“لا يكن تأخُّرُ أمدِ العطاءِ مع الإلحاحِ في الدُّعاءِ – موجِبًا ليأسِك، فهو ضمن لك الإجابة فيما يختاره لك، لا فيما تختارُ لنفسِك.. وفي الوقت الذي يُريد، لا في الوقتِ الذي تُريد”
إن الدعاء والالتجاء لله في أمور الدنيا والآخرة، أمورنا الشخصية والدينية والعامة، هو واجب شرعي “قال ربكم ادعوني- أستجب لكم”، وحال إيماني “فإني قريب”.. غير أنه تعتريه أمراض قلبية تقدح في معنى العبودية والتسليم، وتقطع ثمرة الدعاء في الدنيا والآخرة. فأظهرها هو اليأس والقنوط من تأخر الاستجابة للدعاء المخصوص أو امتناعها.. فهذا أولا علامة على التعلق القلبي بمانطلبه من الله، وليس قيامنا التكليفي بواجب الدعاء، وانشغالنا بما يتيحه لنا من معاني القرب والأنس بالله والالتجاء إليه.
وثانيا، هو علامة على تفويت الفهم لمقصود شريعة الله في الدعاء وحكمته سبحانه في الاستجابة التي نصّت عليها الآية (أستجب لكم)، فهو يستجيب لحال الدعاء وليس لفحواه المخصوص والمؤقت. فاستجابته – سبحانه – قد تكون بتحقيقه لما هو أصلحُ لنا – على حسب علمه الأزلي وليس علمنا القاصر، وإن خالف منطوق وغرض دعائنا.. فقد ندعوه بتحصيل وظيفة أو مال أو ولد أو زوجة وحبيب أو مسكن أو مهجر بعينه، ولكنه سبحانه – يقضي علينا استجابة لدعائنا بشيء آخر هو الأصلح والأنفع.. بل حتى في أمور الدين والأمة، فقد تظهر لنا تفسيرات وترجيحات لمظاهر انتصار ورفعة دينية وعامة لشئون الخلق (انتصار عسكري، أو قصف حاكم ظالم، أو تمكين صالح…) ولكن حكمة الله وعلمه تستبدل شيئا آخر – هو أدوم وأعمق في منطق النفع والصلاح – بما نطلب. “ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم” فكان لتأخير النصر قيمة تهذيبية وإصلاحية. وكما دعى المؤمنون بقصف بني أمية وتوالت لأجل هذا أرتال من الشهداء وسيدهم سبط النبي، وتمكين دعوة (الرضا من آل محمد) ولكن حين قامت دولة بني العباس تجاوزت في منطق الخسف والبطش والاكتناز وادعاء الحكم الإلهي ماكان عليه سابقوها. وفرعٌ من هذا، هو الاستجابة لما نطلب ولكن بتأخيرٍ لوقته إلى حيث يكون صلاحه على الحقيقة.
وهنا إشكال ولطيفة.. فقد ينشا تعارض بين واجب الأخذ بالأسباب وتمحيص الأدوات والآثار والمآلات وفقه السنن التي تفترض معرفتنا للصواب والخطأ فيها وإن بدون قطع، وبين منطق التسليم والتفويض الذي يغيب عنه الجزم بالنفع العاجل والآجل للمواقف والأحوال..
وجوابُ ذلك، أن المؤمن كلَّفه الله – في ذات الأمر والوقت – بواجبات في عالم الأسباب والجوارح، و أخرى في عالم القلوب والاعتقاد.. فنحن مكلفون في عالم الأسباب بمنطق النظر الشرعي (درجاته وحدوده وحجيته) والدنيوي (العلم الطبيعي، والاجتماعي، والسنن التاريخية، والجدوى الاستراتيجية .. مثلا)، ولكن القلب هو مُفوّضٌ لله في ذات الوقت، غير جازم بتمام (الحقيقة) في معرفة الأثر وصلاحه، فلايربط اعتسافا بين السبب والنتيجة المتخيلة، ولايحكم عليها بقطع صواب أو خطأ، ونفع أو ضرر.. وإنما يردُّها لعلم الله الأزلي، وحكمته.
“ربما أعطاكَ فمنعك، وربما منعك فأعطاك!”
