Scroll Top
السياسة المصرية

نسخة مختصرة من خارطة الوفاق

https://drive.google.com/file/d/1FNMqnAlkmJBIJ3bo4q0mHiy1d2Fa8MI_/view?usp=sharing

سبق لنا أن تناولنا مسألة التهدئة والوفاق في مصر بين النظام والتيار المرتبط بجماعة الإخوان المسلمين في مقالَيْ (التقارب المصري التركي.. ديناميته وهل يُقدم فرصة للتهدئة الداخلية بمصر؟)، وفيه تلمسنا كيف أن منطق الاحتياج الاستراتيجي للمصري والتركي للطرف الآخر (تركيا لمصر في ليبيا، ومصر لتركيا في شرق المتوسط)، وكذا بناء قدر من الشرعية الداخلية لكليهما على ملف الإخوان (دعمه من قبل أردوغان، وشيطنته من قبل المصري) – يقود أن يقع حلحلة هذا الملف في مفرق التقدم في التقارب المصري التركي.

ولحراجة ملف الدماء التي نتجت من المجازر التي حصلت في مصر مابعد يوليو 2013 وكذا شهداء الإرهاب من النظام ومؤسساته (حراجة بالمعنى الأخلاقي والوطني – فإن مصر لايمكنها التقدم للأمام وهذا العبء على كاهلها – وأيضا البراجماتي لأنه عائق حقيقي أمام الوفاق الوطني)، تناولنا في مقال (في التمهيد للتهدئة بالداخل المصري: من يتحمل فواتير الدم ومنطق العدالة الانتقالية) بُعد الاشتراك في نصاب الدم هذا وإن بنسبة تفاوتت بين الأطراف:
النظام بالتأكيد يتحمل المسئولية السياسية والجنائية على فاتورة الدم من المتظاهرين، وقدر من المسئولية السياسية عن ظاهرة الإرهاب.
أما الإخوان فيتحملون قدرا معتبرا من الأولى، وقدرا معتبرا كذلك من الثانية سواء بتمييع تجريم الإرهاب عبر اتهام النظام بشكل سخيف وأخرق بالقيام به، وتقديم موارد إعلامية وقيمية له، فضلا عن قيام بعض الأجنحة المتفلتة منها – والتي ظهرت بدعمها ابتداء منذ أوائل 2014، ثم لم تتبرأ منها صراحة إلا متأخرا – بعمليات إرهابية بدائية تطورت حتى وصلت لمستوى اغتيالات لشخصيات سياسية وأمنية وعسكرية (ولكنها أبعد ماتكون عن مستوى الاحترافية لتنظيمات داعش والقاعدة في سيناء والوادي والواحات).

وأشرنا كذلك إلى أن منطق العدالة الانتقالية القائم على المشاركة في التحقيق لاستجلاء أكبر حجم متاح من الحقيقة، ومصالحات و ديّات وأكواد عقوبة مخففة، ولكن الأهم – تغيير في المنظومة العدالية والأمنية والفكرية والإطار السياسي لمنع تكرار الانتهاكات، لايمكن عمليا التحرك فيها بشكل شامل – للاضطراب في موازين القوى – ولكن أنماط أكثر تخفيفا هي ممكنة وضرورية كما سيأتي.

وفي هذا المقال، سأحاول وضع خارطة طريق مبدئية عن التهدئة تتناول: قيمتها في مسيرة التطور السياسي المصري في لحظاته الحرجة والمغلقة حاليا، ودوافع التهدئة ومحدداتها، ومنطقها القائم على محاولة تحقيق أكبر مصلحة لكل طرف وتسكين هواجسه مع اعتبار المصلحة الوطنية والأخلاقية وموازين القوى، والمسار العملي المرحلي والشامل لها ومقتضياته، ختاما بنقطة البدء العملية فيها.

