Scroll Top
الشعر

هذه القصيدة من الشعر الحُرّ، وتبقى ضمن نسقي الشعري المعتاد من الرومانسية الثورية. وأغلب ما كتبتُ كان العمودي، وربما لجأت للحر بشكل استثنائي في أوقات إنهاك عاطفي ولغوي، بحيث ارتأيت أن دفقات العاطفة تلك يصلُح لها أن تتحرك بتمامها دون صبِّ في قوالب محددة من الوزن والقافية، وكذلك حين ألتجيء وأجد براحا نفسيا في صيغة الرمز للتعبير عن معانٍ مركبة أو متوجّس منها، وهي تضيق بها هيبة وفخامة القصيدة العمودية. وإن كنت أحرص على بقاء جرْسِِ ما بأشطار من بحر ما وحفاظ على بعض القافية، ولا أجدني مرتاحا بأن أذهب مع الشعر الحر لأعلى درجاته التي تغيب فيها القافية والوزن مطلقا، ويستحيل شعرا منثورا.

ولي تجربة في المزج بين العمودي والحرّ في قصيدة (ملحمة شعرية: مدفن لعشق بلا معشوق)، وأخذتُ هذا النمط من تميم البرغوثي، وقدّرتُ قيمته حقيقة في التريُّض وتنويع النسق الشعري والعروضي تبعا لمحطات السردية الشعرية في ذات القصيدة.

أما سياقها، فكان ليلة باردة من ديسمبر 2007، في سكن الأطباء بمستشفى ايست سارّي جنوب لندن، وقد تجولت ليلتها طويلا في الغابة المحيطة بها قبل أن أعود لمخدعي وأكتبها قبل الفجر.

وكانت حياتي في هذه الفترة منقسمة بين الجامعة في ريدنج أدرُس الاستراتيجية العسكرية وأقيم بسكن الطلاب بها بشكل أساسي، ويومين أو ثلاثة أسبوعيا بسكن المستشفى.
وكنت أمازح نفسي وأصدقائي أني كنت أعيش شخصيتين متقابلتين تماما في المسلك والملبس واللغة كما كان د.جيكل ومستر هايد بالرواية المشهورة؛ الطبيب المهندم والمهذب والعطوف راقي الحِس في يومين، وبقية الأسبوع ذلك الأشعث غليظ الطبع والثياب وما تقتضيه دراسة الحرب من برود قاس أمام معاناة البشر وآلامهم – كما كان يوصينا كلاوزفيتس حين نتعامل مع الحرب واستراتيجيتها.
وبالتأكيد هذه مبالغة، فكان المخزون العاطفي والديني والثوري حاضرا في المساحتين، ولم تكن دراسة الاستراتيجية أو تعلّم الطب خليا من الغاية الشريفة والتعبد بها، ولكن كان التمايز في الطباع لا تخطئه العين.

وربما من الموافقات اللطيفة أن د. محمد مرسي – رحمه الله – زارني وقتها (وكان وقتها رئيسا اللجنة البرلمانية للإخوان ورئيس مكتبها السياسي) مع صديق مشترك لأفحص عينه من داء ما، وكان أن سافر لي من لندن في إحدى الليالي والمسافة كانت تبلغ فوق الساعة بالسيارة حيث أن المستشفى كانت قريبة من مطار جاتويك. وكانت ثاني مرة نلتقي وجها لوجه ؛ أول مرة كانت في لندن وتلتها بعد ذلك مرتان أو ثلاث قبل ثورة يناير، وكان رحمه الله دمثا وودودا وديّنا، ومتقبلا لمساحة النقد الحادة في حديثي، وإن كنت لا أخرجه من تقييمي السلبي للمُكنة السياسية فضلا عن القيادية والاستراتيجية والفكرية لما أفرزته الحركة الإسلامية في هذه المرحلة التاريخية من رموز وقيادات.

وداعي القصيدة كان أن خضت تجربة عاطفية قصيرة ولكن واهجة لفرادتها توقيتا ونوعا. حيث كانت لي زميلة جامعية من أمريكا اللاتينية وتدرس الدبلوماسية – أي هي مقابلة لي بشكل فج؛ ليس فقط فيما يدرسه كل منا، ولكن كذلك في تحررها الثقافي والأخلاقي المجحف . ولكن ربما هذه المقابلة دفعت لفضول إنساني قاد لفضول وشغف عاطفي.