“متى فُتِحَ بابُ الفهمِ في المنع، عادَ المنعُ عينَ العطاء”
ويرتبط بهذا إدراكنا أن حكمة الله في العطاء والمنع – إلحاقا بدعاء أو بغير دعاء – هي جدُّ عجيبة.. فقد يُعطينا الله ولدا أو رزقا أو سلطة أو حبيبةً أو صديقا أو نصرا أو علما.. ولكنه عينُ المنع – إما لحصول الفساد والسوء معه – كقوله تعالى :وَاعْلَمُوا أَنَّمَا أَمْوَالُكُمْ وَأَوْلَادُكُمْ فِتْنَةٌ وَأَنَّ اللَّهَ عِندَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ” فكل الأموال والأولاد فتنة وامتحان عسير، فإن رسبنا فيه – صارت أعداء، فعبّر هنا ب (من) .. “إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُم وأولادكم عدوا لَّكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ”، “وأما الغلامُ فكان أبواه مؤمنين، فخشينا أن يرهقهما طغيانا وكفرا”
.. أو يكونُ داعيا للاغترار بالدنيا والإخلاد لها “إنما نحن فتنة فلا تكفر”، وهو سبحانه غيورٌ على عبده المُقرّب، أو تورطا في نسبة الفضل للذات أوالعمل أو مطلق الدعاء ومن يقوم به وليس فضل الله وقدرته “قال إنما أوتيته على علم عندي”. أو تحريشا بين المؤمنين وحسدا بينهم وهو أشد سوءا (يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَنفَالِ قُلِ الأَنفَالُ لِلَّهِ وَالرَّسُولِ فَاتَّقُواْ اللَّهَ وَأَصْلِحُواْ ذَاتَ بَيْنِكُمْ)..
وقد يكونُ في المنع عكس ذلك – وأهمه، تجلٍّ لله بقدرته وهيمنته على عبده، واستشعار الأخير وضاعة شأنه وقلة حيلته أمام خالقه، وهذا هو عين العبودية “أن أسلموا” “لاحول ولاقوة إلا بالله”، وهذا هو الحال الذي بلغ به النبي أقدس أحوال العبودية، وأرفع مقامات الفضل، وترك لنا أرق تعابير النجوى والالتجاء (أشكو إليك ضعف قوتي وهواني على الناس… إن لم يكن بك غضب علي فلا أبالي، غير أن عافيتك هي أوسع لي..)..
ومتى فهم المؤمن تلك السياقات التشريعية والسلوكية، والأحوال القلبية والذوقية التي تُحيط بمعاني المنع والعطاء، فسيرى في المنع عطاء، ويتوقي في حال العطاء منعا.
“لاتطالب ربّك بتأخر مطلبك، ولكن طالب نفسَك بتأخُّر أدبِك”
فإن تعَدّي المؤمنُ مقام التفويض والتسليم – فيطلبَ من الله مُغاضبا توفية دعائه وطلبه، وقد ينجرّ لنكوص وغفلة “وذا النونِ إذ ذهب مُغاضبا، فظنَّ ألن نقدرَ عليه”، فأولى به أن يُطالبَ نفسَه بأن تنزجر عن سوء الأدب في حق خالقه، ويتوب أولا فقد ظلم “فنادى في الظلمات لا إله إلا أنت سبحانك إني كنتُ من الظالمين”.. ولايخلطُ بين مقام العبد ذي الفهم القاصر والاحتياج والفاقة، ومقام المعبود ذو الحكمة العليّة، والقدرة المطلقة، والقهر لعباده ولماخلقه من أكوان وأسباب وسنن.
“طلبُك منه – اتهامٌ له، وطلبك له – غيبةٌ منك عنه، وطلبك لغيره – لقلة حيائك منه، وطلبك من غيره – لوجودِ بعدك عنه”
وكل ماسبق – هو مقامُ الواجبُ الشرعي في عالمي الأسباب والقلب. فالدعاء والطلب من الله واجب، والتفويض والتسليم القلبي لنتيجته، وحفظ الأدب مع الله بعدم الإلحاح في تحققها واجب أيضا. غير أنه قد تطرأ على المؤمن أحوال عليا، يتعفف أن يطلب من الله سبحانه مايكونُ من شئون الدنيا، على التفصيل.
