18/10/2021 *
مؤخرًا تواجهني أزمة فعلية في الانتقال بين مجال الدراسة البحثية في الاستراتيجية، وبين ممارسة الكتابة الإبداعية. أذكر كلامًا لحضرتك عن تراكب الأمزجة؛ فكيف أدير هذا الانتقال بين المزاج البحثي الواقعي وبين المزاج الإبداعي؟
التجربة مثيرة، وعايشتها بأشكال مختلفة منذ الصغر. مثلا، أنا أكتب الشعر منذ السادسة بالعمر، والأمر كما تعلم ليس ملكات لغوية ولكنها بالأساس روح فائرة ونزعة تخييل عالية وتعامل غير مقيد مع التركيبات اللغوية والأقيسة. فإذا اجتمع ما سبق مع الحس الديني والثوري والهوس المُراهِق بتغيير العالم بل تقزيم كل أوزانه – فهو يصبح مجرد خيال يمكننا تحديه وتحريكه لما نؤمن – يمكننا فهم كيف كنت أستمتع بكتابات سيد قطب في فترة إعدادي وأول الثانوي، مع موقفي السلبي منها لاحقا.
ولكن في ذات الوقت – كنت أدرس أصول الفقه، وبطبيعتي كان عندي هيام بالتنظير والضبط المعرفي والمقايسات العقلية والمنطقية.. بعض هذه الجوانب كان في بعض كتابات سيد (مثل: خصائص التصور) أو حتى أطروحة محمد إقبال في (تجديد التفكير الديني) – قرأت كلا منهما في ليلة واحدة في أولى ثانوي.
لكن الحقيقة – الأصول كانت مختلفة عن هذا، لأنها كانت شديدة الضبط والتهذيب العقلي مع تعمقه. أما ما سبق من كتابات قطب، فكانت خليطا بين مساحات من طبعها التناقض ولم تتعمق بنيتها الفقهية. لكن في تلك المرحلة – لم أنتبه مثلا لكيف أن كتابات سيد قطب ومنهجه، فيهما تصادم حاد مع منطق ومزاج وخلاصات الأصول والفقه الديني. إما للانفصال بين المساحتين ذهنيا عندي أول الأمر، أو محاولة التوفيق الاعتسافي بينهما توسطا.
وهذا سلوك عقلي مُخادع يمارسه الجميع أفرادا ومؤسسات، ومشهور حتى في دراسات المخابرات
Cognitive repositioning
أي كيف أن أجهزة المخابرات (أمان مثلا – المخابرات الحربية الإسرائيلية قبل حرب أكتوبر) تحاول موضعة وتحريف تفسير المعلومات المستجدة ضمن الفرضيات السائدة – مؤسسيا وإداركيا. وهكذا
المهمّ – كنت أشعر بما تقول – من ناحية، فعندي في شخصيتي المجسات (العقلية والنفسية والمزاجية) التي تسمح لي بالتحرك في كلا الدائرتين، وفي ذات الوقت الاستمتاع بهما، ولكن بشكل لا إرادي، كان لابد من فترة حين تنتقل من حالة لأخرى، أن تقفل مجسات وتفتح أخرى (وهي حالة برزخية تبدأ بعمى أولي، ثم يحصل هذا التحول).. وفترة التحول بطبيعة الحال كانت طويلة في البدء، ولكنها تقصر مع الوقت.
تحصل بشكل لا إرادي أولا، ثم مع الوقت تدرك وتساعد حصولها بأن تقوم بالتحفيز الحيوي (في غلق الأولى وفتح الثانية).
العجيب – أن هذا بالضبط ما يحصل في فسيولوجيا العين والإبصار لكن من درس العيون. ال
Cones
تتواجد في مركز الشبكية وتكون مسئولة عن النظر الحاد ولكن في ظروف مضيئة. وفي هذه الظروف – يتم تقليل نشاط ال
Rods
الموجودة في طرف الشبكية ومسئولة عن الرؤية غير المحددة في ظروف مظلمة، وتقليل الاستجابة لها بوسائل حيوية وكيميائية معقدة.
