ملاحظات على الهجوم الإيراني.. المحركات، ومنطق الردع ومتوالياته الاستراتيجية

16/4/2024

يهمني في البدء الإشارة أن الاستفهام الاستراتيجي لهذه العملية وماسواها لاينفك عن اعتبار مبدئين،

الأول – أن التقدير الاستراتيجي يفسده تماما حضور أي تحيّز عاطفي أو عقائدي أو حتى أخلاقي.. فلا يسعنا غير محاولة استكشاف محركات استخدام أدوات القوة وجدواها، مع حصول التعقيد الكافي في هذا.. هذا على خلاف صنع الاستراتيجية لأننا في هذا نصدر عن تحيزاتنا ومانراه حدودا أخلاقية تضبط توظيفنا نحن لأدوات القوة. ولا شك أن صنع الاستراتيجية يرتكز على تقدير استراتيجي ما ويسري عليه ماذكرناه، ولكن بعده نُعمل تحيزاتنا سالفة الذكر.

الثاني – التقدير الاستراتيجي معقد وقابل أن يتفلت منه تيار الحوادث في أية لحظة، ولهذا فقيمته هي في التحفيز الذهني بطرح الأسئلة والشروط وسرعة الاستجابة للقادة وكيفية تخليق الإجابة ومراجعتها أكثر منه التنبؤ،
وكان لأستاذي الراحل كولن جراي مقولة ساخرة (من عنده بلورتي السحرية) أوردها في كتابه الجيد –
Strategic Theory and Defence Planning
المحركات مختلطة وكثير منها معنوي ومتناقض ولايمكن قياسه أو اطرداه، والعنصر البشري لا يلاحقه أي تنبؤ – فما بالنا إن كانت تنبني عليه منظومات وتحصل به متواليات أفعال وردود أفعال. وكذلك الجدوى صعوبتها تكمن في الاختلاف الجنسي بين الوسائل والأهداف .. أي محاولة قياس الأثر الاستراتيجي – وغالبا يرتبط بتغيير الإرادة السياسية للخصوم والأطراف المعنية وهذا شيء معنوي وبشري، من الأثر التدميري أو توقعه وهذا شيء مادي.

مُهمّ إدراك محركات إيران في سياستها الدفاعية والإقليمية، وهناك صورة واضحة عنها بشكل معقول يقدمها السبر الدقيق لآلاف التفاصيل ومسار الفعل السياسي والعسكري منذ الثورة 79، وهي بالتأكيد لن ترضى أنصارها أو أعداءها على السواء، لأن كل طرف للأسف يعيش في واقع افتراضي تنسج لبناته تعصبه الحاد مع أو ضد..
ولهذا قيمتان، الأول هو ضرورته للتقدير الاستراتيجي وبناء سيناريوهات مستقبلة، والثاني لأني فوجئت الحقيقة بحجم الهستيريا المذهبية ومجافاة بدهيات العقل والواقع التي تسود كثير من القطاعات في مقاربتها لما حصل!

المحركات الإيرانية على الترتيب هي بالأساس الحفاظ على مصلحة النظام (الذي لأجل بقائه تجرع الإمام الخوميني السم على حد تعبيره في نهاية حرب الخليج الأولى)،
يلي ذلك مقتضيات الهيمنة الإقليمية – هذه مسألة بديهية وليس فيها الحقيقة أي إشكال منطقي أو حتى إخلاقي بالنظر للثقل الكثيف التجربة الإيرانية تاريخيا وجغرافيا وثقافيا وبشريا، المشكل يحصل في المناسبة الاستراتيجية والأخلاقية في مسار السعي لها.
ثم يأتي البُعد المذهبي الإمامي وهو يفوق التصور الدياني ذاته لأسباب عقائدية وتاريخية معقدة، مع اعتبار كل التباينات بين المدارس الاثنى عشرية كأصوليين وإخباريين وتيار الولي الفقيه أو من رفضه كمدرسة النجف وآية الله محمد حسين فضل الله رحمه الله، وقد سعدت بلقائه قديما قبيل وفاته وقد ضاق بنَفَسه الوحدوي والعدالي أبناء طائفته، وتيار تجديدي من داخل أو خارج الحوزة، وكذا التمازج بين المنحى المذهبي وتوظيفاته السياسية والاجتماعية. هذا البعد المذهبي خصوصا عند طبقة المحافظين له نزعة شديدة النفور والعدائية من الحالة السنية واستحضار غير عقلاني للإرث التارخي السلبي وهو بالمزاوجة مع التعصب عند شرائح سنية وقود حقيقي لمعظم الأزمات الطائفية في بلادنا العقود السابقة والتي وصلت لحد المذابح والتطهير القائم على الهوية المذهبية كما حصل بالأخص في العراق ثم سوريا! ولكن أيضا حالة الفداء الحُسيني وانتصار الدم على السيف،
ثم يأتي البعد الدياني الصرف، والذي بالتأكيد يرى الصراع مع إسرائيل والتغيير الإقليمي والوحدوي مركزية، ولكنه معجون بالنفس المذهبي الإمامي والانتظار الإيجابي للمهدي..

