مقاربة أولية لتقويم طوفان الأقصى استراتيجيا، ونوستالجيا أكتوبرية

https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b1%d8%a8%d8%a9-%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d8%aa%d9%82%d9%88%d9%8a%d9%85-%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86

يهمني الإشارة لنقطة جوهرية قبل أن ندلف لما سنحكي عنه.. الإحساس بالفخر والانتشاء خصوصا من جيلنا الذي أزخمت معاناته الشخصية مرارات الانكسار وطيّ حلمه بالتحرر والوحدة وأوطان حرة وكريمة وديمقراطية، ولكن هذا لابد من تسكينه إذا تحدثنا بمنطق التقويم السياسي والاستراتيجي.

وكذلك – فإن كل أحاديثنا في هذا الباب لا تقارب الشرعية الأخلاقية لمن حملوا أرواحهم على أكفهم واقتحموا عرائص المجهول لايبالون في طريق العز لأمتهم والانتقام لكرامتها المسفوحة لعقود.. ولعل في هذا نسب لإشارة ابن تيمية القديمة عن استقلال أهل الثغور في التقدير.

 فقط – ما ندركه من قيمة الاستراتيجية وحاكميتها على كل مساحات الصراع ومنجزاته، سواء أدرك الناس هذا أم غفلوا عنه، وأنها بنت أهلية تتعدى كثيرا – وغالبا – حدود الاستغراق المكاني واستقلال النظر كشرعية استحقاق، وأنه دور المُقِل – هو ما يدفعنا لمثل هذا الحديث.

مبدئيا، ماحصل تحول كبير في مسار الصراع العربي الإسرائيلي يتعدى حدود التقويم السياسي والاستراتيجي لعملية أو حرب بشكل مباشر. وأنا لا أحكي هنا بشكل عاطفي، ولكن استراتيجي بحت.
في مسارات الصراعات الممتدة، نعم للجولات والحروب قيمتها، وضرورة خدمتها التراكمية والتعاقبية للأهداف الكلية كاستراتيجية عظمي، ولكن أحيانا تحصل نتائج فارقة تؤثر على المنظور الكلي – وعناصره النفسية والبنيوية فضلا عن موازين قوى للصراع ككل.. وحتى لو انتهت الجولة بمنتوج سياسي (نهايات مرحلية) أو استراتيجي (مفردات توزيع القوة وتوظيفها) مُحبِط وسلبي، تبقى المنجزات تلك قائمة.

وأوضح مثال على هذا – للمفارقة – هو حرب أكتوبر 1973، وبالتأكيد هناك أوجه نسبة وتشابه بين طوفان الأقصى معها، ولكن دون مبالغة كذلك، لأن حرب أكتوبر ونحن في ذكراها تتخطى في ميزان الكم والكيف والزلزال في مصفوفة الأمن القومي الإسرائيلي وبنية الدولة ما حصل من يومين..

الأهم هنا – حرب أكتوبر نتيجتها العسكرية كانت سلبية عربيا، بالنظر للعبور المعاكس، وحصار الجيش الثالث ومدينة السويس، وخضوع المصري تحت طائلة التفاوض في الكيلو 101 ثم فض الاشتباك الأول (فض الاشتباك الثاني تحديدا لم يكن لها علاقة بالتوازن العسكري وتصور الأطرف له، ولكن لتصور مغاير للسادات منتكسا عن تصور عبدالناصرلدور مصر الوجودي والإقليمي). ولكن، الانكسار الشديد الاستراتيجي الحاصل أول الحرب (ضرب نظرية الأمن القومي الإسرائيلي كما نص عليه التوجيه الاستراتيجي للحرب كما خطه هيكل) ، وحتى مفردات الانتشار العسكري بعد الحرب مقارنة بما قبلها .. يشي بدرجة ما من أفضلية المنتوج الاستراتيجي لصالح مصر (ليس نجاحا).

بعض المنظرين الاستراتيجيين – كالراحل مايكل هاندل، وهو أمريكي صهيوني، بما عنده من نضج استراتيجي، مهمن يكن متحيزا، فهو لا ينحصر في التقييم الغربي السائد أن الحرب هزيمة عسكرية لمصر، لأنه يدرك أن العلاقة بين المنتج العسكري والمنتوج الاستراتيجي ليست خطية (وهذا درس مبدئي هنا للإخوة في حماس، كما هو لإسرائيل.. وأوضح مثالا على هذا حرب 67، فمع عبقرية الحسم العسكري الإسرائيلي فنتاجه الاستراتيجي كان هزيلا بشكل قريب، وأفدح كمدى متوسط تبعا لحربي الاستنزاف وأكتوبر). ولكن هاندل في ذات الوقت، ربط خطأ بين حرب أكتوبر كمنتوج ومعاهدة السلام، والتي تمثل بحق – أوضح نجاح إسرائيلي على مستوى الاستراتيجية العظمي كما أشار، وفي رأيي حتى أهم من 48، لأن العرب لن يحاربوا كجيوش دون مصر.