وحين تنتقل من ظروف مضيئة لأخرى معتمة، أو العكس – توجد فترة العمى النسبي للانتقال من حال لأخرى. وحين يحصل مرض ما، قد تطول هذه الفترة.
إذن – فنحن نحكي عن نمط تلقائي للانتقال من حال لآخر بعد فاصل، بشرط وجود المجسات (أو الإمكانات العقلية والمزاجية) للتعامل مع كليهما. قد تبقى في هذه الحال (الحسية التلقائية للأبد).. ولكن إذا بدأت تستوعب ذلك، وتنضج في كل المساحات (ليس فقط المساحات الأصلية ولكن كثيرا ما تنشأ العلاقات بينهما بالنظر لمعارف وخبرات أخرى)، وتشتبك مع بناء صلات إيجابية بينها، أخذا وردا، وتحديدا، ستصل لدرجة من التمكن في التشبيك المعرفي والمزاجي.
والأمر قد يأخذ سنينا، وهو عالة كما أسلفت – على النضج في كل حالة، وحالات محيطة، والأهم – الاشتباك مع الذات ابتداء وتمحيص المُعطيات والآثار عليها، وتمحيص مساحات الاقتراب والتنافر والتوليد بين هذه المساحات.. هذا التمحيص قد يقتضي شجاعة ومجازفة أولية في الفرضيات والتخبط بينها، ولكن تهذيبا واستفادة من الأخطاء وتصحيحها بدأب عبر سنين.
ولهذا – فحين مثلا بدأت دراسة الاستراتيجية العسكرية، كنت في دوامة معرفية ومزاجية بين مساحات عديدة – وليس فقط الاحتراب البسيط بين مساحتين وأنا صغير. فعندك الاستراتيجية العسكرية بكل أبعادها المزاجية والأخلاقية والعقلية، وعندك بقايا وامتدادات أصول الفقه والفلسفة بكل تشددها في المحاكمة والتمحيص العقليين والاستناد الوثيق روحيا ومعرفيا لأصول الديانة وفروع النظر الفقهي والعقلي، وعندك مساحة الانفعال الوجداني بقضايا الثورة والتحرر والتغيير السياسي والاجتماعي والتجديد الفكري والعدالة الاجتماعية (حتى وإن خفّت مثاليات الحلم المُراهق، فلاتزال العاطفة متوقدة).
وحتى في داخل هذه الدائرة الوجدانية- فكان دوما هناك المنازعة بين العاطفة الثورية والمُقاوِمة- وعاطفة العشق والوله أو النزوع له كمقام وحالة – دون بالضرورة وجود شخص ما يتجسد فيه، وبالتأكيد حال العشق الإلهي والتجرد عن كل الموجودات.
ولا ننس دائرة الطب كذلك بكل مساراتها العلمية والفنية (كأي علم تطبيقي يعتمد على حس الاكتشاف والتسييق والفن الذي تُصقله التجربة) والأخلاقية والوجدانية أيضاـ فضلا عن ضرورة اقتطاعها شطرا كبيرا من الوقت لأنها مصدر الدخل الأساس الشخصي والأسري وحتى كمصاريف دراسة الاستراتيجية، وهذا الوقت ليس في العمل فقط ولكن التدريب والامتحانات والمؤتمرات.. وهكذا.
وكل ما سبق، كانت تزاحمه دائرة النشاط السياسي والتوجيه الفعلي والتي تضيق وتتسع وتختلف طبيعتها على حسب المرحلة التي تمر بها بلادنا – قبل ثورة يناير، أو معها وبعدها حتى منتصف 2013.
لكن تلك المرحلة بطبيعة الحال، كانت أكثر نضجا في مقاربة مشكلة تعدد المسارات والاهتمام، والتفاعل المعقد بين إلقاءاتها المعرفية والمزاجية والسلوكية.