– هذه المحركات بالمناسبة تختلف كترتيب عند بعض مكونات النظام ، وتنزّلها كذلك يتباين على الحوادث وفي بناء اتجاهات سياسية ودينية في كل المسائل سواء كان في دور الولي الفقيه وحاكميته في رسم اتجاهات النظام كالخلاف الشهير بين الخوميني والخامنئي – قبل أن يصير الأخير نفسه في مقام الأول تاليا، أو العلاقة مع الغرب، أو الدول العربية السنية وحتى مفردات الصراع العربي الإسرائيلي والتحرك فيه وثمنه. ولكن يهمنا بالتأكيد أن نصل في الأخير لصورة إجمالية مبسطة بدونها لا يمكننا الوصول لأي تصور تحليلي، دون نسيان مساحة الثراء والتركيب الحاصلة.

هل إيران لها انخراط صادق، وهل هناك حالة مع العداء الحيوي ضد إسرائيل وفي تصور بعض القطاعات عند الطرفين – الوجودي بينهما؟.
قطعا! وتشهد لذلك أغلب أجزاء المشهد الحاصل في بلادنا لعقود، حتى بالنظر للتقدير الاستخباراتي السنوي لأمان والذي تتربع على رأسه إيران كأهم مصدر للتهديد وعلى ذلك تتطور كل البنى الدفاعية والتسليحية، وآلاف المناوشات بينهما بشكل مباشر وبالوكالة، الاعتمادية العسكرية في التكوين لحماس والجهاد على إيران والدعم المادي الذي استمر معظم الفترات عدا فترة القطيعة بعيد بدء الثورة السورية والتي سريعا انزلقت لحرب أهلية وبالوكالة، وهكذا.

هل خلفية الصراع الحاد تلك لا تشتمل كذلك على تقاربات وتفاهمات بين إيران وأمريكا في محطات عديدة، وحتى مع إسرائيل في وراثة جزئية للتحالف الإسرائيلي الإيراني الذي بدأت نوياته منذ الستينات وصار تحالفا رسميا بما يسمى المثلث – الطرف الثالث تركيا !، تكريسا للاستراتيجية الطرفية بهدف إشغال دول الطوق وبالأخص العراق وسوريا، وحتى بعد الثورة الإيرانية
وقفل هذا الباب، فحصلت تقاربات في محطات مثل إيران الكترا؟ نعم!
ومن أفضل الدراسات في هذا الباب وأعتقد أنها مترجمة للعربية –
Treacheous Alliance: The Secret Dealing of Israel, Iran and the US – Parsi
وبالرغم أني أرى مبالغتها في رسم حدود التقارب وتوهينها من حدود الصدام وبعده العقائدي إلا أنها تبقى دراسة جيدة وصفيا وتحليليا.

هذا عزيزي هو تعقيد السياسية والاستراتيجية، والحالة الإنسانية والتدينية تاريخيا وواقعيا بكل تشابكاتها.. نظرة حتى لتاريخنا الإسلامي (بكل ما فيه من تألقات ومفاخر بأي مقياس ولكنه أبعد بأشواط عن أي نظرة طوباية) تُحصن أي شخص من التأثير المهووس للأيديولوجي التي قد تُعمي عن امتلاك أبسط أدوات التقييم، والوزن. والذي مع أنه ضرورة استراتيجية كما أسلفت، ولكنه واجب دياني وقيمي،
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)
– (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم والوالدين والأقربين).

