“لقد حاولت منذ البدء أن أستبدل الوطن بالعمل ، ثم بالعائلة ، ثم بالكلمة، ثم بالعنف، ثم بالمرأة ، وكان دائما يعوزني الانتساب الحقيقي. ذلك الانتساب الذي يهتف بنا حين نصحو في الصباح: لك شيء في هذا العالم فقم… أعرفته؟”
غسان كنفاني
الحب بين الشعر والثورة
لئن كان ذلك الشوق الدفين فينا أن نُحِب ونُحَبّ، ويكون لنا أنس مع رفيقة لا تحده الرغبة أو تقيده الفكرة، شيء اعتيادي من جِبلّة البشر، فهو للشاعر ما يعطي له شرعيته، ويقدح قريحته ويصنع ملهاته وحكايته، فتتمازج قيثارة شعره وروحه الفائرة، بما يتخيله من عوالم خلف العالم المحسوس..
فإذا أضفنا للشاعر روح الثائر والفارس يصير العشق لامرأة حالّة أو صورة متخيلة – فرسا يقاتل به، ووطنا ثانِيا يزودُ عنه مع وطنه الأول، فتتوحد عليهما آماله وإخفاقاته. ولا يشعر حين يقامر بروحه إلا بهذا الدم الثخين من فؤاده يشحذ عزمه، ولا يقاوم أويقاتل إلا وهو يتخيل عدوه حائلا بينه وبين من يحب، ولا تتلبسه آثار النبالة والشرف إلا وهو يفعله ليليق بها فوق ما يقتضيه الطبع والأصل وتفرضه الديانة، ولا يتحرك نحو سلم الفناء للحق أو العزم لمواجهة عالم بأسره وإعمال مشرط التغيير فيه – إلا وفي خاطره لقاء بها لا فراق بعده.
ولهذا قلّما تجد الفروسية تاريخيا إلا وفيها قدر لايخفى من الفحولة والشبق المعنوي والجسدي، أخفاه أم أظهره، تعفف فيه لبقية من دين وخلق، أو تهتك.وكنت أجادل صديقا لي لا يفهم من حب الأنثى إلا استلابها فريسة للجسد ويعدّد لي أسماء لقادة فاتحين هنا وهناك لهم مثل ذلك ، وكنت أقره أن هناك جانبا حسيا وشهوانيا بالتأكيد في الحب، ولكن لن تجد ثائرا أو قائدا – ليس ذلك المهووس بتمكين الذات وعصارة المجد، إلا وفي داخله مثاليا ونبيلا وحالما وصادقا ومضحيا ومحبا للناس، وشاعرا – بالروح والتخييل ولو لم يتقن لغته وقواعده، ويثمّن الحب ويرتفع به – دون استقلال – عن مجرد الشهوة – ولو عزّت فرصه وغاب مستحقه..
وقديما كنت أحب قصائدا وأناشيدا عن البندقية و الحب، أو تلك التي ترى السلاح امرأة فاتنة، وهذه تجدها شائعة في الحركات الفدائية على اختلاف ايديولوجياتها (شقراء نادت، سأتني في حمانا ظبية، حلتى كفن….) ، وهذا ما عناه تميم في نثريته عن (الحب والحرب). وفي تجربتي الشخصية مع التخصص في مجال الاستراتيجية العسكرية ودراسات الحرب كذلك كانت هذه دوما تيمة مستمرة معي، فللدبابة – بالأخص – وللطائرة فضلا عن البندقية شفرات للتخييل الجسدي والعاطفي للأنثى.