كنت أدرك حينها بشكل ما مسألة تلقائية الانتقال، وضرورة التحجيم للمجسات حين أنتقل من حال لآخر، فلم يحصل لي تشتت.
كان عندي أشبه مايسمونه في الطب النفسي
Multiple personality disorder..
الفارق أنه لم يكن مرض: لأني أعمله عن قصد، ولا أفقد ال
insight
أي إدراك الزمان والمكان والحوادث، ويبقى لي حد أدنى معرفي وأخلاقي أسعى لعدم تجاوزه في كل حالة.
حينها مثلا، كنت أعيش وأستمتع بحالة
Dr Jykill and Mr Hide..
فيومين بالأسبوع كنت أعمل بالمستشفى كطبيب مهذب وعطوف وله لهجة ونظرة ناعمة وأبوية، وهندام محترم ومنسق.. وثلاثة أيام أذهب في قسم الاستراتيجية بلباس فوضوي ولغة حادة ودنيا ههه، وتعامل مع الحرب معزولة عن محنتها الإنسانية والأخلاقية ولكن فقط بمنطق
Bloody Realist
– على الأقل وأنا أتعلم وأقدّر وأقيس. وبقية الدوائر كان لها حظ أيضا.
ولكن لا يوجد تلاقح منهجي!!!
الجانب العاطفي، وتمثله أدبيا وشعريا، كان واضحا عندي منذ الصغر كيف أن أتعامل معه بمنطق الالتفاف والتجيير.
ولهذا كل شعري كان في خانة (الرومانسية الثورية) – الفارق، أني لم أكن أتعامل مع الثورة والحرب بحال ووصف المعشوق فقط، ولكني فعليا أعيش التجربة العاطفية شعريا من خانة العشق – أو توهمه أو تمنيه – ابتداء، ثم أنتقل تدريجيا بشكل سلس لتحويل الدفة الكلامية ثم العاطفية بالتالي لناحية الثورة والحرب (متلازمة الحب والحرب التي حكى عنها تميم البرغوثي).. وهذا تجده في كل قصائدي الحديثة (مثلا – الملحمة، جدل شجي، خل العذل…)، وحتى كتلك الأبيات من قصيدة قديمة أيام الصغر.
” لو كان حالي مثل ما لم تشهدي لدهاكِ منّي الوصْلُ والإنشاءُ
في عِشقِ كُلَِ الغيدِ تسلُبُ مُهجتي في كل حيٍّ غادُهُ الحسناءُ
لكنني يقتاتُني جُرحُ الإبـــــــا و يحولُ بيني والهوى الأعداءُ”
وبالنظر لنضب القريحة الشاعرية – تأليفا وليس ذائقة – بسبب الطب والنشاط السياسي والأصول والاستراتيجية – نعم هذا حصل كما في رواية جيكل وهايد .. من تحكم جزء من الشخصية على الآخر مع الوقت – فلم أكن ألجأ للشعر غالبا إلا مع تجربة شعورية عنيفة سواء حين قررت ترك الحركة الإسلامية وشق طريق ذاتي لي في 2007 فكنت في حاجة لتجديد الإطار الوجداني لممارسة دور رسالي مستجد وأن الغاية هي الثابت وليس خياراتنا في تحقيقها، أو استشفاء لتجربة عاطفية ما مع قلة حصول هذا .. :).
الشيء الطريف، أني أحيانا كنت أكتب ورقة أو مقال ف الاستراتيجية لترشيد الوضع السياسي أو المُقاوِم، فكنت أضمّن فيها سردية عاطفية في أولها، لشفاء حاجة في نفسي بالأساس قبل تذكرة لغيري، ولكن بوعي – أقول أني سأنتقل لمنطق التقدير الاستراتيجي والتناول السياسي البارد بعدها – وتختلف حتى لغتي ومفرداتي.. كنت أفعل هذا كثيرا ولحد الآن (راجع مثلا مقال تونس الأخير).