وأذكر أول مرة حصل فيها تواصلٌ أن رأيتها جالسة وحيدة في قاعة التسجيل أول العام وبالرغم من دفء المكان إلا أن برودة شقت جسدي وحمدت الله أني معتادا على تصديري قناعا من الصلب في هكذا مواقف. وثاني مرة كنا مجتمعين كطلبة ندردش قبل سيمنار لقسم السياسة والذي يشمل مجموعتي ومجموعتها، وكانوا يحكون بشيء من الاستغراب أكثر منه هجوم على تقاليد الشعوب العربية والإسلامية، وهؤلاء اللاتين كأنهم من كوكب آخر عنا، بالرغم أن هذه البنت تحديدا كانت في تنظيم يساري ثوري في بلدها ووجدانيا هي مع قضايانا. وطلبوا رأيي فتحدثت بهدوء عن جوانب سياسية واجتماعية في بلادنا، وتطرقت لما انتقدوه من أمور كعقلية البكارة والشرف أنها ليست مفردة جسمانية ولكن روحا ومثال أخلاقي، وأن هذا كما يسري على البنت فهو على الشاب. فسألتني بشغف، يعني أنت لا تزال بكرا؟ للحظة ارتج عليَّ ثم أجبتها بهدوء -: نعم، فارتجت القاعة الصغيرة بالضحك والنظرات المُغرِضة.

وحصلت تواصلات بعد ذلك في إطار القسم العام أو السكن الجامعي، وعرفت هي أني طبيبا بالأصل وطلبت مني نصائح ووصفات أدوية، واختارت بحثا في مادتها الأساسية عن (حماس as spoiler كتطبيق لطريقة التعامل مع الحركات الرافضة والتي تريد إفساد اتفاقيات السلام، وكانت هذه فرصة للقاءات بيننا لأحكي لها عن تاريخ الحركة ورؤيتها وخياراتها.

وبعد ذلك توثقت الصلة، وبالتأكيد كانت التجربة شديدة الغرابة والتحرُّج لي، ولم يسبق لي التواصل القريب مع امرأة نتاج النشأة في محضن تربوي انعزالي منذ الصغر، وأكيد في هذا إيجابية كبيرة ولكن له سلبيات ظهر أثرها في هذه المرة وتجربة الزواج بعد ذلك. واستمر الأمر و مايظهر تبادلا في المشاعر – حتى وصلنا لنقطة المكاشفة والحديث عن الارتباط.
وإن ظهرت أمامي حواجز في الثقافة والدين، فبروح الشاعر كنت أرى أن العاطفة إذا صدقت لم يبق أمامها أي حواجز، ولكن ما طرحتُه من فكرة الزواج كان لوهلة ضاغطا عليّ وعليها. فمن ناحيتي، لم أتقبل فكرة أن تنشأ علاقة وتواصل حميمي دون هذا الميثاق الغليظ، وفي ذات الوقت رأيتُ الحواجز تلك كابحة لي عن التعجَُل، ومن ناحيتها بسبب البيئة التي أتت منها وكاثولوكيتها فإن مسألة الزواج تلك تبقى عتبة أخيرة ومقدسة. وبالتأكيد رفضتُ بشكل حاد أي علاقة دون هذا، و لم تسمح صرامتي وضيق أفقي حينها بالتفكير بأنماط من الارتباط الشرعي دون هذا الشكل الرسمي، فحصل الفراق ..

والحقيقة، بالرغم من محدودية التجربة إلا أن أثرها عليّ كان مؤلِما، وبقيت هذه الليلة أتجول لوحدي في الغابة المحيطة بالمستشفى ، وأعيد تذكير نفسي بما جُبلت عليه من عناوين ومثاليات وغائيات سابقة وحاضرة، ثم أستخدم قلمي الشعري في محاولة لفصد هذه العاطفة من داخلي، والنتيجة كانت سريعة وفعّالة، وهذا معنى ما قصدت سابقا أن الشّعر عندي كان استشفاء، في أغلب الأحايين وليس كلها لو أردتُ الدقة. ربما محدودية هذه التجربة، وكذلك تهيّج عزائم وأحلام التحرير والثورة والتي أوقدتها طبيعة الدراسة، ساعدتني كثيرا. فلم تبق بعد هذه الليلة داخلي إلا نغزات حين كنت أراها تاليا وألقي عليها سلامات عابرة في فُسحة الدراسة والسكن.