ولكن ما لم ينتبه له هاندل، أن معاهدة السلام، وحتى قبلها فض الاشتباك الثاني كانت نتاج أشواط وأنماط متباينة من التدافع السياسي والديبلوماسي وتحولات بنية الأنظمة والوضع الإقليمي والدولي. وفي ذات الوقت – فحجم الانجاز المعنوي والقيمي للنصف الأول من حرب أكتوبر كان هائلا – في كسر أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لايقهر
invincible
 – داخل إسرائيل والأهم عند العرب..

هل ما حصل في اليومين السابقين يفوق أو يتقاصر عن هذا فيه نقاش آخر. لكن الأهم أنه حصل، ولن يمكن تغييره بعض النظر عن نجاح أو فشل الأطراف – وخصوصا حماس – في تحصيل منتوج سياسي واستراتيجي يمكن البناء عليه.

وما يهمني في هذه العجالة أن أتناول نقاطا محددة، من الأدنى للأسفل..
أولا – لانطلاق من عرض ما حصل تكتيكيا وعملياتيا، لأن هذا ما يسود الخطاب العام حاليا

ثانيا – إطلالة على المفاجأة الاستراتيجية والخلل الاستخباراتي

ثالثا – مقدمة في المقاربة الاستراتيجية لما حصل

رابعا – المسار الممكن والموصى به استراتيجيا

بوضح، كذلك – مثل حرب 73، ما حصل لم يشتمل على تكتيكات وأسلحة مفاجئة، ولكن الأهم هو المفاجأة الاستراتيجية والتصميم العملياتي وتراكب مسارات التكتيك بشكل يمثل منتوجا عملياتيا كاسحا.

نمط اختراق الحدود عبر مجموعات نوعية تسندها هجمات صاروخية، واحتلال مؤقت للمستوطنات وإنزال درجة من التخريب والترهيب كرسالة، والعودة بأسرى، معروف إسرائيليا. حتى أنا حين زرت لبنان في 2008 في وقت تحضيري لرسالتي للماجستير (الأداء الاستراتيجي في الحرب غير المتماثلة – دراسة حالة بين حزب الله وإسرائيل) تعرّفت عليه.

نعم، التصور الأكثر حضورا عنه هو أنه سيحصل في الجبهة الشمالية، وعلى هذا كانت كل التحضيرات والمناورات العسكرية وتغيير الهيكل الدفاعي هناك إسرائيلي في السنين الفائتة. طيب – مع الاتصال العضوي بين حزب الله وحماس، أليس من المفترض إمكانية حصوله بالجبهة الجنوبية؟ هنا يأتي الخلل الهيكلي في المفهوم الاستخباراتي كما سنفصله لاحقا– هناك درجة كبيرة من تقليل التقدير الفادح لقوة حماس، والأهم – ترسخ فرضية أن حماس محجوزة بردعها الذاتي تبعا للمأزق الاستراتيجي التي وضعت نفسها فيه بانكفائها على غزة وخضوعها للحصار بعد 2007.

بإنصاف – للتصور الاستراتيجي إسرائيلي درجة من الحجية، وهذا ربما منطق قلقنا كما سيأتي، ولكنه بالتأكيد، لاينفي ضرورة الاستعداد العسكري والأمني، وعدم أسر التحليل الاستخباري لفرضية يابسة، ونفترض- أنه بالنظر للاختراق المعلوماتي الواسع لغزة – ازدراء معلومات قد تكون تضافرت الفترة السابقة ، مهمن يكن جدية حماس في الأمان المعلوماتي تحضيرا لعملياتها.

تكتيكيا، حماس طبقت هذا النمط السالف ذكره بدرجة عالية من البراعة، ووسط انهيار دفاعي إسرائيلي كامل حتى كأننا نشاهد فيلما كارتونيا، والنتاج العسكري كان باهرا بدرجة غير متخيلة، استباحة ثماني قواعد عسكرية وقرى ومستوطنات غلاف غزة فضلا عن ستارة صاروخية كثيفة قادت لإشباع في القبة الحديدة وأحدثت تخريبا معتبرا، قتلى إسرائيليون يتجاوزون السبعمائة، وأسرى يتجاوزن المائة (نظرة لمعدل تبادل أسرى المقاومة اللبنانية والفلسطينة مع كل رأس إسرائيلي ينبئنا عن حجم الإنجاز).. وكل هذا يشتمل على عسكريين ورتب رفيعة!