الحب والدين
وعندنا في تراثنا الديني مذهبان في الحب؛ أولاه ما تجده في كتابات ابن القيم (الداء والدواء) و (روضة المحبين ونزهة المشتاقين) الذي يرى الحب مرضا وحاجزا عن الحب الإلهي وتكاليف الشرع غالبا، ويُسأل عنه صاحبه في أوله وليس في توسطه وآخره إذا تمكّن. وثانيه – ما حكاه الإمام ابن حزم في (طوق الحمامة) بموسوعية واستقصاء لمفردات الحب وحالاته ولكن مع تقرير فضل التعفف ووجوبه. وفي رأيي أن الأمر لا يأخذ حكما عاما، بل له تكييفات وتسييقات/ فإن رأى الفقهاء أن الزواج يدور على الأحكام الخمسة (وجوبا وندبا وجوازا وكراهة وتحريما) بحسب حال المستفتي، فعندي أن حالات الحب ودواعيه ومسالكه وتبعا لذلك مذهبنا فيه – تفوق الخمسين..
والحقيقة أن هناك مذهبا ثالثا، لأئمة الطريق يرون أي عَرَض يأخذنا عن الله منبوذ، فإن كان هذا في حب الأهل والولد، فهو في صنف العشق آكد. وكثير ما وجدت نفسي أقترب من هذه الحالات، ومنذ الصغر كنت متعلقا وأحيانا مُعلِّقا على حكم ابن عطاء الله السكندري، وهي في كل مادتها تنفض عنا غبار الغيرية وتقربنا من الله سبحانه.ولكن كما نص القرآن (قل لو كان آباؤكم وأبناؤكم وإخوانكم وأزواجكم ووو … أحبّ إليكم من الله ورسوله وجهاد في سبيله فتربصوا… الفاسقين) فلم يذم حصول أصل المحبة للأغيار ولكن وصم تفضيل المحبة والتقاعس بالفسق، وكذا أحاديث وحال النبي في حب الولد والزوجة (… فلا تؤاخذني فيما لا أملك)، وكيف أن الحال النوراني المُتخلّي ليس من طبع البشر ولا هو مناط التكليف (لو بقيتم على مثل ما عندي لصافحتكم الملائكة) (… وأنكح النساء – أنا أتقاكم فمن رغب عن سنتي فليس مني) ، بل حتى هذا فصّل في نقده ابن القيم في تقديمه لتوسط النبي في مقابل التخلي الكامل للفُضيل بن عياض.
.
لكن ما أدين به، أن حالات التخلي ضروية ولكن ليست دائمة؛ هي مطلوبة في محضن التربية والتبتل، وفي تعهدها أحايينا لتجديد الصلة، وحين تهجم غُبارة الأغيار ويأسن القلب وتُنكت فيه صور الدنيا عن ذكر الآخرة – خصوصا إذا وجب الارتحال والتضحية..الحب كملاذ
لكن هناك حال أخرى وهي التي قصدها غسان كنفاني؛ أن يكون الحب ملاذا نتحرك له من لنفرّ من تلابيب واقع مؤلم، وغطاء نداري به خيباتنا، وقشة نتعلق بها لتعطي لنا بعض شغف – ولو موهوما – كي نترقب به ذكر الغد، وقد يعفينا عن مرارة الإجابة عن السؤال اليومي عن المعذرة ودورك في هذا العالم.
في هذه الحال، ما نتعلق به هو الحب كحالة، وليس المحلّ،
وربما يهب لنا القدر تاليا، شخصا، أي شخص، وفق توافقات آنية ومعقدة (تتراكب فيها رغبات مكبوتة، ومشاعر مفتقدة، وأحوال نفسية وعقلية مهيئة)، فنلقي عليها هذا المخزون المخيالي والعاطفي. ونبقى في ذلك الإيهام نأخذ منه ما يزيد من تعلّقنا ونشوتنا وإحساسنا بالحياة حتى يصير إدمانا.
ولن تزيدنا خيباتنا في هذا (الحب) حين ينقشع الوهم، وتتعرى الحقيقة، وينعقد الإدراك ألا ثمّة من تعوض فينا هذا الجوع لحقيقة الواجب، وواجب الحقيقة – إلا إلحاحا لسؤال البدء والانتهاء.
