تحليل استراتيجيمقالات منوعة

حملة غزة مايو 2023 والمنطق الاستراتيجي: حدود التصميم، والتوظيف، والتراتب العشوائي

https://www.raialyoum.com/%D8%AF-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D8%AD%D9%85%D9%84%D8%A9-%D8%BA%D8%B2%D8%A9-%D9%85%D8%A7%D9%8A%D9%88-2023-%D9%88%D8%A7%D9%84%D9%85%D9%86%D8%B7%D9%82-%D8%A7%D9%84%D8%A7%D8%B3

:يهمنى ابتداء التوكيد على

أ. قيمة الحس والمنطق الاستراتيجي في فرز أكوام التفاصيل والأحداث التكتيكية لفهم أوسع لمنطق المآل الاستراتيجي لها.. أي : كيف تقود أو لا تقود هذه التطورات سواء كانت مبادرات أو ردود فعل لتحقيق الأهداف المرحلية وطويلة المدى في استراتيجية إدارة الصراع، وبشكل بدهي: ضرورة شق هذه الاستراتيجية ابتداء وتحقيق متطلباتها البنائية الغائبة (بالأخص في الحال الفلسطيني مثلا: وجود حركة فلسطينية موحدة ذات مشروع سياسي شامل ومرحلي، وتصميم استراتيجي واضح وإن كان دائم المراجعة والتعديل، وتطوير قابلية استراتيجية معرفيا ومؤسسيا وتطبيقيا للقيام بهذا الدور المتجدد)

:ب. في الأدبيات والممارسة الاستراتيجية يمكننا تعريف ثلاثة نماذج فيما يتعلق بالمقاربة الاستراتيجية للصراع

            التصميم الاستراتيجي
Design
عند القيادة السياسية والعسكرية (المجتمع الاستراتيجي بشكل أوسع) ليضبط الأهداف والخيارات والوسائل والفرضيات سواء على مستوى الاستراتيجية العظمى طويلة الأمد أو توظيف أدوات القوة عسكريا – وغيرها – لتحقيق الأهداف المرحلية.

           ونموذج أكثر ارتجالية وتفاعلية للتعامل مع الصراع – قد يبدأ بأهداف سياسية بالطبع ولكن خيارات على درجة واسعة من المرونة والعموم بحيث يعتمد صانع القرار على ماتتكشف عنه الحوادث لتخليق تصميم مرحلي يعتمد على توظيف وتحريك مسارات الفعل العسكري وغيره – وما تقدمه البيئة الاستراتيجية (الخصوم والحلفاء والبيئة..) من فرص ومخاطر – لتلاحق الأهداف. وهذا النموذج الاستطلاعي والتوظيفي – له تسميات مختلفة سواء ماطرحه مولتكة قديما عن أن الاستراتيجية هي دولاب من الاستطلاعات أو
expeditions
، أو مصطلحات مثل الاستراتيجية المُغامِرة
Adventurist
 أو الاستكشفاية
exploratory
 أو المتخلقة
Emergent

.. وكما أسلفت في حوار سابق؛ فالتمايز بين النموذجين يبهت كثيرا عند التطبيق. ولكن مُهم للاستراتيجي أن يستوعب الفروقات الجلية والمتطلبات لأي من النموذجين أو يُهجّن بينهما بما يناسب طبيعة النظام وخلفياته السياسية والتاريخية والثقافية والاجتماعية وطبيعة الصراع بشكل أدق (الصراعات الممتدة تحتاج أكثر لنموذج تصميمي على مستوى الاستراتيجية العظمى، والصراع غير النظامي ينحاز أكثر لنموذج استطلاعي على مستوى الاستراتيجية المرحلية والعسكرية..وهكذا.