قيمة الوفاق وموضعته في التطور السياسي المصري:

هناك بلاشك مأساة إنسانية واجتماعية قائمة، تتمثل في عشرات الألوف خلف القضبان ومالذلك من تبعات مفجعة على آلاف الأسر، والصحة الاجتماعية والنفسية ونفسية الاحتقان ضد الدولة ومؤسساتها عند شريحة واسعة من المجتمع المصري قد تصل على الأقل لنسبة 20 % كما في آخر إحصاء لنسبة التعاطف مع الإخوان (بعض هذه المؤسسات كالجيش والقضاء تمتعت دوما بقاعدة شعبية بها إجماع، وهذه القاعدة بالأساس هي ضرورة لهذه المؤسسات من حيث الشرعية والكفاءة) ، بالإضافة كذلك لشريحة ضخمة من المُهجرين والمنفيين خارج مصر، والتي تُعاني بالإضافة لما سبق لمشكلة الاضطرار للتواصل مع قوى خارجية بما يأخذ من نضارتها الوطنية من ناحية، ويُمثل عبئا سياسيا وأمنيا للنظام من ناحية أخرى (حتى لو تحسنت ظروف علاقته مع هذه القوى كقطر وتركيا مثلا).

كذلك – فنفسية الاحتقان تلك، فضلا عن نزوع انتقامي عند شرائح من الشباب، هي ما قدمت خميرة شعبية لتطور ظاهرة الإرهاب، ليس فقط البدائي الذي انخرطت فيه شرائح من الإخوان، ولكن حتى الاحترافي سواء بتفلت بعضها إليه أو توفير عريضة حشد أخلاقي ضد النظام خصوصا في سيناء. و حين أدركت بعض الجماعات الإرهابية هذا اللوغاريتم وقدمت خطابا إعلاميا ونشاط إرهابيا مراعيا له بالتمييز حتى داخل قوات الشرطة تبعا لما رأته مسئولية عن تفعيل البطش(مثلا عملية طريق الواحات) تقدمت، ولكن تطور ظاهرة داعش بمافيها من هدم أخرق للمنطق السابق وبالعكس استهداف المجاميع الشعبية (كما في حادث مسجد السلام) صبّ في مصلحة نشاط النظام المكافح للإرهاب، ولكن هذا ليس بالضرورة ماسيبقى مستقبلا مع وجود حال الاحتقان ذاك.
فلو تقود أي مصالحة أو تهدئة للتخفيف من المحنة السابقة، فهذا في حتى ذاته مكسب كبير.

ولكن حتى بمقصود التطور السياسي المصري، والذي هو ضرورة حقيقية لأي تطور تنموي واستعادة للمقدرة الاستراتيجية – ليس فقط لمواجهة المخاطر التي تهدد وجوديا وحيويا الأمن القومي المصري كسد النهضة وأزمات الإقليم كما أشرنا في مقالاتي حول سد النهضة، ولكن لتطوير الدور المصري الذي افتقدته أمته منذ عقود وبالأخص في العقد الفائت.

بوضوح – لاتوجد حياة سياسية بمصر الآن، بعد تقويض كل بناها من قِبَل النظام سواء بتغيير الدستور بشكل حرم مصر من أي قواعد دستورية في بنية الدولة الحديثة التي ترسخت لقرن مضى بالرغم من كل التحولات الحادة في نظمها السياسية، أو (أمنجة) الفضاء السياسي والشعبي والإعلامي والوظيفي داخل الدولة (وحتى الدراما التي سيطرت عليها في رمضان الفائت شركة تابعة للمخابرات!). لكن من ناحية أخرى – المشكلة أكثر عُمقا، وهي في عدم وجود قوى سياسية حقيقية في مصر -بمعاني الرشادة الوطنية والمُكنة السياسية والفنية والقاعدة الشعبية – تمثل بديلا مدنيا.
هذه المشكلة كانت حاضرة مع ثورة يناير، وكان المأمول حينها أن تأخذ مصر فترة انتقالية بحكم توافقي يسمح فقط بمنع ارتداد عن الديمقراطية – دون سيطرة فصيل أو تقديم خميرة للتدخل العسكري – ويحفظ حد أدنى وظيفيا للدولة (أزمة سد النهضة تفاقمت بسبب غياب هذا الأمر)، والأهم فتح الأجواء للتحول السياسي والاجتماعي التلقائي والذي أهم ثمراته (وهذا منطق مرحلة التحول الديمقراطي بالأساس) تطوير في النخب السياسي وتجديد في الحركات المصرية القائمة لتعيد تأسيس بنية الدولة الحديثة بكل جوانب التطور التنموي والديمقراطي والاستراتيجي.

بالتأكيد المسئول بشكل مباشر عن غياب ماسبق، والدخول في مرحلة انتقالية عاكست بشكل مُفجع كل قواعد التحول الديمقراطي النظرية والتجريبية، هو المجلس العسكري – الذي كان الرئيس الحالي من يقود ذراعه في التعامل مع الوضع المدني، ثم الإخوان المسلمين بحكم كونهم القوة الأكبرشعبيا حينها والتي أثرت بشكل كبير على تشكّل المسار وحكمت مصر ولو اسميا لمدة عام.

