تعريف
هذه الأرجوزة تعود قصتها لإحدي الليالي في شهر يونيو 2009 في شقة بالقاهرة، حيث كنتُ في عُرف المختبيء – هكذا ظننت كما سيأتي – من الملاحقة الأمنية. فبعد يومين من التحقيقات المضنية ولكن الودية – حافظ على وديتها منصب والدي رحمه الله القضائي – مع ثاني أهم شخصية في جهاز أمن الدولة، تم منعي من السفر داخل مطار القاهرة دون أي قرار قانوني وضاع عليَّ وقتها الامتحان النهائي في زمالة الكلية الملكية في طب العيون.
وكان المتوقع بطبيعة الحال بعدها تعرضي شخصيا للاعتقال، وبقيت هكذا حتى ذهب والدي رحمه الله وقابل رئيس الجهاز، نعم وضعية القضاء في نظام مبارك كان لها قيمة عالية ومختلفة، وحصل اتفاق ضمني أن أخرج بلا عودة.
والحقيقة، هناك تفاصيل عديدة في هذه التجربة كثير منها مؤلم والآخر طريف، منها مثلا أني بالرغم من وجودي في حال التخفّي، كنتُ متابَعا وكل تواصلاتي بشكل لصيق، بل حتى كما علمت بعدها بسنين، كان أقرب رفيق وموجّه لي بالدنيا منذ صغري، وبالتأكيد كنتُ على تواصل معه في ذلك الوقت، ينقل للجهاز كل شيء عني!
ولكن يكفي أن أذكر أن الإشكال كان بسبب صلاتي مع الإخوان وكذلك بحكم تخصصي – وبالتأكيد انحيازي – مع المقاومة. هذا الانحياز الذي لم يمنعني وقتها أن يكون شطر مما كنت أنصح به نقدا جذريا – فالصديق من صدَقك لا من صدّقك، وفرق بين أن أنحاز لك بحكم الشرعية الدينية والأخلاقية كغاية والهم القومي وبين أن أقرّ ما تفعله استراتيجيا أو كسلوك شرعي وأخلاقي في كل التفصيل، وهي أمانة ومسئولية دينية واجتماعية كما سيأتي.
والحقيقة أني كنت صادقا ومنكشفا تماما في هذه التحقيقات، ليس فقط لأنه لم يكن عندي ما أخبئه أو أخجل منه، بل هو اختيار لي منذ دخلت في تخصص الاستراتيجية لعلمي بصعوبة الاحتفاظ أمنيا ومعلوماتيا بأي مسار خاص لي كفرد.
وبالرغم من هذا، وتقريري أن انحيازي الوحيد هو للدين وللوطن، وكما أني في موقف المعارضة الحادة للنظام فكذلك أنا في موقف مستقل بل معارض فكريا وسياسيا لمسار الإخوان، فإن هذا بالتأكيد لم يكن كافيا ومريحا لمثل هذه الأجهزة والنظم (كل النظم حتى نظام الإخوان ومن تلاهم !) فإما أنت معي أو ضدى، وكنتُ غير طيّع أمام حزم الترغيب والترهيب المعروضة. وبقيت محجوزا عن الرجوع بعدها لمصر، حتى عدتُّ قبل تنحي مبارك في ثورة يناير بيومين.
وفي هذه القصيدة تجربة روحية وفدائية قلّما يشعر المرء بها، وربما لم أعشها في هذا السياق إلا مرات قليلة بعدها في ظروف مختلفة. مرة منها عند عودتي وقت الثورة، وأخرى في أواخر نوفمبر 2015 وقد قدّمت مشاركة في مؤتمر للجامعة الأمريكية بالقاهرة – مع تحذيري قبلها من النزول لمصر – عن تحولات العلاقات المدنية العسكرية منذ يناير 2011 وأثرها في تعثر التحول الديمقراطي المصري (موجودة على قناة اليوتيوب). وبالرغم أني اعتمرت بعدها مباشرة، إلا أن الفيض الروحي ونشوة القرب من الله والتسليم الكامل له والزهد في الدنيا وما وراءها وعين اليقين بالآخرة في هذا الموقف فاقت بمراحل الأنس والفيوضات التي عشتها في الحرمين مع عظمها.