أسوأ ما يحصل، هو نموذج غياب النموذج، أو ضمور المهمة الاستراتيجية ذاتها؛ كأن تُبتلى الشعوب والأمم بأجساد قيادية ليست معنية أو مؤهلة أو عالمة لتُحرّك خطوط الحوادث والصراع تبعا لنهايات واضحة على المستوى المرحلي والممتد. هل معنى ذلك غياب أثر استراتيجي ما (أي صافي التأثير في مساحة الإرادة السياسية للخصوم وتشكّل البيئات تبعا لذلك؟) – بلى يحدث ولكنه غير مقصود وغير مضبوط ، مجرد تراتب عشوائي للآثار التكتيكية والعملياتية – للنشاط العسكري مثلا، تترتب عليها آثار استراتيجية ما – غالبا سلبية ، والانحسار في خانة رد الفعل – أي المفعولية، خصوصا عند امتلاك الخصم قابلية استراتيجية وحسا استراتيجيا ما. وفي نمط الصراع غير النظامي بالأخص؛ المفترض أن تتحلى الحركة غير النظامية بدرجة أعقد وأعمق وأشمل من المنظور الاستراتيجي وتفعيله مرحليا وتحكيمه على نثريات العمليات والتكتيك لتضحد الفجوة العسكرية القاهرة لدولة الاحتلال وجيشها.

ج. الحقيقة أني تناولت في مواضع متعددة بمنطق استقرائي ونقدي المنظور الاستراتيجي للصراع بين حركات المقاومة الفلسطينية وإسرائيل بشكل تاريخي وآني؛ بالأخص مع حملة سيف القدس، وكذا حملة أغسطس 2022، وكان واضحا فيما أطرحه مأزق استراتيجي دخلت في المقاومة بعد حسم غزة 2006 (انحسارها في خانة رد الفعل والحصار، والتحول لنمط الحرب الحدودية الدنيا التي تفقد المقاومة بعد بنائي وإدمائي في خاصرة المحتل، والانخراط في سياسة المحاور، وحاكمية ملف حكم غزة على الملفات الأخطر في الصراع – القدس والضفة والداخل وغياب أهداف سياسية مرحلية يُفترض أن يخدمها النشاط المسلح والمقاوم الشامل بشكل أولى)، وكيف أن حملة سيف القدس قدمت فرصا ذهبية للانعتاق من كل ماسبق، بشرط وجود متطلبات بنائية للقابلية والممارسة الاستراتيجية – الحركة والمشروع السياسي المرحلي والتصميم والمناورة الاستراتيجية).
وفي الحملة السابقة، أوضحت كذلك أن ثمة مشكلات مستجدة وبسبب تطور الحس الاستراتيجي الإسرائيلي، ليس فقط لها نتيجة سلبية بحد ذاتها ولكن في إضاعة الفرص التي قدمتها (سيف القدس) :
          . تكريس سياسة التمايز والفصل بين غزة والمواقع الأخطر بالميزان العملياتي والاستراتيجي لإدارة الصراع (الضفة والقدس – فضلا عن الداخل)،
           . تصفية حركة الجهاد وهي بكل مشكلاتها الذاتية وكموضعة ورعاة مخزون صافٍ من المقاومة غير المستأنسة ضمن معادلة توازن ردع وتفويض ضمني للحكم – فضلا عن دورها المعتبر لاحقا في إنبات نشاط مقاوم في الضفة وكذلك كشفت عن عوار قيادي واستراتيجي وبنيوي عسكري بها كان يجب تصحيحه،
         . وبالتالي ضرب وحدة المقاومة والثقة المتبادلة بينها وبالأخص شرعية حماس كحركة قائدة – وهي بكل مشكلاتها وبالأخص تلك التي تراكمت بسبب التماهي بين مشروع المقاومة ومشروع الإمارة هي الوحيدة المنتظر منها والمؤهلة للقيام بدور إيجابي في تصحيح وإعادة بناء المشروع المقاوِم الفلسطيني بمتطلباته السابقة.

ويسعني الآن تناولٌ متعجل لتطورات المنظور الاستراتيجي لإسرائيل، ثم ألقي بملاحظات موجزة على الجولة الحالية للصراع:

أولا) المنظور الاستراتيجي إسرائيليا

المعلوم عن الحال الإسرائيلي هو غياب تاريخي (بالأخص بعد بن جوريون) للرغبة والتأهل والقدرة على ممارسة المهمة الاستراتيجية بالرغم من قدرة غير مسبوقة على إحراز الحسم العملياتي الكاسح – بالأخص على خصوم تتقازم عندهم مساحات القابلية الاستراتيجية والقدرة القتالية على السواء (مع وفرة مصادر القوة الخام بالمفارقة)، وهذا ما وصفه أحد أبرز المفكرين الاستراتيجين الأمريكيين (والصهاينة في ذات الوقت)  – مايكل هاندل – بتكتكة الاستراتيجية    
Tacticization of Strategy
، وسوّق المصطلح داخل إسرائيل رئيس أمان في الستينات يهوشيفات هركابي الذي درس زمالة في الاستراتيجية بأمريكيا في السبعينات بعد انتهاء خدمته أسفرت عن كتاب معقول
Arab Strategies and Israel’s Response
.المقصود بالمصطلح هو: ملاحقة آثار ومعطيات الحسم التكتيكي دون إنشغال بالمنطق الاستراتيجي تصميما أو توظيفا ومخرجات.

ونعم، يمكننا فهم الجذور البنيوية لهذا الانحياز الإسرائيلي مبكرا حتى من أيام بن جوريون – وإن كان الأخير كان عنده قدرة فارقة على التوظيف المرحلي الاستراتيجي وتوفية متطلباته المؤسسية بالأخص والحساسية السياسية ولكن في مخروط ممتد يعتمد على حتمية تأبّد الصراع
indefinite Battle
 بحيث تصبح الفجوة الدائمة بفعل الانتصار العسكري مطلوبة إسرائيليا وتزهد في التفكير الوصول لنهايات سياسية مستدامة والتي هي قيمة الاستراتيجية. هذه الجذور تشتمل فضلا عن توارث لفكرة بن جوريون على طبيعة النظام الفسيفسائي الذي يُعقّد أي تنازل سياسي – خصوصا مع غلبة اليمين بعد حرب أكتوبر، والهوس التاريخي والواقعي والجغرافي والاقتصادي صهيونيا بسؤال الأمن وعدم الاستعداد للحروب والاحتشادات النظامية المُطوّلة.

وهذا الخرق الإسرائيلي الفادح في إدارة الصراع أخفاه وعوّضه كما ذكرت التهاوي العربي استراتيجيا وعسكريا. وكنتاج للتراكم العشوائي للكسح العسكري، وأحيانا بتدخل أطراف خارجية ربما قاد أحيانا لقفزات استراتيجية. مثال على هذا الضغط الغريب عن الحس والاهتمام الإسرائيلي ما مارسه كيسنجر مثلا والأمريكي عموما أثناء حرب أكتوبر واتفاقية فض الاشتباك الثاني وصولا لمعاهدة السلام لتحجيم السلوك العسكري الإسرائيلي وقاد لآثار استراتيجية إيجابية لم تكن متخيلة (مثل خروج مصر من الصراع وانهيار التهديد النظامي؛ لأن العرب لن يقاتلون دون مصر).

ولكن حين حصلت بعض التطورات المحدودة بالأخص في المدار الاستراتيجي وربما العسكري عند العرب، كانت لحظات كارثية على الإسرائيلي- مثل النصف الأول لحرب أكتوبر وتجربة حزب الله تحديدا حتى 2006، وهوامش في التجربة الفلسطينية في انتفاضة الحجر وانتفاضة الأقصى.

