حوارات استراتيجية 2: حول تحوير الاستراتيجية العظمى، والنظام المصري في ليبيا
الامتنان الوافر للصديق العزيز مصعب على تفريغ وتهذيب هذه الحوارات..
التدافع الاستراتيجي التركي والمصري في ليبيا، وأزمة شرق المتوسط
في السيناريو الثالث الذي طرحتَه حول إمكانية أن يغير النظام المصري سياسته بخصوص ليبيا بشكل أكثر رشدا.. كان عندي سؤال بشكل عام -ليس حول النظام المصري تحديدا- هل يمكن -نظريا للقيادة السياسية المأزومة تغيير بنية استراتيجيتها تجاه ملف بعينه تحت ضغط عامل خارجي؟ -الحرب مثلا- …أم أن الأكثر هو تعميق الأزمة من البُنى والمفاهيم الخاطئة وزيادة حجم الكارثة… فالتكيف امر مرتبط بالعقل الاستراتيجي وهو فعليا ليس موجودا بالأساس، ويزداد عناؤه تحت ضغط الأزمة؟
——–
هناك مفارقة، أشبه بمفارقات الاستراتيجية التي طرحها لوتواك في
(Strategy Paradox)
تتعلق بهذا النوع من الإشكالات وذلك أن الأزمات على نوعين: حادة حرجة ، وأخرى أقل كثافة وشدة ولكن لها مدى زمني ممتد نسبيا. ودواعي التغيير سواء في السياسة أو الاستراتيجية تكون أكثر في الأولى لأن النموذج السياسي والاستراتيجي ثبت فشله وأدي لأزمة حادة وهذا ما يمكن ان نسميه – كما عبّر روبرت سميث في
Utility of Force
(Paradigm Shattering)
لكن في نفس الوقت فرصة حدوث مثل هذا التغيير والاستعداد النفسي والمؤسسي والفكري للتعامل مع حالة الأزمة تكون بشكل أكبر في النوع الثاني من الأزمات وذلك لقلة الضغط وما يشوب الأزمات الحادة من غموض واضطراب فهذه مفارقة موجودة.
لكن كما أشرتَ أنت فمسألة العقل الاستراتيجي وتهيؤه للمراجعة السريعة للفرضيات التي قامت عليها السياسات والاستراتيجيات وخلق فرضيات وصياغات مستجدة بشكل سلس هو الحاكم. ولكن مهم أن نفسر العقل الاستراتيجي بمعناه الشامل كما ذكرنا سابقا من جودة البنية الفكرية والاستراتيجية لدى القادة ، وطبيعة المؤسسات الموجودة وتركيبها واتساعها وتكاملها، وغلبة التحليل النقدي والمستقصي من عدمه ورشادة العلاقات المدنية العسكرية، وملاءمة منظومات التسليح ومنظومات بناء القدرات والموارد لخارطة واسعة تسمح التنقل بين خيارات استراتيجية متنوعة دون اضطراب كبير.
كل هذا من المقومات التي يرتبط بها صعوبة او سهولة مراجعة النماذج السياسية والاستراتيجية السائدة والبحث حول حلول جذرية.
أيضا هناك مشكلة أخرى – فبعض السياقات المعينة كما ذكرنا سابقا مثل المنهج القتالي أو منظومات التسليح من الصعب تغييرها في وقت الأزمة لأنها تستغرق بعض الوقت وأي تغيير بشكل عام لابد من مصاحبته لبعض الاضطراب على الأقل لمدى قصير وهناك دراسة جيدة لمائير فينكال
On Flexibility
وهي تناقش مدى مرونة المؤسسة العسكرية والقوات المسلحة في التعامل مع المفاجآت الحادة على مستوى التكتيك والتقنيات في أثناء المعركة والامر يرتبط هنا ببعض المقومات مثل التعقد والاتساع والشمول والمرونة في بيئة القيادة واتخاذ القرار، والعقيدة القتالية ومنظومات التسليح بما يُسهل من التنقل من نمط وآخر وأحيانا تنجح وقد تفشل كذلك، وهو درس سبع حالات منها اثنان عن خبرة إسرائيل في حرب أكتوبر (سلاحا الطيران والمدرعات ضد مفاجآت الدفاع الجوي ومضادت الدروع على الترتيب)….
فالمؤسسات تختلف بالفعل وإذا كان هذا الكلام على المستوى العملياتي والتكتيكي فهو أكثر تعقيدا على المستوى السياسي والاستراتيجي، فليس كل شيء يمكنك تغييره بشكل سليم وفعال في وقت الأزمة، ولابد أن تتبع خطين للعلاج، أحدهما إسعافي حرج، والآخر بنائي متدرج.
هناك أيضا نقطة أخرى تتعلق بالتعامل او التعاطي مع االاستراتيجية العُظمى
grand strategy.