الوضع الآن تفاقم من حيث هذه النقطة المؤسسة للحياة السياسية (عدم وجود بديل سياسي مدني رشيد وقادر) بسبب الانهيار الوظيفي والقيمي والتنظيمي لكل القوى السياسية مع استثناءات قليلة (سواء تيار الإخوان ومؤيديه، أو القوى المدنية التي استدعت التدخل العسكري واحتفت به وصمتت على انتهاكاته الحقوقية والسياسية ولم تستفق إلا مؤخرا) وكذا انهيار التأييد والثقة الشعبية فيها.
بل إن الناظر لخطاب المعارضة المصرية في كل القضايا الوطنية (سواء كانت تيران وصنافير، سد النهضة، ليبيا، وضعية الجيش، مشاريع التنمية والبنية التحتية ووو) سيجد أنه يغلب عليها الطابع الانتهازي وغياب أي نزعة احترافية وعلمية معقولة. نعم – النظام ارتكب خطايا في كل ماسبق، ولكن العيب الخلقي في خطاب وطروحات المعارضة يدمّر تماما مسألة بناء الثقة في البديل الوطني، ويزيد من شراسة النظام في قفل المساحات.

الحل الحقيقي للساحة المصرية هو تجديد كامل في بنية قواها السياسية، وإنبات جيل سياسي مختلف، وهذا لايمكن تصور حدوثه بشكل فاعل – في المهجر (حتى لو قدّم الأخير بعض لبناته المؤسسة والتي لم تحصل بسبب غياب الاستعداد النفسي والمعرفي للتجديد بالأصل)، ولكن في مصر عبر أنماط هادئة تستفيد من فتح متدرج لبيئات النشاط الاجتماعي والسياسي. بل المنطق الاستراتيجي لبناء وتفعيل معارضة مصرية حقيقية، لابد أن يوازن بين مسارات التدافع الإصلاحي على المساحات وتحصيل نقاط متدرجة، وفي ذات الوقت استعادة تدريجية لأدوات الضغط – بما يسمح بتغيير موازين القوى ونتاجها السياسي تبعا للسيناريوهات المقبلة في الحالة المصرية. المشكل – أنه لاتوجد الآن بالأصل قوى سياسية بحيث تصيغ وتطبيق مثل هذه الاستراتيجية ولو بنَفَس مرحلي! وهذا يجعلنا ننحاز للخيار البنائي.

كل ماسبق، يجعل من الوفاق الوطني والتهدئة، ضرورة حقيقية، وإن ليست كافية لإحداث التمهيدات لتطوير مشروع سياسي مصري معارض وفي مصلحة الوطن، خصوصا أن النظام يستفيد من ملف الإخوان كفزاعة سياسية وأمنية يغلق بها كل المساحات، ولكنه فعليا مقتنع بدرجة من التهديد – لأنه يدرك بالفعل وجود درجة من الاحتقان وإمكانية تصاعده مع إفلاسات وظيفية في المجال الاقتصادي والأمن القومي مستقبلا.

والحقيقة – أن أشد ماتحتاجه مصر في هذه المرحلة الحرجة، هو درجة من التوافق الشعبي والاصطفاف – على الأقل في ملفات بعينها مثل سد النهضة وليبيا، وحتى دعم دور إقليمي لصالح القضية الفلسطينية ومواجهة التمدد الإسرائيلي الإقليمي (حتى مع وجود مفارقة بين دوافع وحجم الدعم الشعبي والنظامي في هذا الملف)، واستعادة سوريا وحل مشكل اليمن والأمن الخليجي، وهذا لايناقض بقاء درجة من المعارضة لتوجهاته في الملفات الأخرى وخصوصا الداخلية.