ولكني – كشخص متابع للحال الإسرائيلي في هذه المساحة منذ خمسة عشر عاما ورسالته للدكتوراة كانت تلح وتدلل على المعنى السابق وفي وسط غربي متحيز للإسرائيلي (الأكاديميا في هذا المجال غير بقية المجالات التي فعلا فيها نفس متأفف ضد إسرائيل خصوصا في أوروبا) – رأى كذلك تطورا ملحوظا عند الأخير. ربما روّاد مثل هاندل وقبله إيجال آلون وبعده هركابي – قيادات عسكرية احتكت غربيا بالشأن الاستراتيجي كانوا إرهاصا، ولكن ظهرت طبقة من الرواد الأكاديميين في المساحة الاستراتيجية ومعارف محيطة كالعلاقات المدنية العسكرية مثل دان هورويتز ويهودا والاش ويهودا بن مائير وموشيه ليزاك ومارتن فان كريفيلد، ومستوى أكثر اتساعا من تناول الشأن الاستراتيجي والتقويمي لجيش الدفاع أكاديميا وفي ال
discourse
 السياسي بالأخص بعد انكسار هالته الوظيفية في 1973 وكذا الأخلاقية في 1982، وثمرات من الجيل الثاني كآفي كوبر ويورام بيري وشيمون نافيه والثالث أكاديميا في أواخر التسعينات والألفية، لكن حقيقة – حرب تموز 2006 ولجنة فينوغراد التي أبرزت قيمة الاستراتيجية – حين قيمت الحرب كفشل سياسي وعسكري- وقادت لتفعيل مجلس الأمن القومي كانت فارقة في تطور إسرائيلي ملحوظ.. وبالتأكيد فإن خطايا لحركات المقاومة سياسيا واستراتيجيا (سواء حماس في حسم غزة، أو حزب الله بعد 2006) فضلا عن انهيار السياق العربي (بدءا من سقوط العراق، ثم سوريا وفشل النخبة العربية كحركات ونخب وأنظمة في إدارة الربيع العربي الذي مثل فرصة تاريخية لإحداث تغيير حقيقي في البنية والقدرة العربية سياسيا واستراتيجيا) سمحت بفرص و (براح) أوسع للإسرائيلي أن يتسع نفوذه ويُجرّب معادلات استراتيجية لإدارة الصراع وإنضاج (تصميم) ما وإن تتخلله وكثيرا ما تعطله عناصر غير استراتيجية (الحسابات الشخصية لنخبة الحكم، والاعتبارات الحزبية والداخلية بالأخص)..

هذا التصميم بوضوح أخذ وقتا في الإنضاج: كأهداف –  استدامة الاحتلال ودفن أي تنازل سياسي (يقود لدولة فلسطينية حقيقية) وتسكين الهاجس الأمني محليا وإقليميا ، وتوسعة النفوذ الإقليمي والدولي– عبر خيارات استراتيجية بعينها:
          – استدامة سياسة الفصل والتمييز بين الضفة والقطاع ويشتمل على القبول بسيطرة حمساوية على غزة، ولكن تعريضها لحصار دائم بمحفزات مشروطة، وعمليات دورية  
operations between Wars
لترميم الردع الإيذائي (ضربات عقابية لمنع المبادرة بالفعل العسكري أو تقليل مستوى التصعيد كرد فعل) والإنكاري (تجريف دوري للقدرات القيادية والصاروخية والبنى التحتية).
          –  عزل القدس والداخل عن وتيرة الصراع وتمكين التجريف الديمغرافي في الضفة والقدس، واستدامة السيطرة على الجولان.
         – إقليميا ، محاصرة الخطر الأهم – بتقييم المجتمع الاستخباري وهو إيران بتشجيع حصار دولي لإجهاض برنامجها النووي والصاروخي، وتوسعة التطبيع لبناء تحالف عربي إسرائيلي مواجه، والسياسة التخريبية كعمليات سرية لبنيتها النووية. إيران نعم هي الأخطر بالتقييم الدوري للمجتمع الاستخباراتي الإسرائيلي ولكن على المدى القريب. توسعة التطبيع وتمكين نفوذ إسرائيل الإقليمي وتخريب البنية العربية – خصوصا في دول الطوق كمصر واستفادة من انهيارات بنيوية في سوريا والعراق – كفيلة بتأخير التطور الوجودي الأخطر – على منظور أشمل بالزمان – وهو تطور مشروع عربي مواجه كإرادة وقدرة وتحالف.
        – على مستوى بنائي عسكري؛ الحفاظ على الفجوة الكيفية الفاصلة بينها وأي قوة عسكرية عربية (بشكل فردي أو تحالفي )، ودعم ذلك بتطور مستمر تقني (ليس فقط في الأرصفة التقليدية ولكن الحرب الالكترونية وال
AI
 والدرونز، والدفاع الصاروخي) وبنى اتخاذ القرار والقدرة القتالية، وبقاء البعد النووي محتكَرا إقليميا للردع الشامل.