ولكن يبقى عندي تحفظ  – حتى أنهي هذا الملف التكتيكي – عن ضعف الحساسية نحو المدنيين والأسرى العسكريين سواء كنشاط عسكري، أو تعامل شعبي غلبت عليه بعض مظاهر التفلت والانتقام، مفهوم إنسانيا، ولكن الحساب الأخلاقي والاستراتيجي له شأن آخر.

أنا لن أخوض في التناول الفقهي والأخلاقي المنضبط لهذا الأمر، وحتى محمد الضيف أشار في أواخر كلمته للقاعدة الدينية في عدم استهداف النساء والأطفال والشيوخ، ونزيد عليه الأسرى.. وبالتأكيد أن احتجازهم كرهائين واستخدامهم دروعا بشرية هو مناقض لتلك القاعدة.. وكما حكي د. وليد سيف على لسان صلاح الدين في روايته التمثيلية، حين تعجب أصحابه من سماحته الزائدة مع الصليبيين في استعادة القدس مع المجزرة التي ارتكبوها هم أول الأمر (الحرب بيننا ليست بالقتال فقط، ولكنها على الأخلاق والشرف، فإن ألزمونا أخلاقهم فقد انتصروا فيها وإن انتصرنا نحن في الأولى).

ولكني أشير إلى القيمة الاستراتيجية لقوة الصورة –
power of image –
في هذا النمط مع الصراع المعاصر
War Among People
كما سماها روبرت سميث.. الانفلات في الاستهداف الشعبي له نتائج وخيمة في مساحات التأييد الدولي والشعبي، وزيادة مساحة التشنج العدواني عند الخصم.. هذا الأمر كما له تأثير مُربك للقوى الكبري في الحرب غير النظامية (أمريكا مثلا في العراق وأفغانستان، وقبلها أفغانستان) فهو كذلك يعمل على حركات المقاومة. وهذا يتجلى على مساحات ترتبط بالتكييف الاستراتيجي للصراع:
أ. مستوى الدعم الدولي ليس فقط كحكومات ولكن كشعوب، حين تترسخ صورة إرهابية النشاط العسكري الفلسطين.. وبالنظر لحجم الإنجاز في مساحة المقاطعة الشعبية والأكاديمية حتى في الغرب، وبالنظرة الحالية حتى لاضطرار كثير من المتعاطفين مع قضيتنا غربيا لإدانة العمليات الفلسطينية بوضوح، فهذا أمر لا يجب التضحية به.

ب. من أهم اعتبارات الفرص الاستراتيجية كما ستناولها، ظهور حماس كطرف سياسي
Responsible,
, والحقيقة كثير من المكونات الدولية والإقليمية – حتى التي لا تكن ودا لحماس، كان تعتبرها هكذا بدرجة أو أخرى. وهذه قيمة أساسية لأي توظيف سياسي لمنتوج ما حصل في بناء نسق سياسي كشرعية داخلية وحركة بالإقليم ودوليا محابٍ للمشروع الفلسطيني، إلا إذا استبطنا النظرة الكليانية للقاعدة وبناتها في بناء نظام دولي شديد المغايرة والأن!
وفي ذات السياق، الإسرائيلي منذ عشرين عاما وهو يطرح فرضية أن حماس والقاعدة وبعدها داعش من صنو واحد، وهي فرضية ساقطة كما نعلم لكل الاعتبارات، ولكن بعض مشاهد ماحصل، وطريقة إدارتها إعلاميا في إسرائيل والغرب، وقلقي الشخصي من إتمام التهديد بالإعدامات المتكررة ستكرس الفرضية السابقة تلك.

ج. درجة ما من التوحش في السلوك العسكري والاستهدافي ليس بالضرورة مفيدة في بناء حاجز رادع. سلوك الدول غير سلوك الأفراد، بل بالعكس، كثيرا ما تقود لتصعيد أشد.. وهذا سأعود له لاحقا.