دوافع الوفاق ومحدداته:

فيما يتعلق بالإخوان، فالفرضيات التي حكمت مسارها مابعد 3 يوليو، على افتراض وجودها بدرجة من الوضوح، سواء خيار التصعيد الاحتجاجي دفعا لتدخل خارجي أو انشقاق بالجيش (خصوصا مع حصيلة كبيرة من الضحايا البشرية)، أفلست مبكرا. وحتى الخيار الآخر باللجوء لأنماط من العنف السياسي، وحتى الإرهاب من شريحة بعينها، بمنطق متناقض حقيقة (هل هو رفع درجة الحراجة السياسية لتهيئة الدعم الخارجي وانشقاق الجيش – والحاصل أنه يزيد من الالتفاف حول النظام داخليا وخارجيا، أم المنطق التقليدي للإرهاب في إفقاد النظام التوازن وإثارة حالة من البلبلة الشعبية وفقدان الثقة تدفعه للتنازل.. هذا المنطق الذي لايمكن حصوله فيه مصر لأسباب استراتيجية وعملياتية، كما في تجربة الجماعة الإسلامية والجهاد 1981). بالرغم من إفلاسها مبكرا، بل الحقيقة كان لابد توقع إفلاسها مباشرة في يوم 3 يوليو 2013، قد أفرزت درجة عالية من المحنة الإنسانية والاجتماعية وبالطبع التوغل العسكري والأمني وبناء شرعية للنظام المستجد (لينقذ مصر من مصير بقية دول الإقليم – كما هي تيمته الثابتة)، ولكنها أدت كذلك لدرجة عالية من المرارة والاحتقان والشيطنة والحساسية بالتالي تجاه أي مبادرة للقيادة الإخوانية نحو التوافق والتهدئة مع النظام والفكرة تراودها منذ 2016 ، حتى بعد توقف النشاط على الأرض – عدا التحرش الإعلامي الخارجي – منذ سنين.

الآن عوامل تفاقم الإفلاس في نفوس القواعد الإخوانية، مع فقدان الثقة بالتنظيم وقيادته التي قاد له الانشقاقات الداخلية وبعض المثالب القيمية، وتحوّل الأطراف الخارجية الداعمة للاقتراب من النظام المصري لمصالحها الخاصة (قطر ثم تركيا) وتأثير ذلك على الدعم المالي والسياسي وما سواه، وأيضا وفاة الرئيس السابق مرسي مما جعل عنوان (الشرعية) فاقدا لأي اعتبار عملي، مع تفاقم المحنة الإنسانية والاجتماعية لمن بالسجون وأغلب من بالخارج من الشباب وليس الطبقات التي تعيش في رفاة لعوامل ذاتية أو منتفِعة من دولاب التمويل والمؤسسات المرتبطة به – كل هذا قاد لتغير في توجه هذه القاعدة. فمجرد إشارة من بعيد من القيادة الإخوانية للتهدئة من قبل كانت كافية للتشنج والتخوين لها، ولكن حديث القائم بأعمال مرشد الإخوان إبراهيم منير عن هذا الوفاق وإصلاح الأمر مع النظام عبر وساطة تركية منذ شهرين تم تلقيه بهدوء وترحيب غالب.

أما بالنسبة للنظام، نعم تراجع كثيرا هاجسه من ملف الإخوان وما قد يمثله من ضغط أمني وسياسي مُلحّ – عدا بعض الضيق من التحرش الإعلامي الخارجي، والذي قلّ بشكل ملحوظ مع التقارب مع قطر وتركيا، ولكن كما أشرنا – فإن ملف الإخوان يبقى عثرة أمام تطور التقارب البيني مع التركي للدرجة التي يحتاجها الطرفان استراتيجيا.

وهناك محرك آخر قد يدفع النظام (خصوصا مؤسساته التي لايزال بها بعض العقل السياسي) للتفكير بملف الوفاق، وهو الخشية من التلاقح بين الاحتقان الشعبي عند شريحة معتبرة (ولو أقلية) مع الاحتقان الذي قد ينشأ من اختلالات اقتصادية ووظيفية أو مرتبطة بأزمات أمن قومي (مياه أو إقليمية) مقبلة، فلو استطاع أن يفك هذا التلاقح فهو مكسب. ولكن لابد من الانتباه في ذات الوقت، أن هذا يجعله أكثر تصلبا في اشتراطات التوافق لتحييد هاجسه بإمكانية التلاقح المتعمد بعد خروج الإخوان من السجون والسماح ببعض المساحة للمعارضة. وبعقليته الأمنية، فهو دائما متعلق باليقين الأمني (اليقين لايزول بالشك، واستصحاب الحال الأصلي – كما يقول الأصوليون!)