بل الأمر يتعدى واجب العدالة مع المخالف بالمذهب والامتناع عن تكفيره وشيطنته، وصيانة الدم، للنظر إلى كيف يفعل أبناء الأمة الواحدة أمام عدوها..

ما أروع ما خطه الشهيد الدكتور علي شريعتي قديما في كتابه الشهير ( التشيع العلوي والتشيع الصفوي)، وهو بكل تمسكه بننود اعتقاده الإمامي الإثنا عشري، ولكن تجاوز لعقله الكبير ونفسيته الرائقة وسبكه العلمي كل مخانق التفسير الأحادي والتعصب مع الأقربين والخصوم.. أدعوكم لقراءته.

ولا يسعني الآن التفصيل في بنود المذهب الاثنا عشري، وما يراه التصور السنني الرشيد أصوليا في اعتبار عارض التأويل (قد ينقل عن الكفر أو الفسق تبعا لرتبة حكم المسألة) عدا في مسائل المعلوم بالدين بالضرورة كمسألة عدم تحريف المصحف. وهذه المسألة تحديدا هي ما دفعت شريعتي لتناولها بحُرقة في كتابه :

إن الاختلاف بين التشيع العلوي والتسنن المحمدي ليس إلا اختلاف بين عالمين وفقهين من مذهب واحد حول مسألة علمية. يجب أن يعلم المسلمون أن جميع مراجعنا العظام، صرّحوا رسميا بأن القرآن ليس فيه حتى كلمة واحدة محذوفة أو مضافة. وكل من يعتقد غير ذلك فهو ضال ومنحرف، وما كل تلك الأقاويل إلا من ذكر رجالات التشيع الصفوي ليقدموا بذلك ذرائع لرجالات التسنن الأموي ليقمعوا
الشيعة بمثل هذه الاتهامات

أعود وأقول أن الحرب الدائرة حاليا بين الشيعة والسنة هي في الحقيقة حرب بين التشيع الصفوي والتسنن الأموي، والهدف منها هو إشغال المسلمين عن الصراع القائم بين الإسلام والاستعمار والصهاينة

ولعمري أن العدو لا يحلم بوضع أفضل من أن تنشغل القوات المعادية له بالاقتتال فيما بينها في الخندق المقابل له، ليتاح له الهجوم عليها في ظل الجدل القائم بين أبناء الخندق الواحد.. فيمسك الشيعي بتلابيب السني ويعنفه بالقول أنك توالي من كسر ضلع الزهراء.. ويعيد السني الكرة على ملعب الشيعي ويتهمه بأنه يتعرض لعمر وأبي بكر والصحابة.. ولا تنجلي غبرة المعركة إلا عن قهقهة العدو معلنا انتصاره على الضفة الغربية للنهر !



بالتأكيد أن هناك اختلافات عميقة في العقائد والأصول، وأهونها في الفقه ، بيننا، ولست أرى ما يرى شريعتي أنه مجرد اختلاف علمي في مذهب واحد، ورأي أغلب علماء أهل السنة كما علماء الشيعة أنها مسائل قطعية قد تستلزم الضلال لا الكفر – ولكن هذا ليس في حق المُعينين الذي يستلزم الحكم عليهم اعتبارات مفصلة وثبوت شروط وانتفاء موانع وأهمها الجهل والتأويل.. ولكن العبرة ألا نكفر أهل القبلة إلا بما يخرم المعلوم من الدين بالضرورة، وهي مسائل محدودة.