ويهمّني إبراز نقطتين هامتين:
الأولى) أن الشعر كان دوما لي مسار إحماء واستشفاء، به أخوض معانيا تزيد من صلابتي النفسية والتحدي للظلم والاستبداد ومراغمته. وربما كما أوردت في قصيدة (أسيف في أرض غريبة) بعدها بعقد مندهشا أن يكون المرء – بفضل الله – على هذا القدر من الصلابة أمام نظم طاغية، ولكن يضعف في لحظات أمام عاطفة الحب مثلا!
ما ثمّ غير العشقِ يجدعُ أنفة * شمّت على لُمع الطُّغاة ونيرها
وفي (معارضات شعرية) ما عارضت به إيليا:
يسبي الغرامُ من الفوارسِ ماجدا * ويحيلُ صقرّ العادياتِ قعيدا
وما عارضتُ به قيس لبنى
وتقضي الغواديّ بالأنينِ مسربلا * وقد كنت هام الواقعات تسوقُ
ولكن بالتأكيد، فإن مقام الإحماء هذا والحالة الشعرية الدافقة أبعد عن مقام الضبط الفقهي والاستراتيجي لمسائل شديدة التعقيد مثل استراتيجيات التغيير، ومسائل كالخروج المسلح وغيرها. والحقيقة، لتعدد مسارات حياتي في جوانب من طبعها الاختلاف المزاجي بل والتناقض أحيانا (الشاعرية منذ الصغر، ثم الدراسة الكثيفة لأصول الفقه، ثم الطب كدراسة ومهنة، ثم دراسة الاستراتيجية العسكرية بالغرب واعتبارها الملف الإعذاري الأهم في حياتي، وكذلك النشاط الحركي والسياسي منذ الصغر حتى 2007 و 2013 على الترتيب)، كنت في محنة ذاتية ليس فقط في الجمع والتلاقح بين هذه المسارات، بل الضبط و (الفصل) الدقيق بينها وانعكاساتها على المزاج واللغة والمنهج من باب أولى. وتناولت هذا باستفاضة في تلك المقال
وللأسف، كثر وقعوا في هذا الإشكال، مثل سيد قطب رحمه الله، وتميم البرغوثي (وهو أشعر من في عصرنا برأيي) وغيرهم، فمقامات الأدب والشعر على درجة عالية من الرقي والطلب الضروري لها كأمة ومجتمع، ولكنها لابد أن تنفصل كلية، ليس في الغاية أو الوقود العاطفي والروحي مثلا – بل قد يتم استدعاؤها في مواطن، ولكن في المنهج والتفعيل والدور – عن موقع التوجيه الفكري، ةالتدوين الفقهي، أو التحليل والتنظير السياسي و البوح الاستراتيجي!
وأقول أني أرى الأمر ليس فقط تمايزا بين تخصصات بل هو واجب رسالي وأخلاقي يأثم من يتجاوزه، فأمتنا لم تكتري أحدنا مثلا – حين يأخذ موقع الاختصاص الاستراتيجي أو العلمي أو الفقهي أو الطبي ، أن يعطيها شعرا وعاطفةَ! بل هو مفسد في مساحات يجب فيها النظر البارد، والميزان الدقيق، والحسم المنضبط. فالقاضي لا يقضي وهو غضبان أو يغلبه الانفعال، وكذا الاستراتيجي والطبيب.
وكما تعلمنا في ظاهرة الحرب (الثالوث المقدس) كما أبدع وصفه كلاوزفيتس، فهناك ثلاثية النظر المدقق ومنطقية الحساب، والروح الدافقة والغرائز الأصيلة، وكذلك الصلابة النفسية أمام المجهول. ونعم – الأولى يكون مدارها (غالبا) في الحكومة -القيادة السياسية والاستراتيجية، والثانية – الشعب وما يقدمه من الجندي المقاتل، والثالثة – الجيش (القيادة العملياتية). ونقول غالبا – لأن الحكومة ليست خلية عن النزعة الفائرة وغريزة البقاء، أو الصلابة أمام المجهول، والجيش ليس خليا عن العنصرين الآخرين وكذا الشعب، ولكنه بحكم النطاق الأغلبي، وما ننتظر من كل دائرة، ولكل دوره في تكامل فريد كما ينبغي أن يكون. والحركة والدولة والأمة التي تنضبط فيها هذه الدوائر وتكاملها بشكل أغلبي، حُقّ لها أن تسود وتجتاز المفاوز، وإلا وقعت في قعر الهزيمة والخذلان. فيكون خالد سيف الله المسلول أميرا وقائدا وقد أنهكت بعض تجاوزاته النبي ثم خلفاءه، وأبو ذر (أصدق من أقلته أرض وأظلته سماء) نبراس المثالية والدين الصافي والاحتساب حتى على الخلفاء وتجاوزات بعضهم واستشهد وحيدا لأجل ذلك، ولكن حجزه النبي – لضعفه القيادي- عن الإمارة!