منطق التهدئة وفلسفتها

الوصول للتوافق قاعدته الأساس إجرائيا ترتكز على ثلاث نقاط:

1- وجود إرادة حقيقية عند الأطراف المتصارعة، وقدرة قيادية لكل طرف بحيث يُعبّر ويضمن التزام قاعدته ومؤسساته بها.. وهذا نتاج عن قوة المحركات خلف التهدئة والتماسك المؤسسي والقيادي.

2- خارطة نظرية للتهدئة، تُحاول أن تصل للحد الأقصى من مصالح كل طرف، وتسكين هواجسه بعد تعريفها. ، وبالتأكيد هذا يكون محكوما بموازين القوى، ولكن كذلك بما لايُناقض الحد الأدنى من المصلحة الوطنية والقاعدة الأخلاقية.

3- عمليا، أصعب شيء هو استعادة الثقة، ولهذا فلابد أن يمُرّ بناء الوفاق على مراحل، تقصد تدريجيا لبناء الثقة المتبادلة، وكذلك تغيير السياق المحيط بحيث يجعل هنا تعويقا عمليا أمام الرجوع للوراء.. وهذا يقتضي حسم الملفات التي يُمكن أن تُفجّر هذا المسار في المرحلة الانتقالية الأولى (مثلا – ملف مثل العنف والإرهاب، وملف الدماء والعدالة الانتقالية).

المسار العملي للتوافق الوطني:

وباعتبار كل ماسبق، فإن مصالح الأطراف هي بذاتها المتمثله في المحركات. ولكن يهمنا تعريف هواجس الطرفين وسبيل التوازن في حلها:

هواجس النظام:

1- أن يقود الوفاق لمُشكل أمني (خصوصا القطاعات الشبابية التي تقتنع بالعنف، حتى لو قناعتها الحالية مجرد تفريغ لمخزون الغضب دون إرادة حقيقية)، وهذا حله بمبدأ المرحلية، وتحرك الإخوان بشكل منهجي لمحاصرة أفكار العنف المسلح فكريا وتربويا وماديا في المرحلة الانتقالية، وكذلك مايُمكن أن تقدمه البوادر الجادة من النظام في فك الاحتقان لدفن كثير من وقوده النفسي، وكذلك التعامل الجاد مع ملف الدماء والنمط الجزئي من العدالة الانتقالية.

2- أن يقود لمشكل سياسي (إذا بادرت الشرائح الإخوانية باستغلال الاختلالات الوظيفية المقبلة للدولة في احتجاجات شعبية ومحاولة ضرب شرعية النظام)، وبالإضافة لمسألة التدرج في فتح مساحة العودة للقطاعات الإخوانية لمجتمعها، فأهم نقطة هو وجود مراجعة فكرية والتزام حقيقي للإخوان بالانعزال عن النشاط السياسي التنافسي مطلقا، وكذا تجميد النشاط الدعوي والمجتمعي لفترة، وبحيث يكون النشاط التنظيمي في إطار قانوني وينشغل في المرحلة الأولى بوضع الصياغات المؤسسية لعناوين عمل اجتماعي ودعوي جديدة.
والحقيقة بخصوص التمييز بين الدعوي والحزبي، فهذه قضية جوهرية لها مستندات فكرية وأصولية وسياسية وتربوية قوية ليس الآن مكان تفصيلها. وهي طُرِحت منذ أواخر التسعينات داخل الإخوان من قِبَل التيار الإصلاحي، وكان لها حُظوة في الفترة التي تلت مابعد الثورة لولا التيار المُضاد والذي قاد الإخوان -ومعه تجربة التحول الديمقراطي في مصر- للمصير المعلوم.