وكثيرا حين كنت أتناول موضوع ما، منطق تناوله الشمولي هو الجمع بين مسارات مختلفة.. مثلا تناولي الناقض لمسألة العنف المسلح من المنظور الشرعي والاستراتيجي – كوسيلة للتغيير السياسي.. (في نقد التغيير المسلح).. كان واضحا عندي ما أفعل.
إذن المرحلة الثانية، هي إمكان الدمج ولكن الاعتبار المقصود للاختلافات في المنهج واللغة ومعايير التقويم والمنتوج، وحتى الحس النفسي والروحي.
أحيانا يكون الدمج ضروريا للحكم في مساحة بعينها.. مثلا – تصور الفقهاء عن اشتراط الجدوى لشرعنة الخروج. والجدوى عالة على النظر الاستراتيجي البارد في تقييم الواقع وربط المسارات الكلية والوسائل بالنتائج. فلابد حين تقوم بذلك، أن تدمج ولكن تراعي الفروق والفصل في عملية النظر لكل دائرة، ثم يحصل استفادة النظر الشرعي من منتوج النظر الاستراتيجي – ولكنه لن يتدخل في كيفية الوصول لهذا المنتوج.
هذا فيه شبه وخُلفٌ بشكل ما عن (فصل المقال فيما بين الشريعة والحكمة من اتصال).. فيه شبه أن ابن رشد يحكي كذلك عن مسارين منفصلين في الوصول المعرفي، ولكن يختلف لأن مسارَيْ ابن رشد يقصدان إجابة ذات الأسئلة ولكن بمنطق مختلف. هنا – ليست نفس الأسئلة، ولكن الإجابة عن أسئلة مسار، ضرورية للإجابة عن سؤال مسار تالٍ.
ولهذا – فمن الخطأ على الفقيه مثلا أن يتخيل أن مقاربة السؤال السياسي أو الاقتصادي أو الاستراتيجي من اختصاصه لأن رأيه الإفتائي قد يعتمد عليه! بل هو جريمة كما عبّر الإمام الغزالي في تهافت الفلاسفة، أن ندخل النظر الديني فيما ليس من شأنه!
أما المرحلة الثالثة، فهي التلاقح الذي حكينا معه، التلاقح بمعنى استفادة كل دائرة من معطيات وتراكيب النظر بشكل أساس (وبدرجة أشد حرصا وتدقيقا -في المزاج والوجدان) من الدائرة الأخرى في تدعيم تفسيرها أو تطورها المعرفي والتطبيقي، وصولا لنماذج جديدة.
وربما هذا ما أشار له توماس كون في (تركيب الثورات العلمية) حين أشار، ليس فقط لجدة وحداثة من يقومون بالثورة العلمية، طبعا هم نضجوا في المجال ولكنهم لم يستطل بهم المكوث فيه للتشبع بالباراديم السائد، ولكن أيضا أنهم أتوا من عوالم مختلفة بمعارف وأمزجة ومناهج متباينة تفتح آفاقا مستجدة للنظر والاستخلاص.
وأعتقد أني أشرت مرارا لهذه الظاهرة، وأعطيت أمثلة عديدة له في كثير من الكتابات والمحاضرات..
لكن كما يتضح مما سبق، هذا يحصل مع الزمن، وإنضاج الخبرة، ودوام الاشتباك المنهجي والمراجعة الذاتية الصحية، والتواضع فيما نتعلمه ونقترفه من تجارب والابتعاد عن النظر والتعبير بشكل حدي، وإلا انقضت دهشة الابتداء وحس المغامرة الذهنية – فيتعثر كل ماسبق.
ولابد من الانتباه أن هذه المراحل الثلاث هي تصاعدية وممتدة وليست إحلالية. أي أن التلاقح بين الدوائر لا يُنهي حاجتنا للفصل المزاجي والمعرفي وإتقان عمله – في المُركبات التي هي في دائرة وتشوَش على دائرة أخرى.
——————————————
* من على قطار فينيسيا – روما ، تمييزا لمزاج ما كُتِبت فيه 🙂 !