التقارب بين طوفان الأقصي وأكتوبر، وأصبح تيمة في بعض الخطاب العام عربيا ودوليا، له كذلك تفصيلات تتجاوز حجم الإنجاز في خط الصراع –  أهمها المفاجأة الاستراتيجية، ودينامية الخلل الاستخباراتي الإسرائيلي لارتكازه على مفهوم خاطيء –  ما جرى تعريفه في أدبيات الاستخبارات التي تناولت سلوك المخابرات الإسرائيلية قبل حرب أكتوبر ب
Concept  
.. فكما وضعت أمان مفهوما خاطئا أن العرب والمصريين تحديدا لن يقدموا على حرب إلا بعد امتلاك سيادة جوية أو حيازة صواريخ دقيقة التوجيه – كدرس مستفاد من حرب الاستنزاف حين استباحت إسرائيل بضربات العمق مصر، فكان ما سبق – هكذا استقر عند الإسرائيلي – ضروري لتأمين حاجز الردع لمستوى معين مع أي تصعيد عسكري..
فيتضح أيضا، أن هناك تقديرا شديد الدونية لقدرة ونية حماس على الانفتاح الاستراتيجي بهذا الحجم والمعدل، مع حضور معلومات قوية على وجود هذه التكتيكات عند الجبهة الشمالية والجنوبية كما أسلفت.

ولعل ما جعل هناك استقرار لهذا ال
Concept
 القائل بحتمية مراعاة حماس لتوازن الردع والانكفاء داخل غزة.. هو سلوكها في الردع الذاتي في مرحلة ما بعد سيف القدس، وبالأخص بعد أخر جولتين في غزة وقصف قيادة الجهاد، والتصعيد الاستثنائي منذ عقدين في الضفة.

وبذات النسق، هذا السلوك رسخ بالتأكيد المفهوم الاستخباري، كمثل ما رسّخ سلوك السادات في نكوصه عن الحرب بأنواعها المختلفة ( سواء عملية محدودة في 1972 تبعا لقراءته للانشغال الدولي بحرب بنجلاديش، أو تأجيل الحرب في مايو تبعا لتأخر محطات التنسيق مع السوري والاستعداد التسليحي).. وهذه الأخيرة – حين نقل معلوماتها أشرف مروان، وتحرك الإسرائيلي بتعبئة عامة، ليس فقط رسخت ال
Concept
، ولكن جعلت لأمان أسبقية في التزهيد في معلومات أشرف مروان، وهذا ظهر حين صدقت معلوماته قبل حرب أكتوبر الفعلية.

نعم – السادات صك خداع استراتيجي رائع، ولكن السلوك المتقاصر السابق لم يكن مقصودا ولكن كان له الدور الأوضج. كذلك – يصعب عليّ تقييم هل كان سلوك حماس الانسحابي العامين السابقين جزء من استراتيجية خداع دون معرفة طبيعة السياق الداخلي عندها والمنطق الذي دفعها لهذه الجولة. تقديري – أنها لم تكن، وأن هناك مستجدات دفعتها لهذه الخطوة الاستراتيجية الفارقة، ربما يكون للإيراني دور أساسي فيها. وهذا بصراحة يقلقني على المآل وإحسان التحضين والتوظيف الاستراتيجي لما حصل ويحصل وسيحصل. لماذا؟ لأن المهمة الاستراتيجية في توظيف هكذا عمليات ومتوالياتها من الصعوبة بمكان، ليس فقط لاقتضائه درجة عالية من التحكم والتخييل والمرونة، وتغيير المخروط العملياتي من أسفل، والمسارات الديبلوماسية الموازية تبعا للمستجدات وما تحدثه من فرص وتهديدات، ولكنه يقتضي كذلك الاستقلالية والالتزام الكامل بتعريف المصلحة الوطنية.
من أشد مخاطر السلوك الاعتمادي
Dependent
على قوى أخرى، حتى لو تتشارك في مصالح استراتيجية وأبعاد قيمية، هو ضعف الاستقلالية سواء في شق الأهداف السياسية والمنظور الاستراتيجي ابتداء وتحريكه، بل وحتى معارضة هذه القوى لأي مسارات أو منتوجات تقلل من هذه الاعتمادية.

المنطلق الأول، أن هناك حاكمية للسؤال الاستراتيجي.. ماذا نقصد سياسيا من استخدام القوة العسكرية وغيرها، وعبر أي منظور استراتيجي يقصد لترتيب وتكييف هذا الاستخدام وضبط تصميمه العملياتي والتكتيكي. ولأن أي صراع هو عرضة لتحولات حادة تبعا لتغيرات البيئة وردود أفعال الخصوم والأطراف المحيطة، فلابد من امتلاك القدرة المعرفية والمؤسسية والحزم لتعديل هذا المخروط تباعا، واقتناص ما تقدمه التحولات تلك من فرص، وتلافي التهديدات والمخاطر.