وكما تعلم فليدل هارت حين خلق المصطلح قصد به معنيين: الأول ما أحبذ تسميته بالاستراتيجية الشاملة لتمييزه عن الثاني (وهو إدارة مقومات القوة العسكرية وغيرالعسكرية .. ديبلوماسية، اقتصادية، جغرافية، ثقافية، مخابرات…. لتحقيق أهداف السياسة)، ولكن اهتمام الكثيرين هو حول المعنى الثاني – الذي يمكن أن نبقي على تسميته الاستراتيجية العُظمى (الإدارة طويلة الأمد لخيارات السياسة والاستراتيجية لتحقيق الأهداف العليا). وبالنسبة للثاني.. المدرسة السائدة تفترض وجود تصميم كلى و شامل يتم وضعه ابتداء وتتحرك فيه المنظومة والكيان على مدى طويل.
بالمقابل يعتبر البعض أن الجراند استراتيجي كتصميم كلي مسبق، هي أسطورة لا وجود لها في الواقع.. وكثيرا للأسف، مايفترض مؤيدو التصميم الكلي درجة عالية من تأطير الممارسة الواقعية والتاريخية غير موجودة. وهذا ما لامه الكثيرون على ليتواك في دراساته عن الجراند الاستراتيجي للإمبراطوريتين الرومانية والبيزنطية – أنه جمع قصرا سيل الحقائق التاريخية في تصميم متقن يخالف كثيرا من النتوءات خارجه وتجاهلها ليتواك، وبالتأكيد ليس ثمة دليل تاريخي على وجود هذا التصميم في عقول صانعيه المفترضين ، فهناك جزء ضخم من الأمر يصح أن نطلق عليه
Emergent Grand Strategy
– كما يطرح هؤلاء، فالاستراتيجية العظمى تلك تنشأ من سلاسل غير موضوعة سلفا من القرارات والتغيرات في السياسات والاستراتيجية تفرضها معالجة الأزمات الحادة.
شخصيا – لاأتبنى بشكل كامل أيا من التوجهين؛ فالتصميم الكلى – حتى لو درجة افتراضية وشديدة العموم منه – مطلوب وحاصل بكل تأكيد، ولايمكننا أن نتجاهل نظرية
Cannon
عن الاحتواء مثلا وماتبعها من مشروع مجلس الأمن القومي الأمريكي رقم 68 على مجمل الاستراتيجية العظمى الأمريكية في الحرب الباردة، ولا نظرية بن جوريون حول المعركة الممتدة
Indefinite Battle
على السياق الإسرائيلي، وهكذا.. وفي الوقت نفسه تخبرنا النظرة الامبيريقية بدور الأزمات الطارئة في تخليق وتغيير الاستراتيجية الشاملة.
في تلك الأزمات، صانع القرار يتعاطى مع المشهد باعتباره حالة حرجة تستلزم قرارا عاجلا جذريا أو تفصيليا، وليس في وعيه غالبا أنه يصنع تصميما استراتيجيا جديدا .. ولكن كثيرا ما تقوم هذه القرارات المصيرية بخلق آثار ومتواليات ينتج عنها تعديلا في الإطار الاستراتيجي العام مع الوقت. وهذا حدث عشرات المرات مثل الحرب العالمية الأولى وبيرل هاربور والحرب الكورية وأزمة الصواريخ الكوبية، وحرب فيتنام وما أحدثته من تقارب سوفيتي امريكي مثلا،
وأيضا حالة عبد الناصر في 67.. فقد كانت لديه نظرية معقولة للحسم الاستراتيجي مع إسرائيل.. فيها يستلزم تحقيق تطور عسكري وتنموي ووحدة بين دول الطوق لتشتعل حرب حاسمة متعددة الجبهات، ولابد أن تكون خاطفة قبل تدخل القوى الكبرى، والتي بسبب ديناميات الحرب الباردة تضع سقفا للتصعيد على الحروب الصغرى والإقليمية – أسقفا بتحكمها مبدئيا في مسارات التسليح ثم تدخلها فعليا. وكان هذا يقتضي منه سياسة (عدم الانحياز الإيجابي) مثلا، بعدم التبعية لإحدى القوتين، مع اقتراب واضح مع السوفيت.
ولكن بعد الخسارة الكاملة، تغير السياق بشكل مختلف وكلى فالجيش محطم وصارت البلد معرضة لخطر الاجتياح.. هنا صار التصميم الاستراتيجي السابق خارج السياق بالأصل، لكن في ظني أن عبد الناصر كان لديه نوع من الادراك ببداية استراتيجية كلية جديدة من التحالف مع السوفييت ومنحهم قواعد عسكرية بمصر، واعتماد استراتيجية تدريجية، والتي تبدأ بحرب الاستنزاف بغية تفعيل السياق الديبلوماسي وتخليق بيئة يتم إعادة بناء الجيش وتدريبه في بيئة الحرب واستعادة الثقة، ثم التحرير المرحلي، وهنا يمكننا فهم من أي سياق أتى مشروع رودجرز.