غير أن منطق التحالف الاستراتيجي أوسع كثيرا من هذا، وأعقد في ذات الوقت.. لأنه يعتمد على قراءة موضوعية للمحركات والمسارات وخطوط التلاقح والمشاكسة وإدارة آليات التحالف تلك ومعوقاته بشكل مضنٍ مع اطراد الحوداث وتناقض المصالح الحتمي. وبألا يتحول أي تحالف لاعتمادية تضرب في بنية التصور المصلحي..
ولهذا – كنت أرى أن اضطرار حماس لهذه الدرجة من الاعتمادية هو شيء ضار و من لوازم الإشكال الاستراتيجي بعد حسم غزة 2007، ولكن حتى كان من المهم الضبط الشديد له كأفق وديناميات وخطاب حتى لا يوتر العلاقات مع الخليج مثلا بل محاولة القيام حتى بدور تجسيري وتقريبي شبيه بالدور العراقي العامين الفائتين.
وهذا ما تورطت فيه الحركة الفلسطينية في عهد أبو عمار رحمه الله في حرب الخليج الثانية والتي استفادت حماس منه بالمفارقة.
وإدراك كل ما سبق، كصياغة وإدارة وحتى تحليل، لا يمكن حصوله بتفسير متعصب وأعمى حول طبيعة الإيراني ومحركاته، وسيقود حتما لإفراط أو تفريط في هذا الباب.

في أكتوبر الماضي كتبت عن محركات ومنطق إيران وحزب الله بالحرب

هناك إدراك لصعوبة فتح الجبهة الشمالية (إشكال الشرعية الشعبية والإقليمية لحزب الله)، أو تطوير حرب إقليمية (مع الدخول العميق للأمريكي و هشاشة الوضع الداخلي الإيراني). ولكن في ذات الوقت، هناك مطلب لتطوير صيغة دنيا من الاشتراك (دور إشغالي للجبهة الشمالية) لمنع تهاوي أكبر في الشرعية الشعبية وعند حلفائها (هناك امتعاض واضح عند حماس من انحسار شديد لدور إيران والحزب). هذا لايمنع أن هناك تحسبا واستعدادا إذا تم فرض حالة الحرب ولكن نزوع مبكر لاستعادة صيغة ردع بعد اختبار متبادل لمحدودية القوة وتفاقم الإشكال الداخلي

وعلى هذا كان التقدير المبدئي هو بقاء حرب غزة في إطار الحرب المحدودة مع مناوشات من الجبهة الشمالية وغيرها..

ليس معنى هذا أنه لا توجد نية صادقة للانخراط في الصراع عند هذه المكونات كما أسلفت، لأن الانخراط في هذا الصراع يُنظر له إيرانيا وللحزب كأداة استراتيجية نعم لتطوير الهيمنة والحركة بالإقليم ولكن التزام عقائدي كذلك،ولكن لأن هناك محددات استراتيجية ومعوقات مُعتبرة أمام ذلك. الأمر أبعد ما يراه أصحاب التعصب المذهبي أنه نفاق من إيران والحزب.
نعم.. هذه الأطراف بذاتها هي ما أحدثت هذه المعوقات بمسار استراتيجي ملتبس – بالأخص كما أشرنا لأزمة الشرعية السياسيةعند حزب الله التي قطعت عليه مساحات واسعة من حرية الحركة لفتح الجبهة، وكما تسببت عنه سلسلة من الأزمات الممتدة منذ اغتيال الحريري وحسم بيروت 2008 ثم بشكل أقسى الاشتراك في أزمة سوريا مابعد 2011، وتوسع في أدوار عدائية في نظر دول الإقليم – الخليج.
كذلك إيران – مسلكها العدائي والتصفوي ساهم في تمهيد لبنات التقارب الخليجي الإسرائيلي وزيادة الاعتمادية على الأمريكي. نعم – في سوريا الأطراف الإقليمية كلها دفعت الأزمة بالتفجير واصطنعت وكلاء على حساب وحدة البلد والشعب السوري وإن كانت جرائم النظام هي الأفدح، ولكن الساحة العراقية بالأخص كان الدور الإيراني انتقاميا بشكل مفرط وتجاوز بمراحل التصدي للعنصر الإرهابي سواء بُعيد الاحتلال الأمريكي أو مع بروز داعش والحشد.