المنطلق الثاني تبعا لهذا، أن العلاقة بين النشاط العسكري، والأثر الاستراتيجي، والمنتوج السياسي المباشر لجولة الصراع أو الممتد ليس خطا تلقائيا ، ولكن تحصل فيه تناقضات ومفارقات
– Paradoxes –
كما أشار لوتواك في دراسته الشهيرة.. فرب انتصار عسكري ساحق يقود لتراجع استراتيجي عند المنتصر، واستفاقة وتحوير إيجابي عند المهزوم، لا يؤثر فقط على منتوج هذه الجولة، ولكن ما يتبعها من جولات.. ونظرة كما أسلفت لحروب 67، والاستنزاف، و73، و82، و تموز 2006، تقرر هذه العلاقة المعقدة والمتناقضة بشكل مطرد.

المنطلق الثالث، كما أشرت في مقالي الأخير (حملة غزة مايو 2023: حدود التصميم والتوظيف والترتيب العشوائي)، فهناك مشكلة في القابلية الاستراتيجية عند حركات المقاومة بمساحاتها المعرفية والمؤسسية والتطبيقية، وليس هذا فحسب، بل غياب السؤال الاستراتيجي ذاته في أحايين كثيرة. هذا السؤال للمفارقة كان حاضرا بشدة في تجربة حركة التحرر الفلسطينية فترة الستينات والسبعينات – لأسباب أيديولوجية، ولكن دائما كانت إجابته تتم بشكل خاطيء، لأسباب في فساد البنية المؤسسية والمصالح الضيقة وحتى الانسياق الأيديولوجي نفسه (عدم إدراك مشكلة التسييق، أن الحرب الشعبية بطبعاتها الشرقية واللاتينية قد لاتناسب الوضع الفلسطيني).
لماذا تحديدا الحركات المقاومة الإسلامية بها ضمور في هذا الأمر؟ أعتقد لاعتبارات خاصة بارتكازها على أبعاد الحشد العاطفي، وتضخم العنصر الغيبي مع أن مقصود التشريع قائم على التسبيب وضبط مناط التكليف إعذارا، والتلقين التربوي، وتقديس التجربة التاريخية والقيادية، وتحريم النقد والنظر المتحرر والمتشكك .. وهذه متطلبات ذهنية ومزاجية ضرورية لاقتراف الاستراتيجية.

المنطلق الأخير، أنه مع ضعف المكنة الاستراتيجية، فإن اتساع مساحة التصعيد في جولات الصراع وتعقيد ديناميتها، تؤدي إلى ضغط
straining
 على هذه المكنة، ويقود لانحسار أشد في إدارة الصراع ذاته.

وسأفصّل:

  1. لا توجد قيادة فلسطينية حاليا بمشروع محدد يتمثل في أهداف سياسية مرحلية، فيمكننا بالتفاوض أن نضغط على العدو والطرف الإقليمي والدولي للدخول فيه. الصيغة السائدة، أن هناك معادلة ردع قائمة مع غزة، وسيطرة عسكرية وأمنية على الضفة، وتحصل جولات مستمرة لاستعادة الردع من قبل الإسرائيلي، وكذلك تعزز حماس من شرعيتها كقائدة لغزة. ما قدمته (سيف القدس) من فرصة، لتطوير حركة فلسطينية جامعة، وإعطاء الأولوية للقدس والضفة والداخل كأهداف للصراع وساحات له، بحيث تقود تدريجيا لمنجز مرحلي – لم يحصل. وزاد عليه كما أسلفنا – تضافر الردع الذاتي عن حماية الجهاد في غزة، والتعاطي مع التطور في إعادة استباحة الضفة.
  2. هذا بحد ذاته، يجعلنا متحيرين في تعيين الهدف السياسي لهذه النقلة النوعية عسكريا، لأنها أتت من غير سياق ممهد، ولا طريق تال واضح. ما هو مقصودها؟ و من وراءها؟ فضلا أن نتخيل كيف يمكن تقود لتحقيقه. هناك هدف عليه اطراد – ليس فقط في التحليل الغربي، ولكن حتى خطاب المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وهو تعطيل مشروع التطبيع بالأخص مع السعودية.. وهنا قد يظهر الدور الإيراني في الدفع لهذه الجولة.
    ولكن بوضوح – لو صح هذا، فهذا هدف شديد التواضع، وسيحصل نعم ولكن بشكل مؤقت.. لأن هذا التطبيع له معطيات ترتبط بالصيغة الدفاعية التي يقوم عليها الخليج العربي وما حصل فيها من انحسار أمريكي، والسلوك غير الرشيد سواء لمكوناته وكذلك الإيراني في التدافع الذي حصل في جبهات متعددة في مرحلة مابعد الربيع العربي بالرغم مما حصل من تطور إيجابي الفترة السابقة وكان ينبغي البناء عليه، وإشكال الشرعية الداخلية للنظم ورغبتها في التسويق لنفسها أمريكيا.. وهكذا. فلا يعتمد بالضرورة على تصور لمنجز عسكري أو انكشاف دفاعي إسرائيلي في لحظة بعينها، فضلا أن الجولة تلك لم تنته بعد.. نتمنى بكل تأكيد النصر لمقاومتنا، ولكن ما حصل من إشكال حول رشادة السلوك السياسي والعسكري لها، وكذلك من تبعات جسيمة نسأل الله تجنيبنا إياها لها دلالات. بوضوح – أقصى ما يمكن أن تحدثه هذه الجولة هو تأخير التطبيع لا إنهاؤه، بغير العمل على تغيير المعطيات الإقليمية السابق ذكرها.
  3. هناك هدف آخر، يمكن تخيل تحققه، ولكن فقط بافتراض أن الجولة انتهت على ما هي عليه الآن، وهو تطور الشرعية السياسية والعسكرية لحماس في حكم غزة، وتعديها للسياق الفلسطيني الأوسع، وبالأخص بالنظر لما تحدثه الصفقة التاريخية لتبادل الأسرى من نتائج في تحرير الأسرى الفلسطينيين، ومكاسب في تخفيف حصار غزة، ولو واتت الظروف في تعديل السياسة من الاستيطان والقدس. العائق هنا، أن هذا للأسف لن يحصل، لذات المنطق الاستراتيجي الخاص بحجم الإنجاز الذي زلزل منظور الأمن القومي الإسرائيلي وبنية الدولة، ومنطق الردع وديناميته. وهذه نقطتي التالية.
  4. إذا لم تكن هناك قدرة على الحسم العسكري الشامل ضد إسرائيل، أو توفير ظروفه بشكل حتمي، فنحن أمام صراع محدود. وحركة المقاومة بطبيعتها تحاول إدماء العدو وتهديده بجملة من الخسائر التي تؤثر في حسابه السياسي فيتنازل، ولكنها غالبا لا تقدر أن تضرب بنيته الوجودية والحيوية، ولو استطاعت أن تهددها، فهي بهذا تلغي إمكانية مفاضلة الحساب الاستراتيجي تلك strategic interdiction..
    أي أن الإسرائيلي هنا، لن يجري هذا الحساب بأي يتراجع لأجل الحفاظ على مصالح سياسية واقتصادية وبشرية، لماذا؟ لأن مصالحه الحيوية والوجودية على المحك. وليس هذا فحسب، بل إنه سيحاول تهيئة كل المعطيات لأجل القيام برد فعل كاسح يستعيد هيبة الدولة، والمقرر الأمني الذي تقوم عليه حالة الاحتلال، والثقة الشعبية فيما سبق، وصورة القوة في الإقليم، فضلا عن المصالح الحزبية لنخبة الحكم.