3- هاجس في قدرة الإخوان على الوفاء بسبب ضعف المصداقية والثقة، واهتراء التنظيم وعدم وجود قيادة فاعلة وقبول واسع بها. الأول حلها محصلة ماسبق، بالإضافة لإشراك أطراف من الداخل الوطني، وكذا أطراف خارجية قريبة (فقط كوساطة في المرحلة الأولى، ولكن هي قضية مصرية، والنظام عنده حساسية شديدة بحقّ من التدخل الخارجي).أما الثاني (المشكل الإخواني التنظيمي فهو مشكلة الإخوان وعليهم حلّها قبل الشروع في خارطة الوفاق ابتداء. وإن كنا تابعنا بحسّ إيجابي محاولة القائم بأعمال المرشد تشكيل لجنة إصلاحية أواخر العام الماضي، إلا أن جهده تعثر فعليا، حيث تشكلت اللجنة بوصاية من الطرف المُعوّق لأي تجديد أو تغيير حقيقي، وتم تشكيل اللجنة وإدارتها من عناصر موالية للأخير! ولهذا – فلابد من استغلال التململ الإخواني الحالي، وشعور (القرف) حقيقة مما انتهى له المسار وجموده لسنوات مع تفاقم المحنة الاجتماعية والإنساني، والسياسية للوطن عموما، لإحداث جراحات عاجلة، وتشكيل قيادة سياسية جديدة لها تفويض واسع، وعندها وضوح رؤية بخصوص خارطة الوفاق قدرة على إدارة عملية التفاوض من جهة وتسويقها للصف الإخواني بشكل ناضج وفعال من جهة أخرى. وبالتأكيد يلزمها دوائر محيطة من أطراف سياسية داخلية داعمة من خارج الإخوان وكذا خبرات استشارية، لتعويض النقص المعرفي والخبراتي في المجالات المطلوبة من ناحية، وكذلك لتوسيع القاعدة الوطنية المؤيدة.

هواجس الإخوان:

ا- أهمها مايُمكن أن يقود لمزيد خسارة في شرعيتها القيمية والسياسية حين تتراجع فجأة عن خطابها الخاص بالشرعية والمعادي للنظام. والحقيقة – فإن السياق الحالي أبطل كثيرا من مفردات هذا الهاجس. فبوفاة الرئيس السابق – رحمه الله – صار الحديث عن مشكلة الشرعية غير عملي، فضلا أن أي مراجعات سياسية – هي مطلوبة بالتأكيد – ستدفع لرؤية العوار في هذا الملف ابتداء وتوسطا وانتهاء – أثناء حكم الإخوان لرئاسة مصر بالأساس. أيضا، فإن الوفاق والمصالحة أصبحت أمرا متقبلا عند كثير من الشرائح الداخلية كما ذكرت سابقا، وبالأخص لمن هم في السجون، وهو بصراحة أصحاب الحق الأصيل في هذا الأمر لأنهم من يعانون وليس من يعيش آمنا في الغرب أو تركيا مثلا مع أولاده وأحفاده، حفظ الله الجميع.
 كذلك – فإن الإخوان بانعزالها عن النشاط السياسي التنافسي، فإنه ليس مطلوبا منها بالأصل إعطاء شرعية سياسية للنظام القائم أو سحبها منها. نعم، واجبها هو الإلحاح على قطعيات الدين ومصالح الأمة والأوطان المعلومة دون اشتباه، ولكن التقييمات العملية هي خارج دورها إلا بتوحد الأمة وخبراتها التجريبية على تقدير محدد.

2- ويرتبط بذلك، الانتكاسة في دورها كجماعة. والحقيقة، الإخوان تحتاج لفترة من الزمن لحصول مراجعات فكرية ونفسية وسياسية وتربوية، وتجبير لكثير من الإشكالات الداخلية وفقدان لكثير من جوانب الثقة للقطاعات الشعبية فيها – جزء منها بلاشك بسبب الإعلام المضاد ولكن جزء آخر بسبب ميراث تجربتها السابقة. بل الناظر لما تمثله الإخوان من ظاهرة تربوية (كتلة القيم والتوازن النفسي الحاضر عند أبنائها) سيجد انحدارا شديدا بمقارنتها بما قبل الربيع العربي مثلا.يُمكننا تعريف هواجس النظام والإخوان على التالي.
كذلك، فإن المجتمع في أشد حاجة لدور اجتماعي وتربوي ودعوي ورشيد، وهذا أمر لايمكن تصوّر معه نجاح لتنمية أو بناء قوة استراتيجية للدولة، ولا حتى إمكانية القيام بمحاولات سياسية مُقبلة على أساس مقاربة المرجعية الإسلامية. بل إن هذه المقاربة – كما يعلم أي محتك بالسياق الفكري والتجريبي للفقه السياسي وإشكالاته التاريخية والمحاصرة – تحتاج وقتا وتمهيدات لتطوير بنودها المعرفية والخبراتية والبشرية.