ولكن برغم هذا الشرح عن المسئولية التاريخية وفي ذات الوقت صدقية اعتبار الصراع مع إسرائيل مكونا مركزيا في السياسة الإيرانية استراتيجيا وعقائديا، فإنها تبقى مُعوقات معتبرة تُجبر الإيراني والحزب بشكل واضح ومبرّر على عدم فتح الجبهة الشمالية بشكل كامل، أو الانخراط في حرب مفتوحة (حراجة الأزمة على الإسرائيلي وطبيعة الدور الأمريكي فيها وتصميمه على ردع إيران عن المشاركة ، تجعل أي تصعيد إيراني غير محسوبة مدخل أكيد لهذه الحرب! وهذا أهمّ ما لم تعتبره قيادة حماس في التقدير الاستراتيجي لتداعيات 7 أكتوبر، والخطأ الجلي في ترقبها لفتح الجبهات بشكل يكبح رد الفعل الإسرائيلي المُدمر لغزة ككيان سياسي وبنية عسكرية وحتى نسيج اجتماعي وإنسانية.

وما حصل من هجوم إيراني متنوع بأكثر من ثلاثمائة طائرة مسيرة وصاروخ كروز وباليستي، ردا على الضربة الإسرائيلية المستفزة لملحق بقنصليتها في دمشق واغتيال أبرز قادتها بالمنطقة، لا يُمكن فهمه وتقييمه إلا على هذا السياق. هو تصعيد (محسوب) في الأزمة المفترض أنه يوصل رسالة ردعية إيلامية
punitive
لأجل ترميم حاجز الردع الذي تعداه الإسرائيلي مرارا في السنين الفائتة ضمن عملياته لتعطيل المشروع النووي في الداخل الإيراني، وكذلك في جبهة سوريا.

غير أن الطريقة التي تمت بها العملية، وديناميات الوضع تشي بأن إعادة الاعتبار
prestigue
لإيران داخليا و ضمن وكلائها، كان الهدف الأهم.
وبعد ذلك ينغلق سقف التصعيد بقبول ضمني للأطراف المتصارعة، كما حصل أيام سليماني. ولكن كذلك يومها، قبول الإيراني بذلك هو أخذ من منسوب قيمته الردعية عموما.

أسلفت في مواضع سابقة (مثلا – مقال الردع التقليدي وسد النهضة) تناولا موجزا لمنطق ودينامية الردع التقليدي، وما يهمني التوكيد عليه هنا، أن هذا النوع من الردع هو أعقد الأنواع، لأنه على عكس النووي يستلزم استخدامات متعددة ومتكررة لمساحات الاشتباك العسكري، وضبط بوصلتها دوما مع حزمة الرسائل المحيطة، وقياس مدى استلام العدو لها وتصرفه على أساسه،
بحيث ألا تقل الرسالة عن حد الردع المطلوب سواء العقابي (حزمة الإيذاء التي ستُعرض خصمك لها إن لم يمتنع عن فعل تهديدي) أو الإنكاري (أن أحرمه أصلا من فرصة التهديد النوعي في مساحات وأدوات بعينها)، وفي ذات الوقت لاتنفلت لحد فتح الحرب وفشل الردع.
وفي ذات الوقت، لأن النتيجة الأخيرة أم ممكن جدا، ولأن الردع التقليدي جزء منه مرتبط بالجاهزية، فلابد أن يكون مُصدّر الرسالة الردعية بالفعل جاهزا للحرب.
ولهذا فلايكفي مجرد المصداقية في رسالة التهديد الردعي
Credibility
بل الأعقد منها، الجاهزية للتفوق العسكري والإيذائي،
Capability

أولا) كإطار استراتيجي. استعادة الردع تقتضي درجة من الإيذاء الحقيقي يتناسب مع ماحصل، وبناء هاجس له
credibility
وبعض المؤشرات على ال
capabilities
التي تستخدم ضمن مصفوفة تصاعدية (على حسب استجابة العدو لمقتضى الرسالة الردعية). وهذا لم يحصل في غياب المباغتة، والاعتماد الأولي على المسيرات والكروز، وحتى مصفوفة النيران الصاروخي
Fire Pattern
والتي تسمح بوضوح بمدافعتها.
ولهذا فبالرغم من أن رد الفعل تجاوز الحد المرتقب أمريكيا وإسرائيليا، و أنه بالفعل أمر له دلالة معنوية فارقة بالنظر أنه أول استهداف إيراني مباشر صاروخي للداخل الإسرائيلي، وربما لا يقاربه في رمزيته غير صواريخ صدام ال63 في حرب الكويت في سياق وأهداف مختلفة تماما، وحينها كذلك ضغط الأمريكي بشدة على إسرائيل للحفاظ على التحالف، وأغراها بحزم واسعة من المعونات وتقوية جدراها الدفاعي بصواريخ باتريوت، وتطوير مشاركتها السابقة في صواريخ آرو، إلا أنه أقل كثيرا من الإيذاء المطلوب..
بل العكس – قدم خميرة بالطريقة التي تم بها لبناء إطار دفاعي حقيقي بتشاركية دولية وإقليمية ضدها بشكل فج.. حتى لو احتج الأردن ومعه الحق! أن دوره كان لحماية أمنه الجوي، واستترت دول أخرى تحتضن منصات الإنذار المبكر وفواعل القوة الجوية الغربية.