الثانية) ولها صلة بالأولى وتطبيق لها، وهي في مسألة التغيير المسلح تحديدا. فحين كتبتُ القصيدة كنت أنحاز فقهيا بلاشك لجوازه وضرورته أحيانا بشرط الجدوى، وبهذا – كان لحد ما تقارب بين خطوط المزاج العاطفي والشعري وكذا النظر الفقهي.
ولكن لأن النظر الفقهي في هذه المسألة – حتى عند فريق المجيزين – مداره على الجدوى، وأن الجدوى مدار تعرّفها على المختصين في مجال السياسة وأوقع منها الاستراتيجية وحدود ومنطق تحريك القوة بمصادرها المختلفة لنهايات سياسية، وربما – كما أوضحت في محاضرتي القديمة في (مقاربة الجويني وغياث الأمم) – قد يتبرع الفقيه ليعطي وسمه إذا اتفق أهل الاختصاص في الرأي الفني (هنا الجدوى) – وهذه مسألة أصولية محورية يغفل عنها الكثيرون، فمع إنضاح مساحات الاستراتيجية عندي كعلم وخبرات وتجربة، وكذلك إنضاج التجربة السياسية والحركية، ظهر لي حجم الإشكال الشرعي والأخلاقي فضلا عن الاستراتيجي في اعتبار هذا المسار، بحيث أن الأصل عندي صار المنع إلا في ظل ظروف قاهرة ومفروضة.
وفوق هذا، يُميّزُ الشارع بين ملاك الفرد على نفسه وبين أن يقود، فقد يستند الإمام الحسين في ثورته على قراءة شرعية واستراتيجية، وغايته قضية شريفة (إقامة شريعة جده صلى الله عليه وسلم) لا يختلف على شرعيتها أحد، ولكن خالفه البعض في بنودها. أما حين تراءى له فوات الجدوى، وكان ملاكُ الأمر إقرار لظالم أم موتة شريفة – إذ قال ردوني أرجع وأبوا- سحب بيعته من أعناق تابعيه، ولم يتابعه غير سبعين – بأعيانهم – قدس سرهم .
وأذكر أني في أول 2018 أن لجأ لي أحد الرفاق القدامي من أيام الجامعة ممن كان يعتبرني صاحب توجيه له واستشارني في هذا الأمر، ووقتها كتبت له مرتجلا نقاشا شرعيا واستراتيجيا ما عنونته في مقال ب (نقد التغيير المسلح) ونشرته لتعميم الفائدة. وحين التقيته بعدها بشهور، أخبرني أنه عرضه على بعض القطاعات من ممن تورطت للأسف في هذا المسار، وأنه كان له – مع عوامل أخرى – دور واضح في حرفهم عنه. وقتها دمعت عيناي، وحمدت الله أن جعلني سببا في حفظ دماء المسلمين، ومنع سلسال من الأضرار الشخصية والعامة أوضحها في تكريس ذرائع البطش والاستبداد.
والظاهر – أننا في الظرف الحالي مع التغيرات التي حدثت في سوريا، عدنا لموجة من الهستريا والجفلة الكاملة عن وعي الفقه والاستراتيجية ودرس التاريخ بخصوص هذا الأمر. والحكمة بأثر عكسي عن فرضيات مغلوطة – بل معاكسة تماما للتصور السليم – بخصوص التجربة المصرية التي أفشلها أصحابها قديما قبل خصومهم.، بل والسورية ذاتها قديما وحديثا.
ولا يتسع المقام لمزيد تفصيل وتمحيص حول هذه المسألة وربما عدت لها في مقال مستقل، ولكن يكفي الإلحاح على نقطة – بالإضافة لما ذكرته في (نقد التغيير المسلح)، أن ما نفهمه كمختصين في السياسة والاستراتيجية من خطورة الخلاصات التي تتجاوز السياقات وبالأخص في مساحة المتغيّر الاستراتيجي وطرق تفعيل القوة وفرضياتها وتمايز البيئات سياسيا واجتماعيا وحتى جغرافيا! وأوضاع إقليمية ودولية وبنية مؤسسية وأبرزها مثلا وضعية وتكوين الجيش، هو ذات ما قرره قديما فقهاؤنا كقول مالك (الفقه معرفة الفروق)، ومن أشرف وأعقد علوم الأصول ما خطه الإمامان السيوطي وابن نجيم في (الأشباه والنظائر)، وبشكل متمم خط ّالإمام القرافي مدونته في (الفروق).. وقيمته تلك، دفعت السيوطي أن يسطر شعرا – مغاليا في مدح ذاته في مقدمة كتابه – وأراه مستحقا!