3- وبالتأكيد يبقى هاجس أمني أن يستفيد النظام من الوفاق بإطلاق قبضته على من هم خارجها الآن، الحقيقة هذا هاجس فات وقته بالنظر لتوقف النشاط الفعلي بالداخلي والسيطرة شبه الكاملة للنظام على معظم الشيفرات الحركية. فضلا، أن السماح بعودة الإخوان هو عالة على التدرج في ملفات الوفاق وهذا يفيد في تطوير الثقة المتبادلة. وبصراحة، فالهاجس الأمني هو أشد بمراحل عند النظام منه عند الإخوان.

متطلبات الشروع في عملية التوافق:

هناك عناصر جوهرية للتهيؤ ابتداء لهذه العملية:

1-  حصول التغيير التنظيمي داخل الإخوان السابق ذكره، وهذا يجعل المبادرة في هذا الخصوص من ناحيتها.

2- وجود خارطة واضحة للتهدئة – ربما تكون هذه الورقة فاتحة للنقاش حولها، وقبول مبدئي ببنودها المرحلية والنهائية بين الأطراف (خصوصا من قبل النظام) والوسطاء.

3- حصول تعديل داخل النظام فيمن يتولى مسئولية ملف الإخوان وحرْفه عن الأمن الوطني كسياسة عامة وزيادة الرقابة على التفصيلات (لصالح المخابرات أو الأفضل – لجنة مُستجدة تتبع الرئيس مباشرة) .

المرحلة الانتقالية (عام أو إثنان)

ترتكز على نقاط محددة، وهدفها الأساس استعادة قدر من الثقة المتبادلة، وتغيير في السياق المحيط بشكل يسمح بتمديد القناعة بالوفاق في داخل الإخوان مؤسسات النظام وقاعدته الشعبية، وكذلك معالجة بعض الملفات المفخخة للوفاق مبكرا.

1- تخفيض حدة التوتر، وبوادر حسن النية. وهذا يشمل وقف للقصف الإعلامي، ومبادرة النظام بتحسين ظروف المسجونين، والتوقف عن تدشين أي قضايا سياسية – فقط المرتبطة بالعنف والإرهاب، مع تجميد تلك القائمة فقط على الارتباط بالإخوان ك (جماعة إرهابية)، وعدم التوسع في الحبس الاحتياطي، والإفراج عن قيادات إخوانية منفتحة وضرورية لإقناع الصف الإخواني بالوفاق والتهدئة (مثل د. بشر)، وفتح مساحات أوسع للأطراف الأخرى على الأقل بما يتعلق بسلامتهم الشخصية والاجتماعية.

2- مشروع سياسي للدعم الوطني قائم على أرصفة ومؤتمرات يديرها النظام ويشمل ثلاث قضايا: سد النهضة، والتنمية، وتقوية دور مصر في الإقليم. وهذا له فوائد جمة بالمنظور الاستراتيجي، وأهمها استعادة الوطن لأدوار شرائح كبيرة من المتخصصين والموارد الداخلية تم إهدارها تبعا لمحنة الأعوام السابقة. ولكنه أيضا سيفيد في تعديل في خطاب وفلسفة المعارضة وحسها الوطني بما له من آثار على الثقة الشعبية فيها، وأيضا شعور الجميع – وبالأخص الإخوان وإن لم يشتركوا كتنظيم ولكنهم يفتحون المغاليق أمام مشاركة أبنائهم المادية والبشرية – بالانخراط الحقيقي في خدمة الوطن، حتى لو في هذا الإطار المتواضع مبدئيا. نعم، قد يتراكم قدر من الشرعية لصالح النظام، ولكن – عدا ملف سد النهضة وبعض ملفات الدور الخارجي والنشاط الاقتصادي – فإن الدعم غالبه سيكون محدودا ومُقننا بالتوافق السياسي والتخصصي وهو قليل.

3- مشروع للمراجعات السياسية للإخوان والقوى المدنية، سواء في مقاربة بعض المسائل الفكرية، أو ميراث تجربة يناير ودروس التحول الديمقراطي. .وهذا في وسط يغيب عنه منطق المزايدة، ولكنه جوهري سواء لبناء الثقة، وكذلك – لتقريب الشرائح المعارضة من مفهوم الوفاق وآثاره وتخلليها عن مفارقة التنزيه للذات وشيطنة الآخر.