    ولهذا – فلايمكن التراجع قبل إحداث فاتورة من الاستهداف البشري (المدني للأسف الشديد) في الحال الفلسطيني، والتدخل البري تبعا لسيناريوهات مختلفة، ولكن بالتطور المشار له في مقالي السابق حول تطول القابلية الاستراتيجية الإسرائيلية، فهناك نقاش حول سؤال استراتيجية الخروج ووضع غزة.
  5. الاستراتيجية الإسرائيلية التي استقرت بشكل متدرج بعد 2007، كان بالفعل إقرار سيطرة حماس على غزة مع إخضاعها للحصار، وتدعيم الردع التقليدي بحملات من وقت لآخر، والأهم – تبعا لذلك ومساوقة معه – تكريس سياسة التمايز (الفصل) بينها والضفة والقدس. وأن الأفضل إبقاء حماس حاكمة بكل تبعات ذلك السياسية والبشرية وحتى الأخلاقية وكابح لفوضى ممكنة. الإسرائيلي الآن أدرك – بسبب ما حصل – فشل هذه الاستراتيجية بشكل مرعب، وخيار احتلال غزة وتقديمها للسلطة حاضر، أو على الأقل – القبول بالصيغة السابقة ولكن بعد توفية فاتورة – ليس فقط استعادة الردع، ولكن استعادة منظومة الأمن القومي وهيبة الدولة ابتداء.
  6. من متطلبات ما سبق كزخم سياسي ودولي وعسكري، بناء حكومة طواريء وطنية، اتساع حجم الدعم الدولي والإقليمي وبالأخص تضخيم واستغلال الخسارة البشرية المدنية كقتلي و(مختطفين)، وصك أهداف سياسية محددة والتدقيق فيما تتطلبه من استراتيجية شاملة وعسكرية. ولعل هذا ما طرحه نيتنياهو من أهداف: تنقية غلاف غزة من جيوب الاختراق الفلسطيني، وفاتورة عقابية ضخمة، وتأمين الجبهات الأخرى تحسبا لتطور حرب متعددة الجبهات. من الممكن النظر أن كثيرا من هذه المتطلبات في طور التشكل، وربما فقط السلوك العربي – حتى السعودي – ولو حتى في شكله الرسمي كان إيجابيا ومغايرا بشدة لما تطمحه إسرائيل.
  7. فيما يتعلق بالأسرى الإسرائيليين في غزة، كذلك افتراض أن الحساسية الشديدة إسرائيليا نحوها كما كانت في الأربعين عاما السابقة كما هي افتراض خاطيء. لأن مساحة الحساسية تلك ومدى الصلابة
    Resilience
     تجاه هذا الملف شديد الارتباط بحراجة الملف الدفاعي وفكرة الدولة ذاتها. وهذا رأيناه بشكل واضح في حرب 1948 (نسبة الخسارة الشعبية في الحرب كانت عالية بشكل استثنائي)، وحرب 73، بل حتى بعض عمليات اختطاف الرهائن في السبعينات.. وخصوصا مع المكون اليميني الديني في الحكومة وضعف حساسيتهم تجاه هذا الملف (ليس مفاجئا أن أغلب التشكيل الاجتماعي لقوات النخبة بما فيها من مخاطر عالية من هذه الشريحة). ولكن بالتأكيد – هذا عبء شديد على الحكومة الحالية، ولهذا بالتحديد يريد نيتنياهو حكومة طواريء لعدم تحمله بشكل فردي للفاتورة البشرية تلك. هذا السلوك الإسرائيلي يتكرر فقط حوالي الحروب الكبرى لتكريس الحشد ومحدودية التنازل السياسي معها (كقبيل حرب 67). وهناك أيضا التحسب من انفتاح الجبهة الشمالية بشكل مصاحب، ولكن الإلحاح الشديد في ملف حكومة الطواريء الآن مرده بالأساس حرب غزة.
  8. ولكل ما سبق، الإشكال في تعريف الأهداف السياسية فلسطينيا، التصعيد الذي ضرب مصالح حيوية وهدد بضرب أخرى وجودية مما يبطل معادلة التمايز في الحساب الاستراتيجي عند العدو ويجعله يتجاوز مساحة الإدماء تلك، وليس فقط يتوقف ردعه عن الفعل العسكري أو تصعيده، بل يفرض عليه ذلك التصعيد وما يستتبعه من فاتورة خسائر ضخمة فلسطينيا، وإعادة ترتيب وضع غزة جذريا، والضعف البنيوي فلسطينيا في إدارة الصراع استراتيجيا، وغياب متطلبات جوهرية لتسكين المنجزات العسكرية فيه وتحصيل منتوج سياسي منها، وزيادة الممانعة الشعبية والعسكرية وحرية الحركة إقليميا ودوليا (قيادة فلسطينية موحدة بمشروع سياسي واضح وقدرة على التفاوض ورشادة الصورة) .. كل هذا هو سر قلقنا الشديد وما نراه مأزقا استراتيجيا تقع فيه حماس والقضية عموما حاليا.