ثانيا) عملياتيا. الخيارات كانت واسعة حتى دون المخاطرة بفتح جبهة لبنان. مثل ما ذكرت..طريقة الاستهداف الصاروخي كما وكيفا بالأخص لها خيارات. عمليات سرية ونشاط
terrorist
في الساحة الدولية ولو بمنتوج محسوب ومحذر منه سلفا (مثل عمليات
IRA
زمان)، وتذكر حتى عمليات الحزب على اغتيال الموسوي 92,

عمليات من الجبهة السورية وهذا له دلالة ، وحتى نشاط بحري
(rocket boats suicudal )
تتم نقل أدواته عبر سوريا ولبنان وغيرها

ثالثا. عودة للإطار الاستراتيجي. ليس جيدا ترميم ردع وأنت تقول في الأمم المتحدة أنا أنهيت ردي، وإن كانت الرسالة من إيران واضحة بالاستعداد لتوسيع الاشتباك. 

ولكن الأفضل، كان ترك النية مفتوحة مع التأشير على منطق الدفاع للرد الذي حصل، حتى تتوالى الماكينة الدولية أو تخرج رسالة واضحة من الإسرائيلية باستعادة الصيغة السابقة (الي حصل فيها تدهور لل deterring posture لإيران في الكم سنة الماضية وليس فقط بعد آخر عملية.

وحتى ندرك الصورة جيدا، يهمنا فهم أن هناك اختلاف جوهري بين التصور الأمريكي وتصور إسرائيل نيتنياهو حول كيفية إدارة حرب غزة، فضلا عن الهوس الإسرائيلي بنظرية الأمن المطلق وغلبة التفكير العملياتي والتكتيكي على الاستراتيجية.. كما سماه مايكل هاندل – المفكر الاستراتيجي الأمريكي الصهيوني الراحل
Tacticization of strategy
والذي يُقدم تسكين مواطن التهديد والسعي للحسم على اعتبار الآثار والمآلات الاستراتيجية.

الأمريكي منذ بداية الحرب، كان يرى ضرورة القيام بعملية جراحية نظيفة ما أمكن ضد حماس لنزع سيطرتها السياسية على القطاع، وتدمير أغلب بنيتها العسكرية، ووضع خطوط حمر ضد التوسع في استهداف المدنيين لحماية صورة إسرائيل دوليا، مع تقديم حكم غزة لإدارة مغايرة – غالبا تطوير للسلطة الفلسطينية – مع دعم إقليمي، وهذا قد يقتضي مشروع سياسي وحل للدولتين – مع مراعاة كل الهواجس الأمنية لإسرائيل، وبالعكس – مع آثار حرب غزة، سيضرب هذا الحاضنة الشعبية لفكرة المقاومة فلسطينيا، قريب مما حصل في السنين القليلة التي تلت أوسلو
Getting to the train strategy
أن تقدم للشعب بديلا آخر مريحا وآمنا عن دعم حركات المقاومة (التمرد) وبهذا تعزلها، وهذا يعود لكلاسيكيات مكافحة التمرد القديمة لديفيد جالولو وروبرت تومبسون، وحتى التحول العقائدي المهم أمريكيا في مدونة مكافحة التمرد للجيش والمارينز 2006.
ولهذا فالأمريكي دائما زاوج بين الدعم الاستراتيجي والعسكري والسياسي لإسرائيل لكل ثوابت أي سياسة أمريكية داخليا وخارجيا، ولكن مارس ضغوطات متنوعة، وقدم تطمينات.. وأهمها ما قام به أول الحرب من دفع حاملتي طائراته بالمنطقة وتطوير صيغة تفاهمية واضحة أن لاتنزلق الحرب لمفتوحة أو تتخطى الجبهة الشمالية حدا معينا.