لا يراه القومُ إلا في المســـــاء

حين ينسحبُ الضياء

حين يزهدُ قرصه الوهّاجُ في بث المزيد

و يبادر بالفرار الطلق من فرط العناء

خلف هاتيك التلال

ساحباً كل النسيم

ناكرا كل وعود الأمس

عن صحوٍ مديد

حينها … يبدو”وليــــد”

لا يراه القوم إلا في المســـــاء

ليس يدري أيُّهم من أين جاء؟

كيف جاء؟

كيف يقضي وقته طول النهار؟

منذ عام كان أم من ألف عام؟

منذ أن كانوا صغارا..

يعشقون مهالكَ الفرسان من أجل الغرام

تسرد الجداتُ قصته لجيلٍ بعد جيـل

ينسجون من الخيال ألفَ أُحجيةٍ عجيبة

عن سره المدفونِ في الدارِ الغريبة

غير أن الهائم المشدوهَ في الدرب الثقيل

أيأس الأجيالَ عن فهم الحكاية

بعد آلافِ المقالاتِ و أوهامِ الرواية

يدركون..

أنهم لا يعلمون

غير ما شيءٍ وحيد

اسمهُ….فهو “وليـــــد”

لا يراه القوم إلا في المســـــاء

مطرقٌ دوماً

و في عينيه طوفانُ البكاء

تصاميمُ الرثاء

أعاصيرُ الإباء

ثاراتُ القــرونِ

بشاراتُ الجدود و وعدُ الأنبياء

لم يحاكِ أيَّهم يوماً

و لم يفتر ثغرٌ عن حديثٍ أو حداء

حين يأتي…

يبسط الصمت غلالاتِ الجليد

غير همسٍ من بعيـــــد

اصمتــوا…جاءَ “وليـــــــد”

لا يراه القوم إلا في المســـــاء

مسرعاً كالطيفِ لا يرضى البقاء

مثــــــل نَـــغـْـــــمٍ

يُجهضُ النايُ صــداه العذبَ

فيُفَجِّر في مداه

ألفَ ملحمةٍ

و ترجيعَ المراراتِ و جهراً بالوعيــــــد

_ أين تمضي يا “وليــــــد”؟

ذاهبٌ خلف التلال ؟

“ساحباً كل النسيم

ناكراً كل وعود الأمسِ”؟

أين تمضي ؟

سرَّك المدفونَ في الدارِ الغريبة ؟

لم يعُد سراً …!

فقد وطئته أقدامُ القرون

عشقَك المزهوَّ أو عهدَ الغرام ؟!

قد هتكت مقادسَه اللئام

لم يعد زهر و وجدٌ أو قُدود

لم يعد إلا قيود

لم يعد إلا يهود

أين تمضي يا “وليـــــد ” ؟!

لا يراه القوم حتى في المســـــاء!

أين يا قومُ “وليد” ؟

_ قابع ٌ خلف التلال

صار منقطعَ الرجاء

صار مصلوباً بقوس العشقِ

مرهوناً بأوديةِ الشُّرودِ

أضناهُ الغرام

_ ليس يا قومُ “وليد”…

من يبيعُ الدارَ و الأوطانَ و الحلمَ المجيد

من أجلِ الغرام!

ليس يا قومُ “وليد”…

من تضنيهِ آمادُ الذهولِ

و مراراتُ الرجيع…

إنه الأمل المُرَجىَّ في أخاديدِ الصقيع .

يقضيَ الأزمانَ يجفوه المنام

في صراعٍ ملحميٍّ..

ضد أكوانِ الشياطين و أوثانِ الظلام

لن يعود

لن يعود….

قبل أن يستلَّ سورةَ الإصباحِ

من حَلــقِ  الطِّــغـــــام

و يُتــــــرِّبَ وجهَه المَرضيَّ

في قُدسِ المــــقــــــام

حينها يا قومُ…

تُطريكم تباشيرُ الوعود

بالفجرِ المديــــــــد

بالفجرِ ” الوليـــــــد ” !

مقاطعة سارّي – جنوب انجلترا 25 ديسمبر 2007

Leave a comment