4- ملف العنف والإرهاب.. وهذا لايكفي فيه مجرد تبرؤ القيادة الإخوانية الحالية منه، ولكن يلزمه شك مقاربات فكرية واستراتيجية وتربوية فيه، وكذا محاصرته ماديا ومعنويا. وأعتقد أنه من الممكن – إذا تجاوب النظام – بناء مشروع فكري واستراتيجي لدراسة الظاهرة ووضع حلول لها، ولكن الأغلب – سيكون هناك نفور من النظام لأني هكذا محاولة لابد أن تعود على تجربته في مكافحة الإرهاب بالخصم والنقد.

5- ملف الدماء والعدالة الانتقالية الجزئية. وأعتقد أنها من الممكن أن تتم برصيف جامع لأطراف حقوقية وسياسية وممثلة عن القوى، لفحص المحطات في هذا الجانب، وتحديد المسئوليات المبدئية والتي يشترك فيها الجميع كما أسلفت، والبناء مثلا على تقرير المجلس القومي لحقوق الإنسان التابع للدولة في فحصه لفض اعتصامي النهضة ورابعة، وكذلك الدماء التي تسببت فيها شرائح ارتبطت بتيار الإخوان ولو بمنطق المؤازرة السياسية.. هذا هو الحد المطلوب في المرحلة الانتقالية.

5- تشكيل لجنة للوساطة والتوفيق تتفاعل مع محطات هذه المرحلة، وتشمل أطرافا داخلية من التيار الإسلامي الوسيطة (أبو الفتوح، وأبو العلا) والتيار المدني الديمقراطي (البرادعي، والجبهة الوطنية ونخب أكاديمية ك نافعة وحازم) والتيار المقترب من الدولة ولكن عنده استعداد ديمقراطي وإيمان بأهمية الملف (يختاره النظام)، ووسيط خارجي فقط لترتيب المدخل للتهدئة ولكن ينسحب فور ذلك (تركيا وقطر).


الصياغة النهائية للتوافق الوطني:

  1. انعزال الإخوان عن العمل السياسي التنافسي، والحزبي مطلقا، مسنودا بتقرير فكري جازم.
  2. تجميد النشاط الدعوي والاجتماعي لفترة 2-3 سنين، بحيث يكون هناك نشاط تنظيمي مقنن ويقتصر على الحوارات ووضع مشاريع لعناوين جديدة في هذا النشاط، بحيث تبقى الإخوان كجماعة ومرجعية فكرية وتربوية.
  3. رفع التجريم القانوني لجماعة الإخوان، وإعادة الممتلكات الشخصية، وتلك الخاصة بالأنشطة الدعوية والاجتماعية، ومصادرة كل ما له علاقة بالنشاط السياسي، أو الأطر الموازية والبديلة لصالح صندوق دعم شهداء الجيش والشرطة والمواطنين من كل الأطياف.
  4. عفو شامل عن كل مسجوني الجنح، ولجنة عدالية وحقوقية تفحص بقية القضايا، بما يهيء للعفو عمن أخذ حكما نهائي في قضايا الجنايات ما دون الإعدام، وتخفيف الأخيرة على من قبل المراجعة ونبذ العنف .. (وهذا يشمل القضاء العسكري)
  5. وضع صياغة تعويضية قائمة على مبدأ الديّة الشرعية، باشتراك طرفي التوافق (الإخوان والدولة)وكذا الوسطاء، وتذهب لصندوق تعويض الشهداء والجرحي.
  6. فتح نسبي من قِبل النظام للمساحة الإعلامية والسياسية دون تغيير المنظومة القانونية والدستورية الحالية – عدا قانون الجماعات الإرهابية وتمويلها، بحيث تقتصر على استخدام العنف.
  7. بعض الإصلاحات المحدودة في قطاعي العدالة والأمن، بما يشمل إعادة اعتبار تحريات الأمن الوطني فيما دون القرينة الجنائية (توكيد ذلك بواسطة الهيئة العامة للأحكام الجنائية بمحكمة النقض)، وكذا تقدم جزئي في ضبط أساليب التحقيق، وزيادة معيار الاحترافية الفنية والحقوقية والاستراتيجية.
  8. التوثيق السياسي، والبرلماني لما له علاقة بالتشريع، لهذه البنود.

والله وليّ التوفيق،

مقالات ذات صلة

مقال – التقارب المصري التركي – ديناميته، وهل يقدم فرصة للتهدئة الداخلية بمصر؟

في التمهيد للتهدئة بالداخل المصري: من يتحمل فواتير الدم، ومنطق العدالة الانتقالية؟

ملاحظات حول المراجعات، والحراك الوطني

Comments (1)

اترك تعليقا