هذا التصور بالمناسبة هو عند الإيراني، ويعتمد عليه الآن أن يتدخل الأمريكي ويكبح نيتنياهو عن رد الفعل، والاكتفاء بما حصل، ولكنهم كانوا ومكونات محورهم بالمنطقة ينشرون صورة مغايرة تماما وأن الأمريكي هو من يقود الحرب ويدير غرفة العمليات الإسرائيلية!! وهذا لأسباب يغطون بها عدم انخراطهم الكثيف وللتعبئة الإعلامية.

بوضوح، هناك احتمال معتبر أن يستجيب الإسرائيلي (مؤقتا) للضغط الأمريكي في عدم الرد الصريح في الداخل الإيراني، ولكن لو عاد فقط للضرب في جبهة سوريا ولبنان أو بالداخل الإيراني بشكل مستتر – وهذا حتما حاصل – ، فندرك حينها أن الرسالة الردعية منقوصة،
ولكنه إذا ضرب في الداخل الإيراني بشكل صريح وهذا قد يحصل لطبيعة نيتنياهو وحكومته الحالية و هاجس الأمن السابق ذكره وإن خفّف منه إعادة اعتبار ملحوظ في السينين الأخيرة للسؤال الاستراتيجي، فهذا يستلزم ردا أقسى بالمقابل وإلا انهار السبك الردعي للإيراني تماما.

والرسالة التي طرحتها قيادة الحرس (من الآن وصاعدا سنستهدف الكيان الصهيوني انطلاقا من إيران إذا هاجم ممتلكاتنا أو رعايانا أو مصالحنا أو شخصياتنا في مكان بالعالم وبهذا قد نكون خلقنا معادلة ردع جديدة)، شديدة الإشكال والثمنية!!
كما أسلفت، حتما سيتحرك الإسرائيلي في مساره السابق قبل التصعيد لاستعادة حريته للحركة، ورغبته في ترميم الردع (كما تحرك وتحرش بالمسجد الأقصي في أول يوم بعد هدنة حملة سيف القدس)،
فلو تحرك ثانية الإيراني برتبة أعلى في مصفوفة الردع – حينها يمكن استعادة المعادلة السابقة قبل انخرامها السنين الفائتة؛ هي ليست معادلة جديدة..
وهذا – كما أشرت في الاقتباس أول المقال، سيفتح باب للحرب المفتوحة، ولكن المؤقتة كذلك تبعا لاختبار الأطراف مساحات الإيذاء وإعادة الاعتبار لصيغة أكثر استقلالا وبتفاهمات أكثر مباشرة.

ولو لم يتحرك الإيراني أو تحرك بشكل هزيل- وهذا احتمال وارد لأنه أعلى السقف بأشواط دون بالضرورة التحسب كجاهزية وسيناريوهات للنتائج، فهو تداع أكبر للتوازن الردعي الحاصل.

تقدير موقف لحرب غزة – ومنطلقات الاستراتيجية الإسعافية
مقال: على هامش تسريبات المشروع الصاروخي السعودي – آثاره وحدود المنطق الاستراتيجي للصواريخ البالستية
حول استراتيجية الردع والديبلوماسية القسرية: خيارات مصر وسد النهضة

One thought on “ملاحظات على الهجوم الإيراني.. المحركات، ومنطق الردع ومتوالياته الاستراتيجية”

  1. جميل جدا ساعدني المقال في تكوين فهم أعمق للحادث الإقليمي العظيم ٧ أكتوبر و تداعياته…

    لكن عندي ملاحظة طفيفة هناك بعض الأخطاء في تراكيب الجمل تصنع بعض المعوقات في فهم المراد كأن أصل المادة كان صوتياً ثم تم تفريغه

    Like

Leave a comment