنى السياسي والأخلاقي – إذا عجزت عن القيام بثورة حقيقية، وعجزت عن نقض النظام العام.. فليس لها قيمة في صنع إطار تشريعي مستجد.
من مقصود الشريعة في الباب السياسي هو الحفاظ على النظام العام.. وستجد هذا المقصود متنزلا في كثيرا من مواقف الفقهاء قديما بالمناسبة.
مثلا – إقرارهم بانطباق الآثار الشرعية والحقوقية الناتجة عن عقود في دول الخوارج. والقبول بمشروعية (صحة الولاية والأقضية والتشريعات) أنظمة الجور.. أما شرعيتها فعليها خلاف مرتبط بمسألة الخروج. ولكن حتى من يجيز الخروج – لم ينقض مفهوم المشروعية السابق، وبالإضافة لهذا – ربط الخروج بالمصلحة والجدوى كما ذكرت.

وعلى هذا — فالأصل هو بقاء درجة من الشرعية الوظيفية (هيمنة النظام العام) والمشروعية حق إصدار القوانين وسلامتها — بشرط موافقتها لقطعيات الشرعية والعدالة بالطبع، ماعجزت الثورة أن تتجلى لحالة وظيفية لإسقاط النظام.

ستقول لي مثلا، ولكن قانون التظاهر مثلا، أو قرارات فض الاعتصامات (حتى بانضباطها التشريعي والشُّرطي) هي غير عادلة. نعم بالتأكيد. ولكن لاحظ بالمناسبة – أن قانون التظاهر الذي الذي كان مشروعا لمجلس الشوري الذي كان يسيطر عليه الإخوان – كان أسوأ من القانون الذي صدر في عهد عدلي منصور!
نعم أخي.. هكذا هي السياسة المنحطة حين تدار في معزل عن الإرادة الشعبية الحقيقية ولكن بمنطق الاستئثار والغلبة واللعب بذرائع الدين أو الوطنية أو الثورة.

خلاصة الأمر هنا.. اعتبار النظام العام وآثاره مقصود شرعي ومبدأ تشريعي معاصر بالتأكيد. ولكن الخلل في خلفية شرعيته السياسية أو مشروعيته (تواؤمه مع مباديء الشريعة والقانون) يأخذ كثيرا من آثاره.
وحراك الإخوان مابعد يونيو 2013، عنده مشكلة في الحالتين، ولم يصل بالأساس لحالة الثورة القادرة على تغيير النظام العام.
حراك يناير كان شرعيا وله مشروعيا، ولكنه كذلك عجز إنشاء دولة جديدة.

في الوضع الحالي — هناك إشكال في شرعية ومشروعية النظام بلاشك. وهذا من أهم مبررات العدالة الانتقالية من ناحية تسوية لأوضاع السجناء وذوي الأحكام، وبالأخص تطوير نظام عدالي مستجد، حتى لو تُحلّ كلية مشكلة الشرعية السياسية.
ولكن هذا خاضع فعليا لموازين القوى ومسار التفاعل السياسي المحتمل.

هذا الاستطراد في ملفي الجهاد، وعلاقة الثورة والدولة – يوضح أن التناقض ليس بالضرورة مُحتما، وإن كانت مقاربة هذه المسائل تحتاج لدرجة عالية من الحرص المعرفي وضبط المفاهييم وتحرير مواطن النزاع، ومستوى التحليل.
نعم – يحصل اشتباك وتبادلية واعتماد بين النظر الشرعي والقانوني والسياسي والاستراتيجي.. ولكن ينبغي ضبط كل مساحة أولا بلغتها ومنطقها، قبل تحرير مناطق التبادل والتفاعل.

تحياتي

اترك تعليقا