مهم أن ندرك أنه في تلك المفاصل الحرجة يصعب علينا التحرك في أدوار بنائية، سواء تلك في تطوير القابلية الاستراتيجية، أو إنضاج المشروع الفلسطيني بمفرداته القيادية وكشرعية سياسية وأخلاقية وشعبية ومأسسة وصك مشاريعي.. هذه غالبا تكون مواسم الحصاد لا الزرع في هذه المساحة.

كذلك – أحيانا تكون هذا الفورات في مسار الصراع بطلقات يصعب إرجاعها ثانية، بالرغم من متوالياته المُقلقة والمُهددة، ويكون أمامنا غالبا خياران:

الأول) هو كبح مساحة التصعيد، وتوثيق فقط الإطار الدفاعي لتحسين المنتوج العسكري داخل غزة، وإصلاح كثير من جوانب العطب الحاصلة خصوصا في مساحة التكتيك والتصميم العملياتي (إزاحة العنصر المدني من بيئة الصراع، وحتى إعادة تكريس كود أخلاقي وإدانة بعض الممارسات)، ولكن الأهم هنا: تغيير محدود في البوصلة السياسية وطريقة التفاوض، وبالعكس – قد يكون في المأزق الحالي فرصة لتحسين البنية الفلسطينية لمشروع مستجد، بالأخص في:

     أ. التقارب مع السلطة، وتصديرها كرأس تفاوضي خارجي، مع الاحتفاظ بالورقة العسكرية داخليا.. وهذا لا مناص عنه حاليا. وهنا بالتأكيد أثمن مثلا خطاب السفير الفلسطيني في لندن، وهو دلالة بالضبط على ما تحتاجه القضية الآن وليس فقط حماس.

    ب. التقارب مع المكوّن العربي، وليس فقط المصري، ولكن السعودي، وإعطاؤه حتى بعض الاعتبارية في مرحلة التفاوض، وما لهذا من قيمة على المستويين الإقليمي والدولي..
ولكن بالتأكيد ضمن صيغة مضادة للتطبيع، وتعديل الخطاب والسلوك الاعتمادي على الإيراني مع تصدير منطق التهدئة الإقليمية بين الأخير والخليجي.
حماس، والحركة الفلسطينية عموما، شاءت أم أبت داخلة في هذا الملف. وإحسان خطابها وسلوكها، ولحد ما متابعتها للسلوك العراقي في السنين الماضية، ليس فقط ضروري لمجاوزة الأزمة الحالية وبالعكس تحصيل نتائج سياسية معقولة منها، ولكن لتوهين مسببات حالة التطبيع ذاتها. والحقيقة – دائما كانت مشكلة الحركة الفلسطينية – وحماس ليست نشازا – أنه لا تدقق في ضبط استراتيجيات التحالف مع الدول الداعمة حتى لا تصل لاعتمادية، فضلا عن تبعية. وأعتقد أن درجة من التخييل السياسي وإحداث مراجعة لهذا الملف قادرة على تحصيل منتجات ذاتية وإقليمية هامة.

ج. وضع مستهدفات سياسية معقولة في ملفات الأسرى والاستيطان والقدس، وإعادة تعيير إدارة غزة بشكل جماعي.. وبالتأكيد لابد أن يصاحب هذا التوحد السياسي – وإن كان جزئيا – توحد أوضح في النسق الدفاعي لغزة، لإطالة مدى المقاومة العسكرية وزيادة إدماء الخصم، والأهم – انفتاح للمقاومة الشعبية في الضفة والقدس والداخل، مع بعض السلوك الإشغالي من الجبهة الشمالية لفائدة رصيد معتبر من المخزون العسكري الإسرائيلي والتأهب السياسي والشعبي. ولكن كل هذا كما أسلفت لابد أن يكون مسنودا بإعادة الاعتبار للشرعية السياسية والأخلاقية.

الثاني) وهو الحقيقة يبقى خيارا نظريا لكثير من اعتبارات الإشكال الإقليمي الفادح في دول الطوق كقدرات عسكرية واستراتيجية وإرادات سياسية، وطبيعة الإشكال الشعبي والداخلي في غزة والضفة ولبنان، ومنطق التبعية للإيراني بحساباته المصلحية الذاتية المتسيد في تلك الجبهات، وهو الحرب متعددة الجبهات. ضرورة لهذا، وتبعا له كذلك، فلابد من تأسيس قيادة سياسية موحدة لإدارة هذا الصراع، فضلا عن تدقيق في المفردات التكاملية والمناوِرة بالجبهات وأولوياتها كاستراتيجية عسكرية وتصميم عملياتي.. ولكن هذا فوق ما قدمنا بذكره، يقتضي درجة من تجاوز المسحة الوطنية المباشرة لمنظور أكثر قومية هو غير حاضر حاليا كمفاعيل، ولا يكتفي به حديث ما يسمى (الإعلام المقاوم) عن وحدة الساحات وما شابهها..

2 thoughts on “مقاربة أولية لتقويم طوفان الأقصى استراتيجيا، ونوستالجيا أكتوبرية”

Leave a comment