ج. هذا التصميم بالصيغة السابقة أبعد ما يكون عن الصفاء والمثالية، ولكنه على درجة من الهيمنة والرسوخ المؤسسي خصوصا في المجتمع الأمني، وبشكل يتجاوز الاختلافات الحزبية. وفي مسألة الحسابات الشخصية والحزبية تحديدا، فهي بالطبع متواجدة دوما وإن كان حضورها يختلف كقوة وتمظهرا بين محطة تصعيدية وأخرى (حرب تموز 2006، حملة 2009، حملة 2012، 2014، سيف القدس، تصعيد أغسطس 2022، وهذا التصعيد).

:ثانيا) متابعة مبدئية للجولة الحالية

التصعيد الحالي الذي أسمته إسرائيل (الدرع والسهم)، وأسمته المقاومة الفلسطينية (ثأر الأحرار) بدأ بانطلاق 100 صاروخ من غزة ردا على استشهاد الأسير خضر عدنان، وما تلى ذلك من ابتزاز ومناكفة لليمين المتطرف (حزب بن غفير بالأخص) لنتنياهو والتهديد بمقاطعة تصويت الكنيست بما يكفل ليس فقط سقوط تشريعات الحكومة ولكن سقوطها نفسا، وذلك لنقدها تخاذل نيتنياهو أمام (الإرهاب) الفلسطيني وقبله تجميد مشروع الزلزال التشريعي.

أكيد هناك عنصر أمني موضوعي تمثل بالأخص باستكمال منجزات الحملة السابقة في تحطيم الجهاد وتجريف شرعية حماس، وأيضا تجفيف منابع الدعم للنشاط المسلح المزعج بالضفة كذلك عبر ضرب الجهاد وتكريس الردع الذاتي لحماس في غزة، ولكن العنصر الشخصي (تجاوز نيتنياهو تهديد أزمته الشخصية) وحزبية (أزمة الحكومة، وكذلك التمرد الشعبي الواسعة ضده بعد مشروع التشريعات) هو الحاكم. وبالفعل – بغض النظر عن منتوجات الحملة استراتيجيا، فنيتنياهو له قدرة عالية على المناورة السياسية (القذرة في معظم الأحيان) داخليا، وبالفعل  – فبالرغم أن نيتنياهو تعمّد اتخاذ القرار دون أن يدْع أو حتى يُعلم المجلس الأمني المصغر، وبالرغم من عزل بن غفير فعليا عن دائرة اتخاذ القرار إلا أن الأخير اضطر لمدح قرار نيتنياهو وانطوت مؤقتا صفحة التمرد تلك في المعسكر اليميني المتطرف.

ليس معنى هذا أنه كان في معزل عن التصميم الذي تتحرك وتبني متطلباته الجماعة الأمنية بالكيان، ولكن حدود التصعيد وطريقته ومخرجاته الأولية هي خادمة بالأساس لمصلحته (ضربة جراحية أخرى للجهاد بتصفية قيادته العسكرية بغزة – ستة قادة حتى الآن، ولكن دون تصعيد يجبر حماس على التدخل توسيع مساحة الاشتباك في غزة أو حتى فتح جبهات أخرى في جنوب لبنان وحتى سوريا، وما ينعكس على الداخل الإسرائيلية من تبعات أمنية قريبة أو تفوق سيف القدس).

على حسب المطروح إسرائيليا – كتقدير استخباراتي، فإن عدم دخول حماس كان الأكثر رجحانا، ليس فقط لاعتبارات حسابات تمديد سيطرتها على غزة والحفاظ على محفزات اقتصادية (مثلا ال 17 ألف غزاوي بتصاريح لدخول إسرائيل يوميا، والدعم المصري لإعادة البناء وتمرير الدعم القطري) وأمنية (عدم المساس بقيادات وبنية المنظمة بشكل مباشر)، ولكن حتى كما أشارت هذه التقديرات – وإن كنت لا أراها على درجة من الحقانية على الأقل بهذا التكييف اللاأخلاقي – التخفف من شريك أصغر مشاكس بغزة. ولكن كتقدير جاهزية عسكرية؛ فإن هيئة الأركان قدمت استعدادا لأي من سيناريوهات المخروط التصعيدي وصولا حتى لحرب إقليمية.