بل كثيرا – لسرعة الإفاقة، كما اختبر غسان نفسه مع غادته في حياته وبعد استشهاده، تتعرى تلك الحقيقة بأبشع صورة ممكنة، وتكون المقابلة بين الحب الصادق والوفاء المستديم والشرف والنبل ، وتلك الأنوثة اللاهية، والخيانة المتسكعة، والغباء الماجن، نصلا يُقشّر عن وعينا وشعورنا تلك الغلالة الزائفة، فيجتمع علينا ألَمان – هذا الذي من الفقد والغدر، وذاك الذي دفعنا لهذه الحال ابتداء – من نحن وإلام ننتمِ ونقصد، حتى أنقذته مما هو فيه يدُ عدوه الحانية بتفجير سيارته في شوارع بيروت – رحمه الله.
وبالتأكيد أن جيلي الذي عاش تجربة ثورة يناير كان وقع الكارثة عليه عنيفا ومزلزلا، خصوصا منه الذي كان حلم الثورة عنده مستقرا لسنين طوال خلت، وارتبط بأشواق التحرير والوحدة وما قدم له حياته شابا في غمار النشاط الحركي والسياسي منذ الصغر ثم إنفاق الأعمار في التحصيل التخصصي بما ظنه أن يخدم به أمته وبلاده تاليا. قد وجد بعضهم ملاذا في الحشيش والتهتك، أو النقمة والرفض على ما اعتبره مقدسات سالفا دون درس وفحص معمق واتزان، أو فقط بالانغماس بالهمّ المعاشي والأسري – والخلط المتعمد وغير المتعمد لحظوظه الشخصية مع المسارات البائسة بعد 2013 في الإعلام والسياسة والتي أردت واقعنا أكثر، أو في اجتراع المرارة منعزلا ومحبطا ومقاربة الحب خيالا وحقيقة – والسير الأكاديمي والواجب الأسري – وفقط النشاط المهني بما يكفل عيش اللحظة لأسرته كما فعلت.
,,,,,,,,,,,
هذا ما أحببت قوله، ليس فقط في خاتمة هذه السلسلة – تعريفا بأربع مقطوعات شعرية، ولكن تقديما للحزمة الشعرية التي نشرتها تاليا بدءا من 2019، وبدأت ب (أسيف في أرض غريبة) مرورا ب (زيارة خاطفة لسبية حائرة)، و(نجوى)، وأبلغها وأفصحها (معارضات مجمعة) والتي كتبتُها في مرحلة صعبة أثناء إصابتي بالكورونا في مارس وأبريل 2022 وقد انعزلت في غرفة بحديقة نائية وتراكب عليَّ فتك مرض القلب والبدن، فكانت قذفات حارة ردا على أصدقاء لي حاولوا مواساتي وتسليتي بإرسال عيون الشعر القديم والحديث لي، ثم (خلِّ العذل) و (جدل شجي)، وأجمعها لهذه التجربة كان (ملحمة مدفن لعشق بلا معشوق)، وما تلى ذلك من أراجيز ومقطوعات مثّلت نزعات عشق محتضر، وشفاء مضنٍ وتدريجي لمرض عضال، و ميلاد متعسرلاستعادة ماكان من وهجٍ ومثال ولو أخذت منه مرارات السنين وتراكم الإحباطات وشيخوخة الروح.
وربما كان ما كتبته من وحي تجربة حية بكل مرارتها، أفضل ما كتبتُ في حياتي، وكنت فيه ناقلا وكاشفا ولستُ مؤلفا ومخترعا. وهو ينبطق عليه بالأخص ما قلته بالأعلى عن معضلة الحب ومراوغته وتوظيفنا له واستعماله لنا. وربما أعود إذا سمحت الظروف والسعة تاليا لعرضها والتعليق عليها وتقريب معانيها واختلاجاتها.:
وأول مقطوعات اليوم، كتبتها على طائرة القاهرة لندن في مايو 2013، وقد ازدحمت داخلي آثار التعافي من تجربة أسرية بائسة، وهروبا من واقع مؤلم أترقبه قريبا في التطور السياسي المصري وقد سبق أن حذرت منه منذ أول الثورة – مع شعور ببعض الراحة في تقديم المعذرة بكل أنواعها .. فكأنه نظرة للذات والغيب، دون اعتبار لأي سياق ومخلوقات أو مسار فعل فائت أو مرتقب.