———-
بالنسبة للنظام المصري الحالي وأزمة ليبيا، وبالرغم من البؤس السياسي والاستراتيجي والملهاة الإغريقية التي وصل لها، فلاحظ أنه لا تزال هناك مؤسسات والسيسي على الرغم من إخصائه وإقصائه لها (مثلا المخابرات العامة) ، إلا أنها لاتزال تحتفظ ببعض الاطروحات التي تتميز بشيء من الرشد، لكن نظرا لوجود تصور شخصي موهوم عنده بخصوص قدرته الكونية وضحالتها على الحقيقة، وتسيد المخابرات الحربية للمشهد.. اتخذ النظام اتجاهاته التي نراها.. ولكن قد يلجأ لبعض هذه الأطروحات عندما يشعر بالإفلاس.
والدليل على ذلك تعامل النظام المعقول مع أزمة محمد على – حين كف القبضة الباطشة والانتقامية نسبيا، وتسيد حديث -ولو شكلي وغير صادق- عن اقتراب الإصلاح السياسي والإعلامي، حينها لو تذكر تخيلت العقليات المغيبة في تيار الإخوان وحلفائهم وخطاب الجزيرة وجود انقلاب داخلي مثلا!! .. ولكن ماحصل فعليا أن تلك الأطروحات الأكثر رشدا هي ما نجحت في التعامل مع المشهد، ولماذا؟ لأن النظام أدرك بجلاء إفلاس الفرضيات القائمة عليه سياسته الداخلية – أن قتل الحياة السياسية والتصفية الأمنية لأي نفس معارض أو مستقل واحتلال كامل لمساحة الإعلام والتداول العام من شأنه أن يمنع أي تحرك شعبي مضاد ويحفظ استقرار النظام. فضغط الأزمة هناـ دفع النظام لتبني أطروحات مرجوحة ضمن دولابه لتخفيف آثارها، ولكن بالمقابل، تم طرح جزء كبير – وليس كل شيء – منها بعد انقضاء تلك الأزمة ولو مؤقتا.
و لكن هناك أيضا ملفات -حتى بدون سياق أزمة – نجح نسبيا في التعامل معها بشكل ما، لوجود معطيات حرجة .. فسوريا ليس من تماس معها ووتصوره للتعامل معه يتماثل مع قناعته حول أولوية الجيش لحفظ الدولة فضلا عن مرارة تتعلق بتحطيم هذه الدولة المحورية في الوجدان السياسي والعسكري المصري، واليمن لا توجد فائض القدرة العسكرية لإهدارها في معركة محكوم عليها بالفشل من أوله.. وهذا مما ساعده على اتخاذ مواقف فيها شيء من الحكمة.
وفوق هذا.. من الأمور المهمة والتي تستحق النظر هنا منهجية تنويع التسليح التي اتبعها النظام المصري وهي من الأمور الجيدة في آخر 5 سنين ولها العديد من الآثار الحقيقة والجادة وأيضا هذا ما فعله الأتراك.
هنا نحتاج للتساؤل – عودة لموضوع تحويل الاستراتيجية – حول الدوافع لاتخاذ مثل هذه القرارات وطبيعتها.. هل كانت جزءا من استراتيجية شاملة مستجدة يتخذها النظام عن وعي، أم انها كانت ردود أفعال على أزمات حادة كما هو واقع الأمر: مثل ابتزاز الأمريكي تبعا لموقفه من مصر بعد 2013 وتجميد المعونة العسكرية وفي الناحية الأخرى أزمات 2014 و 2015 لتركيا وأزمة كوباني، وكلا الطرفين انتقلا من حالة الاستخدام للملف لأجل المساومة مع الأمريكي لإدراك مدى أهمية الأمر كاستراتيجية عامة. نعم – دعاوى التوجه شرقا لروسيا وتحدي أمريكا التي سادات الخطاب الإعلامي المصري والسلوك الديبلوماسي انقضت بانقضاء أثرها، ولكن بقيت نقطة تنويع السلاح – والتي خضعت لذات السياق – باقية وتجاوزت عوامل الاضطرار المؤقت للفعل الممتد.
ختاما.. نعم في رأيي يمكن للنظام المصري الحالي بكل عواره البنيوي والوظيفي اتباع أطروحة ما تكون معقولة، وإن كنت لم أرجح حصول ذلك بشكل واضح وقريب بالمقال.. لكن المشكلة مع هذا النوع من الأنظمة ارتباط المحددات بالمزاج الشخصي لصانع القرار وأعتقد أنه قد يشعر الآن بالإفلاس في ليبيا، مما قد يدفعه للحركة بشكل إيجابي مثلما حدث سابقا مع ثورة السودان او في حالة حماس 2014، ولكن ليس عنده من الرشد الكافي والإرادة الحاسمة لتفعيل ذلك بشكل سريع.