من ناحية، نعم التهيؤ النفسي والخططي وحتى القدراتي لجيش الدفاع كان حاصلا قبل أي حرب خاضها الكيان، بغض النظر عن التدقيق في توظيفها استراتيجيا وهذا لم يكن حاصلا حتى في 1967 أو 1982، وحتى جودتها كمناسبة للحسم العملياتي واستعدادا للمفاجآت على هذا المستوى إما لمشكل استراتيجي (عدم توقع هجوم عربي في 73، أو تصلب مقاوم بعد 82، أو نمط لا يصلح معه الجيش كبنية وأداء كما في الانتفاضتين أو حرب تموز – هناك دراسة جيدة لكاتيجناني بعنوان  
Israeli Counter-insurgency: the Dilemma of regular army
 أو في تشوه البنية العملياتية ذاتها تبعا لاستخلاص خاطئة من الحرب السابقة وتعميمها (الهوس المدرعاتي على حساب الأسلحة المشتركة قبل 73 تبعا لحرب 76، أو فقر القدرة النظامية للجيش في 2006 تبعا لتجربة انتفاضة الأقصى), وهكذا

المُستجدّ الآن كما أسلفت، هو حساسية إسرائيلية أوضح وأشد لتناول السؤال الاستراتيجي في إدارة جولات الصراع، وبشكل ممتد. بكل الإشكال الداخلي سياسيا خصوصا مع الأزمة الحالية بعد الهبة الشعبية ضد نيتنياهو، وحتى مايحصل أحيانا من مستجدات معاكسة للتقدم الاستراتيجي إقليميا (التقارب السعودي الإيراني، ودور مصري أكثر جدية وحضور إقليمي، وبعض التحسينات الجزئية في ملفات سوريا والعراق عربيا، ودور صيني أكثر احتكاكا وتمددا في فراغ يتركه الأمريكي، وزيادة التداخل العربي مع الروسي تبعا لورطته بأوكرانيا) تبقى للإسرائيلي الكلمة العليا استراتيجيا في رسم مسار الصراع بالأخص فلسطينيا، لأن المقابل لم ينخرط بشكل حقيقي وجاء في تغيير المعادلة السابقة كما ، ولايزال هناك شوط واسع تفصل المقاومة الفلسطينية عن مقاربة الصراع استراتيجيا:

  1. سواء على مستوى بناء حركة وطنية بأهداف سياسية مرحلية، بأنماط ممكنة بالطبع، ولكن تقتضي تجاوز الشق الطولي الحاصل منذ 2006
  2. بناء رصيف واضح لتناول الشأن الاستراتيجي ومتابعة فرضياته مرحليا وبشكل أوسع
  3. تأهيل معرفي استراتيجي للقيادات السياسية والعسكرية، وحل بعض المشكلات المؤسسية بشكل يجعل هناك حاكمية للمستوى السياسي على الشأن العسكري (بافتراض تأهله وحساسيته استراتيجيا)،  
  4. تقليل الاعتمادية على المحاور أو مركزية غزة – تبعا للتطور السياسي المنشود في الجسد المقاوم الفلسطيني – لصالح نظر استراتيجي مستقل وينحاز بشكل جوهري للقضية الفلسطينية واعتباراتها الوظيفية.

ولكن ماذا عن هذه الجولة كمآل، وفرص ومخاطر؟

بطبيعة الحال، كقراءة استراتيجية دون روافع للانتقال لواقع مغاير وأفضلي، فنحن أمام استنساخ للجولة السابقة للأسف الشديد. نعم – يبدو هناك بعض التحسن من حيث مشاركة حمساوية في النشاط العسكري تبعا لإبراز (الغرفة المشتركة) وربما بعض الاشتراك التكتيكي واللوجستي ولكنه ما يظهر أنه بشكل رمزي وكتطييب للخاطر الداخلي والفصائلي، وهذا يتحدث عنه الإسرائيلي بوضوح. المؤسف حقيقة – أننا نجد حركة مثل الجهاد وهي رصيد وطني وقومي لا غنى عنه يتم سحقها بهذه الطريقة المجرمة (نحن الآن في القصف الرابع لمجلسها العسكري على التوالي
decapitation
  ، ومن منازلهم، بشكل لايعكس فقط اختراقا واهتراء مرعبا على المستوى المعلوماتي والأمني لها، ولكن يقود لنقدنا الحاد للقوة المسئولية وطنيا وسياسيا وعسكريا وأمنيا عن القطاع. وهذا في رأيي أشد المخاطر على قاعدة شرعية حماس، ومبدأ الثقة الوطنية والكل للواحد والواحد للكل، فضلا عن هدم القدرة الوظيفية للجهاد (في هذا النمط من الحركات فإن استهداف القيادات يؤثر كثيرا على القدرة ونجاعة اتخاذ القرار لاحقا، وهذا حتى ظهر في حماس بعد 2005 حين خسرت شطرا معتبرا من نخبتها القائدة حتى مع وجود رصيد إنجاز عسكري وسياسي تحقق).