فقول الشيخ (طلبك منه اتهام له) لاتطعن في شرعية الدعاء فهو من أقدس واجبات الديانة، ولكنها تصف حالة عفة وسكونٍ وتفويض فيما يخص الدنيا (كاكتفاء إبراهيم بقول حسبنا الله ونعم الوكيل حين ألقي للمنجنيق – كما في الصحيح).. وقد يتوقف المؤمن عن الدعاء إذا استشعر بوادرا لسوء الأدب، أو شدة تعلقٍ قلبي بفحوى الدعاء وليس المقصود التكليفي والعباديّ منه.. كمثل ما ردّ النبي صلى الله عليه وسلم) على عمر حين سأله – ادع الله فليوسع على أمتك، فإن فارس والروم وُسع عليهم وأعطوا الدنيا وهم لا يعبدون الله”، وكان متكئا فقال: ( أو في شك أنت يا ابن الخطاب ؟ أولئك قوم عجلت لهم طيّباتهم في الحياة الدنيا) .. وكذلك في رده على الخبّاب حين سأله وقد أهلكه تعذيب المشركين/أَلا تَسْتَنْصرُ لَنَا أَلا تَدْعُو لَنَا؟ فَقَالَ: قَد كَانَ مَنْ قَبْلكُمْ يؤْخَذُ الرَّجُلُ فيُحْفَرُ لَهُ في الأَرْض.. بقية الحديث).. فذاك المقصود
(وطلبك له غيبة منك عنه) – هي كذلك حال علية، فحسنات الأبرار سيئات المقربين.. فكيف ينساه هؤلاء حتى يذكره؟ وهل يفتقدونه – جل شأنه حتى يطلبوه؟! ولعل هذا التمييز حاصل في شرح النبي لمعنى (الإحسان) بركنين متفاوتين : أعلاهما – أن تعبد الله كأنك تراه (الشهود)،وأدناهما – فإن لم تكن تراه فإنه يراه -أي تجتهد في طلبه والاستشعار بحضوره (المراقبة)
(وطلبك لغيره – لقلة حيائك منه) – كما في الحديث: “من كانت هجرته لله ورسوله، فهجرته لله ورسوله، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها، أو امرأة ينكحها فهجرته إلى ماهاجر له”.. وهذا ليس فقط في انحراف النية بأمور الجهاد والعبادة.. بل إن تغلّب طلب الأغيار وحبهم على حب وطلب الله والرسول والجهاد من علامات الفسق، كقوله تعالى “قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللَّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُوا حَتَّىٰ يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ ۗ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ “
(وطلبك من غيره – لبعدك عنه) … كقوله صلى الله عليه وسلم “مَنْ تَكَفَّلَ لِي أَن لا يسْأَلَ النَّاسَ شَيْئًا، وَأَتَكَفَّلُ لَهُ بالجَنَّة؟ فقلتُ: أَنا، فَكَانَ لا يسْأَلُ أَحَدًا شَيْئًا”. رواه أَبُو داود بإِسنادٍ صحيحٍ. وسؤال غير الله – اعتقادا عقليا بمصدرية النفع والضرر من غيره عملُ كُفرٍ… أما ميل القلب لطلب النفع وتوقّي الضرر من الخلق، مع التسليم العقائدي العقلي لمصدريتهما من الله .. فهو فساد إيماني، ونكوص عن الإيمان الكامل بربوبية الخالق – فهو معصية وليس كفر “لانريد منكم جزاء ولا شكورا” – “الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا “وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ
“لا ترفعَنَّ إلى غيرِهِ حاجةً هو مورِدُها عليك، فكيف يرفع غيره ماكان هو له واضعًا؟!.. من لايستطيع أن يرفع حاجة عن نفسه، – فكيف يستطيعُ أن يكون لها عن غيره رافعا؟!”
وهذا مزيد إيضاح لفساد عقل وقلب من يُلحق قدرةَ المنع والضرر بالمخلوقين.. ولنا عبرة في منطق تأسيس الإيمان الإبراهيمي الذي شرحه لقومه حين تنقل بين الشمس والقمر والنجوم مُحاججا (فلما أفلت… إني لا أحب الآفلين) .. فما من مخلوق إلا والأفول موئله، والضعة والزوال حكمه.