…
أريني منكِ كلَّ أوهامِ الصِّبا أعيـــدي على مسمعي ألفّ ذكرى
أُحاذرُكِ دوما وأصحو بـــائسًا فهلا تَبيني أو تُبيني منكِ بُشرى
يُبادرُني الترحالُ بالسلوِ مُغضِبًا من شُهودكِ غير أني لستُ أبرى
وبجوارها…. وهو أول ما أخذته لأبدأ به مدونتي، وإعادة تواصلي مع الفضاء العام في 2016 بعد فترة انعزال طويلة.
….
لا لم يغادرْني الأسي فالحزن محراب النشور
أطويه عن لحظ الورى تذكيه من نفسي نذور
حتى إذا قرُب اللقا أطلقه أطيارا ونــــــور
أما هذه المقطوعة فكانت في 2015، وغابت عني ظروفها، ولكنها كانت في أقسى فترة حالكة من الإحباط وفقدان الشغف، فظهر هذا في انسحاب لشهود يكاد يبزّ أهل الطريق، في صورة عشق لم تألفها مدونات العرب من قبل (أنه سيبعث يوم القيامة دون قلبه الذي ارتحل مع حبيبته بالدنيا)
لتآيسيه من وصالِكِ واجهلي ولْتنفُضي عنكِ هواهُ الآفِلِ
أهــداكِ منهُ فؤادهُ فقبــلتِه ثم ارتحلتي دون أيّ تمـــهُّلِ
فبقى عليلاً في المنافي لا يرى غيرَ النُّجومِ وطرفكِ المُتعجِّلِ
في يومِ بعثٍ للورى مرتقَبِ يأتي خليًّا من حشىً مُرتحِلِ
ثم مقطوعة في 2017، تصف تجربة عارضة ولكن ثخينة في فتح المجال للرغبة، بديلا عن ملائكية العاطفة وتبتل الوجدان، وفقط ما قطعها حدود الدين والخلق، وتقييدات الوضع الاجتماعي والمهني، واختلاف الدين والثقافة.
حلَّت كظلٍّ آسِرٍ فيه الفرادةُ والصَّبـــ،ــابةُ والخديـــــعةُ والعنــــــــاءْ
فنمت على الوتد المشيـــخِ مخيلةٌ من عشقِ آتٍ لم يخــــالطْهُ الحيــاءْ
تهفو بأرواحِ السنونِ هواجسٌ فترِقُّ حينا بالهوى وتميدُ أخرى بالرثاء
في حقِّ أرتـــــالٍ من الغيـــدِ الذين مَضَوْا يُشيِّعــهُن صـدٌّ واشتهـــاءْ
أيكونُ وعدٌ فـــائتٌ يطوي الزمــــانُ به غَوادِرَ أم ذهـــــولٌ للوراءْ؟
***
في مُقلَتَيها تنثرُ الأشواقُ أسفــــــارًا من اليأسِ المُضُمَّخِ بالرجـــاءْ
وتمدُّ طرفـاَ حــائرًا فتُضيءَ مِفرَقَ بائسِ أزرى بهِ سوطَ القضـــاءْ
وتفِرُّ منها لَمَّةٌ فتُحــيــلَ ليلا دامــساً غســـقاً تَفَـجَّرَ بالضِّـيـــــــاءْ
ويصــير كالعُصفورِ مُلتــــاعًا بأنواءِ الهزيــــمِ ولا يؤمّنُه احتـــواءْ
وتفيـضُ من كشفِ الوصــالِ غمامةٌ تُصليه وَجْدًا غير أن بها رَواءْ