إنا وإن كُنّا ذوي حسبٍ * لسنا على الأحسابِ نتكلُ
نبني كما كانت أوائلنا تبني * ونفعلُ مثل ما فعلوا !
فهذه المساحة بالأخص لا تليق بغير من تجاوز التوسط في أي علم، فكيف بمن لم تتغبر قدماه سنينا ويتأسس منهجيا في بوتقة الفقه السياسي وأصوله ومختبر السياسة والاستراتيجية. وليست مصائر الأوطان والشعوب عرضة لكل مجازف ومنبت، في حين أنه في شأنه الشخصي لن يرضى بغير الطبيب الناجع والمهندس الحصيف بدلا! أما لو كان الأمر حده تدوينة هنا، وفيديو هناك تتجمع عليه الاستحسانات والمشاهدات، فقد استراح وأراح.
أترككم مع القصيدة
غامت الأفلاكُ حينا وانتأى الفجرُ زمـــانا
وحبــانا الدهــرُ ذُلًّا واغتذى القومُ الهوانا
واستخفَّ الدارّ نذلٌ وارتقى فينا المكـــانا
يستيخُ العهرُ قومي فيُصَلّونَ قِيـــــــــانا 1
ويجِزُّ الوغدُ هـــامًا بالتُّقى ازدانت جَنانا
وبني قومي سُكونٌ بل يحُدُّونَ السِّنــانا
ما أرى فيكم مَجيدًا مُقدِمًــا إلا مُدانــــا
و فتى الجُودِ مَهينٌ تبقُرونَ له الحصانا
هكذا الرِّعديدُ يَعشى فيرى الليثّ أتــانــا 2
ويظُنُّ الدينَ خَرْسا ورباط الطُّهرِ حانة
ونِدا الأحرارِ سُمًّا وجوى الجُبنِ جِنانا
هكذا صارت بلادي للزنيمِ بها عَوانـــا 3
يستزيدُ الفُحشّ منها فتُديرُ لهُ الدِّنـــــانا
* * *
أيُّها الأفلاكُ مهلاً لا تزيدني احتقــانا
قد غشاني الكربُ فاهد ي سورةَ الليلِ بيانا
هل يُصاخُ السمعُ فينا هل تعُدّينَ الزمــانا
هل تُريني ذكرَ عهدٍ قد مضى عنّا وبانا
ذكرَ مِقدادٍ و زيدٍ 4 والحُسينُ السبطُ زانَ
مصعبُ الخيرِ، سعيدٌ ولذي النفسِ 5 هوانـا
راغموا البغيَ وأمضَوا شِرعةَ الحقِّ طِعانا
يحسبُ الجُهّالُ أن البِي ضَ 6 ما قصفت جبانا
بل دمُ الأحرارِ جَمْرٌ يُبْكِتُ الطّاغي لِعانا
* * *
أيُّها الأفلاكُ يـــومٌ يشهدُ الرحمنُ حـــانَ
فيه يُقضى وعدُ حقِّ للنبيِّ تلى قُرَانــــــا
أن سيأتـــوكِ جِلادًا إن نفيرٌ قد دعـــانــا
فيعزّ الدينُ صرحًا يسطعُ البرقُ أذانـــا
يحسبُ الظُلّامُ أن ال بطشَ يورثُنا استكانة
ما دروا أن اقتبال ال عُرْسِ نمهُرهُ دمــانا
فيرى الرحمنُ أنّـــــا نصدُقُ الوعدَ قِرانا 7
وعلى الباغي من ال هيجا تُقدِّدُه 8 ذُرانا
القاهرة – 19 يونيو 2009
1 أنثى الحمار
2 أسيرة
3 أيٌّ من الزيدينِ يصلحُ لشعرنا
4 ابن المُسيّب
5 ذو النفس الزكية
6 السيوف
7 ونحن مقيدون
8 تفتكُ به