على هامش حِكَمِ ابنِ عطاءِ الله السكندري – 1

 

(من علامة الاعتماد على العمل، نقصان الرجاء عند وجود الزلل) ..

قد نفهم من هذا المعنى المباشر الذي عليه المتصوفة، وهو أن من يرى أن عمله مايرفعه وينجيه عند خالقه – وليس رحمة الله وفضله – يقنط عند الخطيئة.. وللمعنى نسبٌ في قول النبي (لايدخل أحد الجنة بعمله ولكن بفضل الله ورحمته …. ولا أنا حتى يتغمدني الله برحمته).. وإن مقام الصدق الكامل مع الله – يجعل المؤمن لملاحظة الله مشغولا عن دقائق الناس وذات العمل – وهذا ماذكره ابن القيم عن درجات الإخلاص الثلاث (ألا يرى الناس في العمل – أي الرياء، ثم لايرى نفسه في العمل – أي العجب أو الرغبة في تحصيل مقام يشعر معه بالرفعة وهذا من الشهوة الخفية، ثم لايرى العمل في العمل – أي ينشغل بالله عمايُفضي إليه)..
ولكن معنى آخر ممكنا، وهو نقصان الرجاء حين تغيب النتيجة الدنيوية المقصودة من العمل – كهزيمة بعد الجهاد، أو فشل بعد السعي.. فهذا يدل على امتزاج القلب واندفاعه بالعمل، وليس كونه متعبدا لله به.. فلو الثانية، فقد تحصّل على رضا والله والأجر بشرط صدق التوجه، فلم يُحبط وينخذل حين يرى الهزيمة.. غير أن حصول الحزن والهم – لأجل الله ودينه، كما كان عليه النبي، مفهوم، ولكن لايقود لإحباط وخذلان – هكذا يجب، أو يكون مرده تعلق بالعمل وثمرته أكثر من حزن لله.. وهذا أمر يدقّ، ونبتلى به جميعا، وعاتب الله فيه يونس وعاقبه عليه.

…(إرادتك التجريد مع إقامة الله إياك في الأسباب من الشهوة الخفية، وإرادتك الأسباب مع إقامة الله إياك في الأسباب نكوص عن الهمة العلية)

وكذا هذا، فماعليه فهم القوم.. أن اندفاع القلب لمقام التجريد (أي انعزل عن الخلق وأسباب الدنيا لغرض العبادة والزهد) مع أن مُراد الله منك هو الأخذ بتلك الأسباب – قد يكون مدفوعا بشهوة خفية إما رؤية للناس أو لنفسه أو عمله.. وأن اندفاعك للأخذ بالأسباب مع أن الله أبدى لك شواهد رجّحت لك ضرورة ملازمتك للتجريد هو نزول عن المقام العالي.

ولكن المقصود أوسع من تلك الحالتين حصرا، فهو حالة أن يريد المرء أمرا وحالا – حتى وإن يكن صالحا – لايتوافق مع مراد الله منه، سواء كان هذا المراد عملا دنيويا أو انعزالا، أو كان مفاضلة بين عمل شعائري، أو علم أو جهاد، أو كان حالا دنيويا مباحا كتعلق بامريء أو وظيفة أو مسكن – على حساب حال دنيوي آخر مثلا.. وهذا ماأشار له ابن القيم في (الفوائد) : “المحب الصادق من كان فعله هو مراد الله منه، والمحب المريض من كان فعله هو مراده من الله” فالأخير يبقى محبا لأنه يتقرب لله بالصالحة، ولكن مرضه أنه يُقدّم مراده وترجيحه على مراد الله لشهوة خفية.

وكيف نعرف مُراد الله؟ فالأظهر هو فقها وعلما، بمعرفة الواجبات الشرعية ومقايستها على القابليات والقدرة.. (إن ترك الترتيب بين أمور الخير من جُملة الشرور) كما قال الغزالي، و (ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب..) وأحاديث وآيات ترجح جهادا لامريء، وأخرى ترجع عليه برا للوالدين، أو إنفاقا وإعالة للمساكين، وأخرى ترجح العلم والتفقه.. فكل هذا تحكمه أمارات شرعية عامة، أو خاصة بأحوال للأمة عامة (ففي وقت صد العدو يتعين الجهاد ويفضل ماسواه)، أو بالمرأ وقدراته (لايكلف الله نفسا إلا ماأتاها).

ولكن الأدقّ والأغلب هو أن نبقى في حال الشك وعدم اليقين أن ندرك مراد الله منا ومنطق إعذارنا الله، ومع مافي ذلك من تنغيص للقلب واستدعاء للهم لطبيعتنا البشرية، فحريٌّ به أن يجعلنا دوما نلتجيء لله ونُظهر له قلة حيلتنا في تعرُّف مراده، ويبقى هذا معاناة تكليفنا حتى الممات. وفوق هذا ماذكره القوم، أن تظهر لنا ثمرات حال بعينة التجريد أو الأسباب الدنيوية (بالصلاح والتوفيق) أو الدينية( بنضارة القلب ومعاني الأنس بالله) وتنغلق أمامنا في الحال الأخرى.

(سوابق الهمم .. لا تخرقُ سوابق الأقدار)

وهو من صنف معنى الذكر بعد الصلاة (ولاينفع ذا المجد منك الجد).. فإن قضاء الله لأمر لاينفعنا معه علوّ الهمم وكثرة السعي وبذل الجهد.. وهذا الأمر ليس فقط في شأن دنيوي خاص (كتحصيل وظيفة، أو قرب من حبيب وارتباط به، أو إنقاذ أب أو ابن من داء عضال، أو تحصيل مال أو سفر)، ولكنه يشمل الأمور الدينية (كمقام انتصار بعد جهاد، وثمرة تربية وتعليم، .. وهكذا).

وكمثل الحكمة السابقة.. فقد يكون مردُّ الخلل مرضا بالقلب يجعلنا متعلقين بحال ومقام، ولكن يزيد عليه الغفلة عن إدراك معنى القهر في قدر الله والخضوع له. وبه ذات الإشكال السابق: كيف نتعرف أن هذا قدر الله، خصوصا أن مُعظم ثمرات أعمال الدنيا والآخرة لاتظهر   من أول السعي، ولكن مع استدامته وتكراره؟ وأنه لاينبغي الاحتجاج بقدر الله قبل استنفاذ ما أُتيح لنا من أسباب – كردّ عمر على من احتج عليه بالقدر سواء في الاعتكاف وعدم طلب الرزق، أو الفرار من الطاعون بالشام.. فقال للأول (إن السماء لاتُمطر ذهبا ولافضة)، وللثاني (نفر من قضاء الله إلى قضاء الله) .

يحصل لنا الاقتراب من معرفة قدر الله، بزيادة التعرف على شواهده وآياته في كتابه المقروء والمنظور، وبأن نصل لحال استفراغ الأسباب فعليا حتى لايبقى منها سبب لاتُهراق معه كرامة المرء ودينه، حينها – لابد أن يقنع عقل المرء، ويسكن قلبه لقدر الله، فإن سوره لاتخترقه همته!

 

2 thoughts on “على هامش حِكَمِ ابنِ عطاءِ الله السكندري – 1”

Leave a comment