الفرص طبعا – يأتي اقتناصها بتوسعة المشاركة المحسوبة لزيادة الشرعية ودرعا أمام استهداف أوسع للجهاد، وتقوية قدرة الرصيف الوطني (وليكن الغرفة المشتركة) على استخدام الخسارة الحاصلة لمزيد من التراكب القيادي على النتوءات والمعوقات الفصائلية أمام الوحدة العسكرية وحل مشكلات الجهاد البنيوية. والأهمّ، الانخراط جديا في روافع تغيير ماهيّة الصراع استراتيجيا.

نعم – من المصلحة حقيقة التحكّم في مستوى التصعيد لعدم وجود المقدرة الضامنة لإحسان إدارته، ولكن مُهمّ التفكير في كل احتمالاته كما يفعل الإسرائيلي تماما – إذا تدحرجت الأزمة لمستوى قريب من سيف القدس، وحتى مع بعض الخيال لجبهات خارجية.

وتبقى نقطتان لابد من الاهتمام لها كتداول استراتيجي جادّ ومستقصٍ:

  • بقية الساحات (الضفة والقدس والداخل)، ليس فقط من الاهتمام بظاهرة البذور العسكرية الارتجالية فيها كدعم وتأطير وضبط لبوصلة التوظيف، مع تطوير لأنماط الاحتجاج الشعبي والاقتصادي والسياسي.
  • آثار التصعيد العسكري وغير العسكري على ديناميات الداخل الإسرائيلي – السياسي والشعبي – في ظل الأزمة الحالية. هل تكون المصلحة البحث عن نسق يدفع الحكومة يمينا أو يسارا؟ تفتيتا أم تجميعا طلبا أو دفعا لسياسة بعينها؟ الصمت أم التصعيد خدمة لتفجير التمرد الشعبي والمؤسسي بالداخل؟

المشكل – أنه في غياب نسخة من التصميم الاستراتيجي الشامل، وتهيء وحساسية قيادية فلسطينية للتعامل المرحلي، وتهيؤ قيادي واستعداد نفسي ومعرفي لاقتراف سؤال الأثار والمآلات الاستراتيجية للنشاطات العسكرية مُدمجة مع النشاطات الغير العسكرية الممكنة، لا يمكن تحديد المطلوب أصلا في النقطتين السابقتين فضلا عن كيفية إدارتها.

ذات صلة:

إطلالة مؤسفة وتقويمية على حملة غزة – أغسطس 2022
ندوة عن (التقييم الاستراتيجي لحملة سيف القدس)
مقال – على هامش (سيف القدس): استشراف الرؤية الاستراتيجية للحراك الفلسطيني المُقاوِم
حوار حول التقييم الاستراتيجي لحملة (سيف القدس)
حوارات على هامش حملة (سيف القدس) -1- الاستراتيجي والعملياتي والتكتيكي في عملية الصواريخ
مقال: هل تُعيد (سيف القدس) المبادرة الاستراتيجية لحركات المقاومة الفلسطينية؟
حوارات استراتيجية 2: حول تحوير الاستراتيجية العظمى، والنظام المصري في ليبيا

مقالات ذات صلة

‫2 تعليقات

  1. جميل جدا يادكتور محمد
    مقال استثنائي ومتعمق في فهم الحاله واستقراء المآلات المستقبليه للصراع والربط بين البيئات الدوليه والاقليميه والداخليه
    شكرا لكم يادكتور ونفع الله بعلمكم

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى