ملاحظات على الهجوم الإيراني.. المحركات، ومنطق الردع ومتوالياته الاستراتيجية

16/4/2024

يهمني في البدء الإشارة أن الاستفهام الاستراتيجي لهذه العملية وماسواها لاينفك عن اعتبار مبدئين،

الأول – أن التقدير الاستراتيجي يفسده تماما حضور أي تحيّز عاطفي أو عقائدي أو حتى أخلاقي.. فلا يسعنا غير محاولة استكشاف محركات استخدام أدوات القوة وجدواها، مع حصول التعقيد الكافي في هذا.. هذا على خلاف صنع الاستراتيجية لأننا في هذا نصدر عن تحيزاتنا ومانراه حدودا أخلاقية تضبط توظيفنا نحن لأدوات القوة. ولا شك أن صنع الاستراتيجية يرتكز على تقدير استراتيجي ما ويسري عليه ماذكرناه، ولكن بعده نُعمل تحيزاتنا سالفة الذكر.

الثاني – التقدير الاستراتيجي معقد وقابل أن يتفلت منه تيار الحوادث في أية لحظة، ولهذا فقيمته هي في التحفيز الذهني بطرح الأسئلة والشروط وسرعة الاستجابة للقادة وكيفية تخليق الإجابة ومراجعتها أكثر منه التنبؤ،
وكان لأستاذي الراحل كولن جراي مقولة ساخرة (من عنده بلورتي السحرية) أوردها في كتابه الجيد –
Strategic Theory and Defence Planning
المحركات مختلطة وكثير منها معنوي ومتناقض ولايمكن قياسه أو اطرداه، والعنصر البشري لا يلاحقه أي تنبؤ – فما بالنا إن كانت تنبني عليه منظومات وتحصل به متواليات أفعال وردود أفعال. وكذلك الجدوى صعوبتها تكمن في الاختلاف الجنسي بين الوسائل والأهداف .. أي محاولة قياس الأثر الاستراتيجي – وغالبا يرتبط بتغيير الإرادة السياسية للخصوم والأطراف المعنية وهذا شيء معنوي وبشري، من الأثر التدميري أو توقعه وهذا شيء مادي.

مُهمّ إدراك محركات إيران في سياستها الدفاعية والإقليمية، وهناك صورة واضحة عنها بشكل معقول يقدمها السبر الدقيق لآلاف التفاصيل ومسار الفعل السياسي والعسكري منذ الثورة 79، وهي بالتأكيد لن ترضى أنصارها أو أعداءها على السواء، لأن كل طرف للأسف يعيش في واقع افتراضي تنسج لبناته تعصبه الحاد مع أو ضد..
ولهذا قيمتان، الأول هو ضرورته للتقدير الاستراتيجي وبناء سيناريوهات مستقبلة، والثاني لأني فوجئت الحقيقة بحجم الهستيريا المذهبية ومجافاة بدهيات العقل والواقع التي تسود كثير من القطاعات في مقاربتها لما حصل!

المحركات الإيرانية على الترتيب هي بالأساس الحفاظ على مصلحة النظام (الذي لأجل بقائه تجرع الإمام الخوميني السم على حد تعبيره في نهاية حرب الخليج الأولى)،
يلي ذلك مقتضيات الهيمنة الإقليمية – هذه مسألة بديهية وليس فيها الحقيقة أي إشكال منطقي أو حتى إخلاقي بالنظر للثقل الكثيف التجربة الإيرانية تاريخيا وجغرافيا وثقافيا وبشريا، المشكل يحصل في المناسبة الاستراتيجية والأخلاقية في مسار السعي لها.
ثم يأتي البُعد المذهبي الإمامي وهو يفوق التصور الدياني ذاته لأسباب عقائدية وتاريخية معقدة، مع اعتبار كل التباينات بين المدارس الاثنى عشرية كأصوليين وإخباريين وتيار الولي الفقيه أو من رفضه كمدرسة النجف وآية الله محمد حسين فضل الله رحمه الله، وقد سعدت بلقائه قديما قبيل وفاته وقد ضاق بنَفَسه الوحدوي والعدالي أبناء طائفته، وتيار تجديدي من داخل أو خارج الحوزة، وكذا التمازج بين المنحى المذهبي وتوظيفاته السياسية والاجتماعية. هذا البعد المذهبي خصوصا عند طبقة المحافظين له نزعة شديدة النفور والعدائية من الحالة السنية واستحضار غير عقلاني للإرث التارخي السلبي وهو بالمزاوجة مع التعصب عند شرائح سنية وقود حقيقي لمعظم الأزمات الطائفية في بلادنا العقود السابقة والتي وصلت لحد المذابح والتطهير القائم على الهوية المذهبية كما حصل بالأخص في العراق ثم سوريا! ولكن أيضا حالة الفداء الحُسيني وانتصار الدم على السيف،
ثم يأتي البعد الدياني الصرف، والذي بالتأكيد يرى الصراع مع إسرائيل والتغيير الإقليمي والوحدوي مركزية، ولكنه معجون بالنفس المذهبي الإمامي والانتظار الإيجابي للمهدي..

– هذه المحركات بالمناسبة تختلف كترتيب عند بعض مكونات النظام ، وتنزّلها كذلك يتباين على الحوادث وفي بناء اتجاهات سياسية ودينية في كل المسائل سواء كان في دور الولي الفقيه وحاكميته في رسم اتجاهات النظام كالخلاف الشهير بين الخوميني والخامنئي – قبل أن يصير الأخير نفسه في مقام الأول تاليا، أو العلاقة مع الغرب، أو الدول العربية السنية وحتى مفردات الصراع العربي الإسرائيلي والتحرك فيه وثمنه. ولكن يهمنا بالتأكيد أن نصل في الأخير لصورة إجمالية مبسطة بدونها لا يمكننا الوصول لأي تصور تحليلي، دون نسيان مساحة الثراء والتركيب الحاصلة.

هل إيران لها انخراط صادق، وهل هناك حالة مع العداء الحيوي ضد إسرائيل وفي تصور بعض القطاعات عند الطرفين – الوجودي بينهما؟.
قطعا! وتشهد لذلك أغلب أجزاء المشهد الحاصل في بلادنا لعقود، حتى بالنظر للتقدير الاستخباراتي السنوي لأمان والذي تتربع على رأسه إيران كأهم مصدر للتهديد وعلى ذلك تتطور كل البنى الدفاعية والتسليحية، وآلاف المناوشات بينهما بشكل مباشر وبالوكالة، الاعتمادية العسكرية في التكوين لحماس والجهاد على إيران والدعم المادي الذي استمر معظم الفترات عدا فترة القطيعة بعيد بدء الثورة السورية والتي سريعا انزلقت لحرب أهلية وبالوكالة، وهكذا.

هل خلفية الصراع الحاد تلك لا تشتمل كذلك على تقاربات وتفاهمات بين إيران وأمريكا في محطات عديدة، وحتى مع إسرائيل في وراثة جزئية للتحالف الإسرائيلي الإيراني الذي بدأت نوياته منذ الستينات وصار تحالفا رسميا بما يسمى المثلث – الطرف الثالث تركيا !، تكريسا للاستراتيجية الطرفية بهدف إشغال دول الطوق وبالأخص العراق وسوريا، وحتى بعد الثورة الإيرانية
وقفل هذا الباب، فحصلت تقاربات في محطات مثل إيران الكترا؟ نعم!
ومن أفضل الدراسات في هذا الباب وأعتقد أنها مترجمة للعربية –
Treacheous Alliance: The Secret Dealing of Israel, Iran and the US – Parsi
وبالرغم أني أرى مبالغتها في رسم حدود التقارب وتوهينها من حدود الصدام وبعده العقائدي إلا أنها تبقى دراسة جيدة وصفيا وتحليليا.

هذا عزيزي هو تعقيد السياسية والاستراتيجية، والحالة الإنسانية والتدينية تاريخيا وواقعيا بكل تشابكاتها.. نظرة حتى لتاريخنا الإسلامي (بكل ما فيه من تألقات ومفاخر بأي مقياس ولكنه أبعد بأشواط عن أي نظرة طوباية) تُحصن أي شخص من التأثير المهووس للأيديولوجي التي قد تُعمي عن امتلاك أبسط أدوات التقييم، والوزن. والذي مع أنه ضرورة استراتيجية كما أسلفت، ولكنه واجب دياني وقيمي،
(ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا)
– (يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم والوالدين والأقربين).

بل الأمر يتعدى واجب العدالة مع المخالف بالمذهب والامتناع عن تكفيره وشيطنته، وصيانة الدم، للنظر إلى كيف يفعل أبناء الأمة الواحدة أمام عدوها..

ما أروع ما خطه الشهيد الدكتور علي شريعتي قديما في كتابه الشهير ( التشيع العلوي والتشيع الصفوي)، وهو بكل تمسكه بننود اعتقاده الإمامي الإثنا عشري، ولكن تجاوز لعقله الكبير ونفسيته الرائقة وسبكه العلمي كل مخانق التفسير الأحادي والتعصب مع الأقربين والخصوم.. أدعوكم لقراءته.

ولا يسعني الآن التفصيل في بنود المذهب الاثنا عشري، وما يراه التصور السنني الرشيد أصوليا في اعتبار عارض التأويل (قد ينقل عن الكفر أو الفسق تبعا لرتبة حكم المسألة) عدا في مسائل المعلوم بالدين بالضرورة كمسألة عدم تحريف المصحف. وهذه المسألة تحديدا هي ما دفعت شريعتي لتناولها بحُرقة في كتابه :

إن الاختلاف بين التشيع العلوي والتسنن المحمدي ليس إلا اختلاف بين عالمين وفقهين من مذهب واحد حول مسألة علمية. يجب أن يعلم المسلمون أن جميع مراجعنا العظام، صرّحوا رسميا بأن القرآن ليس فيه حتى كلمة واحدة محذوفة أو مضافة. وكل من يعتقد غير ذلك فهو ضال ومنحرف، وما كل تلك الأقاويل إلا من ذكر رجالات التشيع الصفوي ليقدموا بذلك ذرائع لرجالات التسنن الأموي ليقمعوا
الشيعة بمثل هذه الاتهامات

أعود وأقول أن الحرب الدائرة حاليا بين الشيعة والسنة هي في الحقيقة حرب بين التشيع الصفوي والتسنن الأموي، والهدف منها هو إشغال المسلمين عن الصراع القائم بين الإسلام والاستعمار والصهاينة

ولعمري أن العدو لا يحلم بوضع أفضل من أن تنشغل القوات المعادية له بالاقتتال فيما بينها في الخندق المقابل له، ليتاح له الهجوم عليها في ظل الجدل القائم بين أبناء الخندق الواحد.. فيمسك الشيعي بتلابيب السني ويعنفه بالقول أنك توالي من كسر ضلع الزهراء.. ويعيد السني الكرة على ملعب الشيعي ويتهمه بأنه يتعرض لعمر وأبي بكر والصحابة.. ولا تنجلي غبرة المعركة إلا عن قهقهة العدو معلنا انتصاره على الضفة الغربية للنهر !



بالتأكيد أن هناك اختلافات عميقة في العقائد والأصول، وأهونها في الفقه ، بيننا، ولست أرى ما يرى شريعتي أنه مجرد اختلاف علمي في مذهب واحد، ورأي أغلب علماء أهل السنة كما علماء الشيعة أنها مسائل قطعية قد تستلزم الضلال لا الكفر – ولكن هذا ليس في حق المُعينين الذي يستلزم الحكم عليهم اعتبارات مفصلة وثبوت شروط وانتفاء موانع وأهمها الجهل والتأويل.. ولكن العبرة ألا نكفر أهل القبلة إلا بما يخرم المعلوم من الدين بالضرورة، وهي مسائل محدودة.

غير أن منطق التحالف الاستراتيجي أوسع كثيرا من هذا، وأعقد في ذات الوقت.. لأنه يعتمد على قراءة موضوعية للمحركات والمسارات وخطوط التلاقح والمشاكسة وإدارة آليات التحالف تلك ومعوقاته بشكل مضنٍ مع اطراد الحوداث وتناقض المصالح الحتمي. وبألا يتحول أي تحالف لاعتمادية تضرب في بنية التصور المصلحي..
ولهذا – كنت أرى أن اضطرار حماس لهذه الدرجة من الاعتمادية هو شيء ضار و من لوازم الإشكال الاستراتيجي بعد حسم غزة 2007، ولكن حتى كان من المهم الضبط الشديد له كأفق وديناميات وخطاب حتى لا يوتر العلاقات مع الخليج مثلا بل محاولة القيام حتى بدور تجسيري وتقريبي شبيه بالدور العراقي العامين الفائتين.
وهذا ما تورطت فيه الحركة الفلسطينية في عهد أبو عمار رحمه الله في حرب الخليج الثانية والتي استفادت حماس منه بالمفارقة.
وإدراك كل ما سبق، كصياغة وإدارة وحتى تحليل، لا يمكن حصوله بتفسير متعصب وأعمى حول طبيعة الإيراني ومحركاته، وسيقود حتما لإفراط أو تفريط في هذا الباب.

في أكتوبر الماضي كتبت عن محركات ومنطق إيران وحزب الله بالحرب

هناك إدراك لصعوبة فتح الجبهة الشمالية (إشكال الشرعية الشعبية والإقليمية لحزب الله)، أو تطوير حرب إقليمية (مع الدخول العميق للأمريكي و هشاشة الوضع الداخلي الإيراني). ولكن في ذات الوقت، هناك مطلب لتطوير صيغة دنيا من الاشتراك (دور إشغالي للجبهة الشمالية) لمنع تهاوي أكبر في الشرعية الشعبية وعند حلفائها (هناك امتعاض واضح عند حماس من انحسار شديد لدور إيران والحزب). هذا لايمنع أن هناك تحسبا واستعدادا إذا تم فرض حالة الحرب ولكن نزوع مبكر لاستعادة صيغة ردع بعد اختبار متبادل لمحدودية القوة وتفاقم الإشكال الداخلي

وعلى هذا كان التقدير المبدئي هو بقاء حرب غزة في إطار الحرب المحدودة مع مناوشات من الجبهة الشمالية وغيرها..

ليس معنى هذا أنه لا توجد نية صادقة للانخراط في الصراع عند هذه المكونات كما أسلفت، لأن الانخراط في هذا الصراع يُنظر له إيرانيا وللحزب كأداة استراتيجية نعم لتطوير الهيمنة والحركة بالإقليم ولكن التزام عقائدي كذلك،ولكن لأن هناك محددات استراتيجية ومعوقات مُعتبرة أمام ذلك. الأمر أبعد ما يراه أصحاب التعصب المذهبي أنه نفاق من إيران والحزب.
نعم.. هذه الأطراف بذاتها هي ما أحدثت هذه المعوقات بمسار استراتيجي ملتبس – بالأخص كما أشرنا لأزمة الشرعية السياسيةعند حزب الله التي قطعت عليه مساحات واسعة من حرية الحركة لفتح الجبهة، وكما تسببت عنه سلسلة من الأزمات الممتدة منذ اغتيال الحريري وحسم بيروت 2008 ثم بشكل أقسى الاشتراك في أزمة سوريا مابعد 2011، وتوسع في أدوار عدائية في نظر دول الإقليم – الخليج.
كذلك إيران – مسلكها العدائي والتصفوي ساهم في تمهيد لبنات التقارب الخليجي الإسرائيلي وزيادة الاعتمادية على الأمريكي. نعم – في سوريا الأطراف الإقليمية كلها دفعت الأزمة بالتفجير واصطنعت وكلاء على حساب وحدة البلد والشعب السوري وإن كانت جرائم النظام هي الأفدح، ولكن الساحة العراقية بالأخص كان الدور الإيراني انتقاميا بشكل مفرط وتجاوز بمراحل التصدي للعنصر الإرهابي سواء بُعيد الاحتلال الأمريكي أو مع بروز داعش والحشد.

ولكن برغم هذا الشرح عن المسئولية التاريخية وفي ذات الوقت صدقية اعتبار الصراع مع إسرائيل مكونا مركزيا في السياسة الإيرانية استراتيجيا وعقائديا، فإنها تبقى مُعوقات معتبرة تُجبر الإيراني والحزب بشكل واضح ومبرّر على عدم فتح الجبهة الشمالية بشكل كامل، أو الانخراط في حرب مفتوحة (حراجة الأزمة على الإسرائيلي وطبيعة الدور الأمريكي فيها وتصميمه على ردع إيران عن المشاركة ، تجعل أي تصعيد إيراني غير محسوبة مدخل أكيد لهذه الحرب! وهذا أهمّ ما لم تعتبره قيادة حماس في التقدير الاستراتيجي لتداعيات 7 أكتوبر، والخطأ الجلي في ترقبها لفتح الجبهات بشكل يكبح رد الفعل الإسرائيلي المُدمر لغزة ككيان سياسي وبنية عسكرية وحتى نسيج اجتماعي وإنسانية.

وما حصل من هجوم إيراني متنوع بأكثر من ثلاثمائة طائرة مسيرة وصاروخ كروز وباليستي، ردا على الضربة الإسرائيلية المستفزة لملحق بقنصليتها في دمشق واغتيال أبرز قادتها بالمنطقة، لا يُمكن فهمه وتقييمه إلا على هذا السياق. هو تصعيد (محسوب) في الأزمة المفترض أنه يوصل رسالة ردعية إيلامية
punitive
لأجل ترميم حاجز الردع الذي تعداه الإسرائيلي مرارا في السنين الفائتة ضمن عملياته لتعطيل المشروع النووي في الداخل الإيراني، وكذلك في جبهة سوريا.

غير أن الطريقة التي تمت بها العملية، وديناميات الوضع تشي بأن إعادة الاعتبار
prestigue
لإيران داخليا و ضمن وكلائها، كان الهدف الأهم.
وبعد ذلك ينغلق سقف التصعيد بقبول ضمني للأطراف المتصارعة، كما حصل أيام سليماني. ولكن كذلك يومها، قبول الإيراني بذلك هو أخذ من منسوب قيمته الردعية عموما.

أسلفت في مواضع سابقة (مثلا – مقال الردع التقليدي وسد النهضة) تناولا موجزا لمنطق ودينامية الردع التقليدي، وما يهمني التوكيد عليه هنا، أن هذا النوع من الردع هو أعقد الأنواع، لأنه على عكس النووي يستلزم استخدامات متعددة ومتكررة لمساحات الاشتباك العسكري، وضبط بوصلتها دوما مع حزمة الرسائل المحيطة، وقياس مدى استلام العدو لها وتصرفه على أساسه،
بحيث ألا تقل الرسالة عن حد الردع المطلوب سواء العقابي (حزمة الإيذاء التي ستُعرض خصمك لها إن لم يمتنع عن فعل تهديدي) أو الإنكاري (أن أحرمه أصلا من فرصة التهديد النوعي في مساحات وأدوات بعينها)، وفي ذات الوقت لاتنفلت لحد فتح الحرب وفشل الردع.
وفي ذات الوقت، لأن النتيجة الأخيرة أم ممكن جدا، ولأن الردع التقليدي جزء منه مرتبط بالجاهزية، فلابد أن يكون مُصدّر الرسالة الردعية بالفعل جاهزا للحرب.
ولهذا فلايكفي مجرد المصداقية في رسالة التهديد الردعي
Credibility
بل الأعقد منها، الجاهزية للتفوق العسكري والإيذائي،
Capability

أولا) كإطار استراتيجي. استعادة الردع تقتضي درجة من الإيذاء الحقيقي يتناسب مع ماحصل، وبناء هاجس له
credibility
وبعض المؤشرات على ال
capabilities
التي تستخدم ضمن مصفوفة تصاعدية (على حسب استجابة العدو لمقتضى الرسالة الردعية). وهذا لم يحصل في غياب المباغتة، والاعتماد الأولي على المسيرات والكروز، وحتى مصفوفة النيران الصاروخي
Fire Pattern
والتي تسمح بوضوح بمدافعتها.
ولهذا فبالرغم من أن رد الفعل تجاوز الحد المرتقب أمريكيا وإسرائيليا، و أنه بالفعل أمر له دلالة معنوية فارقة بالنظر أنه أول استهداف إيراني مباشر صاروخي للداخل الإسرائيلي، وربما لا يقاربه في رمزيته غير صواريخ صدام ال63 في حرب الكويت في سياق وأهداف مختلفة تماما، وحينها كذلك ضغط الأمريكي بشدة على إسرائيل للحفاظ على التحالف، وأغراها بحزم واسعة من المعونات وتقوية جدراها الدفاعي بصواريخ باتريوت، وتطوير مشاركتها السابقة في صواريخ آرو، إلا أنه أقل كثيرا من الإيذاء المطلوب..
بل العكس – قدم خميرة بالطريقة التي تم بها لبناء إطار دفاعي حقيقي بتشاركية دولية وإقليمية ضدها بشكل فج.. حتى لو احتج الأردن ومعه الحق! أن دوره كان لحماية أمنه الجوي، واستترت دول أخرى تحتضن منصات الإنذار المبكر وفواعل القوة الجوية الغربية.

ثانيا) عملياتيا. الخيارات كانت واسعة حتى دون المخاطرة بفتح جبهة لبنان. مثل ما ذكرت..طريقة الاستهداف الصاروخي كما وكيفا بالأخص لها خيارات. عمليات سرية ونشاط
terrorist
في الساحة الدولية ولو بمنتوج محسوب ومحذر منه سلفا (مثل عمليات
IRA
زمان)، وتذكر حتى عمليات الحزب على اغتيال الموسوي 92,

عمليات من الجبهة السورية وهذا له دلالة ، وحتى نشاط بحري
(rocket boats suicudal )
تتم نقل أدواته عبر سوريا ولبنان وغيرها

ثالثا. عودة للإطار الاستراتيجي. ليس جيدا ترميم ردع وأنت تقول في الأمم المتحدة أنا أنهيت ردي، وإن كانت الرسالة من إيران واضحة بالاستعداد لتوسيع الاشتباك. 

ولكن الأفضل، كان ترك النية مفتوحة مع التأشير على منطق الدفاع للرد الذي حصل، حتى تتوالى الماكينة الدولية أو تخرج رسالة واضحة من الإسرائيلية باستعادة الصيغة السابقة (الي حصل فيها تدهور لل deterring posture لإيران في الكم سنة الماضية وليس فقط بعد آخر عملية.

وحتى ندرك الصورة جيدا، يهمنا فهم أن هناك اختلاف جوهري بين التصور الأمريكي وتصور إسرائيل نيتنياهو حول كيفية إدارة حرب غزة، فضلا عن الهوس الإسرائيلي بنظرية الأمن المطلق وغلبة التفكير العملياتي والتكتيكي على الاستراتيجية.. كما سماه مايكل هاندل – المفكر الاستراتيجي الأمريكي الصهيوني الراحل
Tacticization of strategy
والذي يُقدم تسكين مواطن التهديد والسعي للحسم على اعتبار الآثار والمآلات الاستراتيجية.

الأمريكي منذ بداية الحرب، كان يرى ضرورة القيام بعملية جراحية نظيفة ما أمكن ضد حماس لنزع سيطرتها السياسية على القطاع، وتدمير أغلب بنيتها العسكرية، ووضع خطوط حمر ضد التوسع في استهداف المدنيين لحماية صورة إسرائيل دوليا، مع تقديم حكم غزة لإدارة مغايرة – غالبا تطوير للسلطة الفلسطينية – مع دعم إقليمي، وهذا قد يقتضي مشروع سياسي وحل للدولتين – مع مراعاة كل الهواجس الأمنية لإسرائيل، وبالعكس – مع آثار حرب غزة، سيضرب هذا الحاضنة الشعبية لفكرة المقاومة فلسطينيا، قريب مما حصل في السنين القليلة التي تلت أوسلو
Getting to the train strategy
أن تقدم للشعب بديلا آخر مريحا وآمنا عن دعم حركات المقاومة (التمرد) وبهذا تعزلها، وهذا يعود لكلاسيكيات مكافحة التمرد القديمة لديفيد جالولو وروبرت تومبسون، وحتى التحول العقائدي المهم أمريكيا في مدونة مكافحة التمرد للجيش والمارينز 2006.
ولهذا فالأمريكي دائما زاوج بين الدعم الاستراتيجي والعسكري والسياسي لإسرائيل لكل ثوابت أي سياسة أمريكية داخليا وخارجيا، ولكن مارس ضغوطات متنوعة، وقدم تطمينات.. وأهمها ما قام به أول الحرب من دفع حاملتي طائراته بالمنطقة وتطوير صيغة تفاهمية واضحة أن لاتنزلق الحرب لمفتوحة أو تتخطى الجبهة الشمالية حدا معينا.

هذا التصور بالمناسبة هو عند الإيراني، ويعتمد عليه الآن أن يتدخل الأمريكي ويكبح نيتنياهو عن رد الفعل، والاكتفاء بما حصل، ولكنهم كانوا ومكونات محورهم بالمنطقة ينشرون صورة مغايرة تماما وأن الأمريكي هو من يقود الحرب ويدير غرفة العمليات الإسرائيلية!! وهذا لأسباب يغطون بها عدم انخراطهم الكثيف وللتعبئة الإعلامية.

بوضوح، هناك احتمال معتبر أن يستجيب الإسرائيلي (مؤقتا) للضغط الأمريكي في عدم الرد الصريح في الداخل الإيراني، ولكن لو عاد فقط للضرب في جبهة سوريا ولبنان أو بالداخل الإيراني بشكل مستتر – وهذا حتما حاصل – ، فندرك حينها أن الرسالة الردعية منقوصة،
ولكنه إذا ضرب في الداخل الإيراني بشكل صريح وهذا قد يحصل لطبيعة نيتنياهو وحكومته الحالية و هاجس الأمن السابق ذكره وإن خفّف منه إعادة اعتبار ملحوظ في السينين الأخيرة للسؤال الاستراتيجي، فهذا يستلزم ردا أقسى بالمقابل وإلا انهار السبك الردعي للإيراني تماما.

والرسالة التي طرحتها قيادة الحرس (من الآن وصاعدا سنستهدف الكيان الصهيوني انطلاقا من إيران إذا هاجم ممتلكاتنا أو رعايانا أو مصالحنا أو شخصياتنا في مكان بالعالم وبهذا قد نكون خلقنا معادلة ردع جديدة)، شديدة الإشكال والثمنية!!
كما أسلفت، حتما سيتحرك الإسرائيلي في مساره السابق قبل التصعيد لاستعادة حريته للحركة، ورغبته في ترميم الردع (كما تحرك وتحرش بالمسجد الأقصي في أول يوم بعد هدنة حملة سيف القدس)،
فلو تحرك ثانية الإيراني برتبة أعلى في مصفوفة الردع – حينها يمكن استعادة المعادلة السابقة قبل انخرامها السنين الفائتة؛ هي ليست معادلة جديدة..
وهذا – كما أشرت في الاقتباس أول المقال، سيفتح باب للحرب المفتوحة، ولكن المؤقتة كذلك تبعا لاختبار الأطراف مساحات الإيذاء وإعادة الاعتبار لصيغة أكثر استقلالا وبتفاهمات أكثر مباشرة.

ولو لم يتحرك الإيراني أو تحرك بشكل هزيل- وهذا احتمال وارد لأنه أعلى السقف بأشواط دون بالضرورة التحسب كجاهزية وسيناريوهات للنتائج، فهو تداع أكبر للتوازن الردعي الحاصل.

تقدير موقف لحرب غزة – ومنطلقات الاستراتيجية الإسعافية
مقال: على هامش تسريبات المشروع الصاروخي السعودي – آثاره وحدود المنطق الاستراتيجي للصواريخ البالستية
حول استراتيجية الردع والديبلوماسية القسرية: خيارات مصر وسد النهضة

تقدير موقف لحرب غزة – ومنطلقات الاستراتيجية الإسعافية

28-10-2023

https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d8%b3%d9%8a%d9%86%d8%a7%d8%b1%d9%8a%d9%88%d9%87%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d8%a7%d9%81%d8%b9-%d9%81%d9%8a-%d8%ad%d8%b1%d8%a8

في عملية واسعة على غلاف غزة، قام الجناح العسكري لحماس مع مشاركة أكثر محدودية لفصائل أخرى باختراق النطاق الدفاعي الإسرائيلي، واقتحام 8 مواقع عسكرية و12 مواقع استيطانية – برا بالأساس. وهذه العملية تم التخطيط لها بإحكام على مستوى تجاوز التقنيات الدفاعية والالكترونية الإسرائيلية، وتمام الإخفاء، مما مثل مفاجأة استراتيجية ساهم فيها مفهوم استخباراتي خاطيء داخل إسرائيل هوّن كثيرا من قدرة وإرادة حماس للقيام بهذه الخطوة، بالرغم من شيوع المعرفة بهذا التكتيك الاختراقي – بالأخص في الجبهة الشمالية.

ومع انهيار الحاجز الدفاعي، وتعويق الاتصالات الإسرائيلية، استطاع الفلسطينيون (التقدير الشائع 1200 عنصر في عملية الاقتحام، و2000 عنصر إسناد) أن يصولوا ويجولوا في المواقع المستهدفة لفترة طويلة نسبيا، ووصول موجات من شبه المسلحين وشيوع الفوضى عند الحاجز وداخل المستوطنات. أدى هذا لتصفية شريحة عسكرية واسعة من فرقة غزة وقاعدة سديروت، وأسر ما لايقل عن 150-200 عسكري (يشمل رتب رفيعة) ومدني، وصاحب ذلك انفلات تمثل في تصفية مدنيين، وأسرهم، وتعامل غير رشيد مع أسرى وجثث مما أثر بشكل فادح على صورة الحركة الفلسطينية ووصمها دوليا كإرهاب داعشي (مع وجود طرح إعلامي مغرض، وتصديق لروايات إسرائيلية تم تزييفها) ولكن بالتأكيد لذلك أصل في السلوك الفلسطيني، وما لقوة الصورة في هذا النمط من الصراع من تأثير ممتد وعميق.

وبالرغم من هذا التميز التكتيكي الكاسح، إلا أن عواقبه استراتيجيا على القضية الفلسطينية، وكذلك تداعياته شديدة الخطورة على الوضع الإقليمي تتمثل في نقاط محددة:

1  ما حصل هدد بشكل كبير منظومة الأمن القومي الإسرائيلي، وفكرة الثقة بالدولة وقدرة جيشها لمواطنيها، مما دفع بشكل حاسم الإسرائيلي للبحث عن فاتورة دم بشرية، واستعادة هيبة الدولة بعمل عسكري لابد أن يشمل اجتياحا بريا يشمل تحييد البنى العسكرية لحماس (هيكل قيادي، وقوات نخبة، وصواريخ وشبكة أنفاق) – بعد تنقية غلاف غزة من الاختراق الفلسطيني.

2 انتهاء استراتيجية غزة التي تقبلها الإسرائيلي وحرص على إبقائها منذ حسم حماس 2007، والتي تشمل إبقاء غزة تحت حصار، ومعادلة ردع يتم تجديده دوريا بعمليات عسكرية دون الحرب، والأهم – سياسة التمايز، أي الفصل بين غزة من ناحية والضفة والقدس والداخل من ناحية أخرى.
بمعنى أوضح، أصبح الإسرائيلي معنيا، فوق استعادة هيبة الجيش والدولة، بتغيير هذه الاستراتيجية بأخرى لا تسمح بحكم حماس في غزة. وبالرغم من ضرر استراتيجية السماح لحماس بحكم غزة مع (التمايز) على القضية الفلسطينية ونزع العنوان السياسي عنها وتكريس إمارة غزة في معزل عن المساحات الأكثر حيوية في القضية وتكريس اعتمادية حمساوية على الإيراني، إلا أن نجاح الإسرائيلي فيما يريد تحقيقه ينسف أي مساحة للممانعة الفلسطينية ويعيد نكبة أخرى في القطاع وإطلاق يده في بقية المساحات.

3 لأن ماسبق يشتمل على تجاوز حساسيات مستقرة إسرائيلية فكان لابد من تشكيل حكومة طواريء (وحدة وطنية). هذه الحساسيات تشمل إمكانية التضحية بالأسرى داخل القطاع، وتصاعد الإدماء كخسائر عسكرية بشرية أثناء الاجتياح البري (هذا شبه مؤكد تبعا لهذا النمط من المعارك الحضرية، وتجارب سابقة في 2014 والعراق وأفغانستان، والتمترس والتحضير الدفاعي لحماس منذ سنين) وكذا للتهديد الأمني (صاروخي وعمليات) على الجبهة الداخلية. وفوق هذا الغرض السياسي الحزب للحكومة الحالية من توسيع مستوى المسئولية عما حصل وسيحصل.

4 تصاعد الحشد الدولي (النظامي) الموالي لإسرائيل وحقها في إطلاق يدها لعمليات انتقامية وأمنية. وبالأخص – استنفار الدعم الأمريكي والغربي (البريطاني تحديدا) بأشكاله السياسية والعسكرية والأخلاقية.. مما عقّد كثيرا أي توازن دولي كان بطبيعته منحازا فيما يتعلق بالقضية الفلسطينية والوزن الإقليمي والدولي لإسرائيل.

5 مع الفاتورة البشرية الهائلة من ضربات الجو الإسرائيلية، وقطع موارد الإعاشة في القطاع (ماء وكهرباء ومشافي..)، وموجات النزوح جنوبا التي دعى لها الإسرائيلي وفاقمها لتسهيل نشاطه البري في النصف الشمالي للقطاع وإثارة حالة من الفزع الشعبي، فإن المحصلة الإنسانية سيتأثر بها الطرف المصري بما لها من تداعيات سياسية (إقليمية وداخلية)، وإنسانية واقتصادية.
هذا التأثير لا يقتصر فقط على مشروع التوطين، مع وجود قابلية معتبرة لمنعه مصريا وفلسطينيا، ولكن على أفضل الأحوال – تحمل مصر مسئولية أساسية في إعاشة القطاع ، وربما إدارته، بالنظر لاهتمام الأمريكي بالأخص – وبدرجة ما الإسرائيلي – بوضع استراتيجية خروج وتعامل مستجد مع القطاع بعد انتهاء الحرب، ونفوره من أي صيغة احتلال وتحمل مسئولية أمنية ومعاشية فيه.

أولا) الإسرائيلي؛ يتحرك الإسرائيلي كما أسلفت لاستعادة هيبة الدولة داخليا وإقليما وارتباطها بفلسفة الردع التقليدي، ومنظومة الأمن والثقة الشعبية فيها، وهذا عبر استراتيجية عقابية لغزة، وحسم عسكري بري يزيل فيه مفاصل حماس العسكرية، وصولا لمعادلة جديدة في حكم غزة بعيدا عن تحمله لأي تكاليف، وبناء (نموذج أمني مستجد) سيقتضي إعادة انتشار على حدود القطاع الملاصقة لمستعمرات الغلاف غالبا (الشمال والشرق).
وفي ذات الوقت، سيكون مستعدا للتصعيد عبر مساحات أوسع (الجبهة الشمالية بالأخص لإحباط التهديد الهجومي واستعادة صيغة الردع، وإيران – ضربات عقابية وإجهاضية كذلك لاستعادة الردع ولكن ضمن مخروط أمريكي – إقليمي إذا شمل أطرافا خليجية).

ثانيا) الفلسطيني؛ في ظل غياب قيادة لمشروع وطني فلسطيني، ذات رؤية محددة، وقابلية استراتيجية بجوانبها المعرفية والمأسسية والتطبيقية، فنحكي نحكي عن أطراف فلسطينية ذات مصالح منفصلة ومفاهيم مختلفة لإدارة الصراع وارتباطات إقليمية غير متناسقة. وهكذا – فتغيب هنا القدرة على توظيف أي إنجاز عسكري ضمن سياق سياسي محدد، بل الفشل ابتداء في وضعه ضمن حساب استراتيجي يراعي التداعيات وما يحصل معها من تهديدات وفرص. وكذلك – ضعف القدرة لإدارة المرحلة المقبلة أثناء الاجتياح ومايليه من صيغة لحكم غزة وسائر مفردات القضية.

   أ. حماس – تعتريها تصورات فوضوية تبعا لمفاجأتها بحجم الإشكال الاستراتيجي الذي وقعت به، خصوصا قيادتها السياسية، وما يفرض عليها ذلك من منطق تهدئة، خصوصا مع وجود مظاهر إحباط لعدم فتح الجبهة الشمالية وتحرك إيران بشكل أوضح كغطاء رادع لإسرائيل. ولكن في ذات الوقت، بسبب التوجس من خسارة لشرعية سياسية وأخلاقية إذا تحركت في هذا، وما يفرضه الاجتياح من استنفار عسكري دفاعي، فتتحرك بنمط تصعيدي مسنودا بخطاب حشد سياسي، وشعبوي في الدول العربية.
منطق حماس كما كان يبدو هو عملية نوعية (يقولون أنها محدودة، مع أن ذلك يعاكس التصميم العملياتي الذي تبنوه) لزيادة شرعيتها السياسية والشعبية بالأخص في معرض الدفع لقيادة فلسطينية بديلة، وفي نفس الوقت، عملية تبادل أسرى ضخمة. ولكن الوضع الحالي – حتى مع النمط التصعيدي، فأقصى ما تطمح له هو استعادة الحال السابق، ومحاولة الاستفادة من صفقة الأسرى، ويبقى ما ترجوه هو عالة على نتيجة التدافع العسكري في العمليات البرية في غزة.

ب. الجهاد.. بوصلتها في الأخير متحكم فيها إيرانيا سواء بمنطق التصعيد أو التهدئة. ولكن لتداعي قدرتها القيادية والعسكرية بطبيعة الحال وتبعا للجولات السابقة، يبقى مستقبل وجودها عسكريا مربوطا بحماس بشكل تام، وكذا مطلبها السياسي. وإن كان هناك أفضلية أكثر لوضعها بالضفة وعلاقتها بالسلطة بالرغم أن هذا تعرض لشد وجذب العام الماضي.

ج. السلطة وفتح، بالرغم كذلك من افتراقات حاصلة بين الخطين، ولكن المنطلق الأساسي ذاتيا، هو محاولة استعادة شرعية شعبية تعرضت لانتكاسات حادة، وفي ذات الوقت التقدم لحيازة حالة سلطوية في غزة، وتطوير حالة تفاوضية مع الإسرائيلي (وهذا منطلق يبهت جدا مع نتاجات حرب غزة). وللتناقض الحاصل بين ما سبق، فإن حركتها وخطابها شديد الحساسية فيما يتعلق بالدفاع عن حركة ومعاناة شعب غزة ولكن عدم تجريم أو نقد حماس. ولكنها بالتأكيد ستكون أكثر من مستعدة للاستفادة من نكبة الأخيرة والدخول في إدارة غزة.

ثالثا) إيران وحزب الله؛ بالرغم من افتراض مبدئي عن علم وتوجيه مسبق للحملة على غلاف غزة، وأن ثمة مستهدف هام يرتبط بتعويق التطبيع الإسرائيلي السعودي مثلا، إلا أن طبيعة الحساب الإيراني لا تتناسق مع حجم القصور الاستراتيجي الشديد في تلك الحملة، مما يشي أن علمها ودورها كان محدودا. كمنطلق عام، هناك إدراك لصعوبة فتح الجبهة الشمالية (إشكال الشرعية الشعبية والإقليمية لحزب الله)، أو تطوير حرب إقليمية (مع الدخول العميق للأمريكي و هشاشة الوضع الداخلي الإيراني). ولكن في ذات الوقت، هناك مطلب لتطوير صيغة دنيا من الاشتراك (دور إشغالي للجبهة الشمالية) لمنع تهاوي أكبر في الشرعية الشعبية وعند حلفائها (هناك امتعاض واضح عند حماس من انحسار شديد لدور إيران والحزب). هذا لايمنع أن هناك تحسبا واستعدادا إذا تم فرض حالة الحرب ولكن نزوع مبكر لاستعادة صيغة ردع بعد اختبار متبادل لمحدودية القوة وتفاقم الإشكال الداخلي.

رابعا) الأمريكي (وعلى طرفه البريطاني ومساحات أوروبية متنوعة)؛ المسارعة لتقديم دعم استراتيجي وعسكري وسياسي كامل يمكن فهمه حسب طبيعة العلاقة الخاصة مع الإسرائيلي، والحسابات الداخلية، ومحافظة على صيغة ردعية. ولكن الأمريكي كذلك (بالأخص البنتاجون والخارجية) مشغولة بوضوح استراتيجية الخروج والتعامل الممتد مع غزة عند الإسرائيلي. ويظهر انفتاح الرئيس على صيغ فتح سياسي وتحويل في بنية القضية استغلالا لما حصل ويمكن أن يحصل – هذا قد يظهر في الضغظ لفكرة التوطين الآن، ولكنه كذلك سيكون منفتحا على مسار سياسي إذا فرضته موازين القوى (تعثر إسرائيلي مع خفوت تمظهر حماس كقيادة فلسطينية).
 وكمنحى استراتيجي في إدارة الأزمة يسعى الأمريكي لتطوير صيغة ردعية تقلل من إمكانية وحجم فتح جبهات أخرى على إسرائيل، مع استعداد لأدوار داعمة للمجهور الحربي بالأخص في الجبهة الشمالية، وكذلك التحسب لخيار الحرب الإقليمية مع الزهد فيه وقلة احتماليته. باختصار – يسعى الأمريكي بالأخص لنجاح المهمة الإسرائيلية في استعادة الهيبة والردع، وتطوير استراتيجية مرضية أمنيا لإدارة غزة، ومنفتحا على خيارات في تغيير بنية الصراع كمسب سياسي للرئيس وحكومته.

هناك أربع مفاتح أساسية تتشكل عليها سيناريوهات التدافع العسكري والاستراتيجي..
أ) طبيعة الاستعداد الإسرائيلي لهذا النمط من الحرب،
ب) حجم وصلابة الدفاع الفلسطيني وما قد يصاحبه قدرة عملياتية على استدامة لمخزون إكراهي
coercive
 فيما يتعلق بسلاح الصواريخ وعمليات نوعية،
ج) مفاعيل فاتورة الخسارة البشرية سواء على مستويات الضغط الشعبي والإقليمي على إسرائيل أو جبهتها الداخلية،
د) تدحرج العمليات لحرب إقليمية محدودة (الجبهة الشمالية) أو شاملة (تدخل الإيراني).

ويهمني الإشارة لجملة من الملاحظات على التوازن العسكري في حرب غزة المرتقبة، قبل عرض السيناريوهات:
أ. ما يفرق في المنتوج العسكري لهذا النمط مع الصراع، فضلا عن الاستراتيجي، ليس صافي المفارقة في القدرة القتالية (كمية وكيفية)، ولكن حساسية الجيش لمعدلات الإدماء البشري والسياسي والاقتصادي والقيمي. والتطور الحاصل، أن الجيش الإسرائيلي وقيادته السياسية تبعا لمخروط الأزمة وآثارها ومنطق استراتيجيته أصبحت حساسيته أقل، وقدرة احتماله أعلى كثيرا من السابق.
ب. حرب المدن والحواضر هي لعنة بالتأكيد على أي جيش نظامي خصوصا أمام عدو قوى ومتجهز وفي بيئته ويتحرك ضمن عوائق بشرية ومدنية، وكذلك على شبكة من الأنفاق المعقدة مثل حماس.
ج. هناك خط من الاضطراب والغموض إسرائيلي كسياسة عسكرية، وتوضيح المهام والوظائف التي يؤهل لها الجيش وما يستتبعها من مفردات عقائدية ومنظومات تسليح وهيكلية وتركيب داخلي – هل كان التركيز على العمليات بين الحروب؟ النسق النظامي التقليدي وأدواره الدفاعية والهجومية؟ استعادة مفهوم الحسم في الحروب الصغيرة (ما طرحه آفيف كوخافي في مفهوم الانتصار)؟ وأربك كذلك دروسا غير متسقة سواء لحرب 2006 أو ما تبعها من جولات.  
د. هناك محاولات مستمرة منذ سنين وتراكيب مستجدة سواء في القوات متعددة الطبقات أو الوحدات الشبحية (وحدات نوعية صغيرة ولكن لها قدرة تدميرية عالية بالتشبيك القتالي والأسلحة المشتركة والاستفادة من التفوق المعلوماتي) للتقدم في حرب المدن. ولكن لا توجد هناك تأكيدات على قيمتها الفعلية.
 ما يمكننا أن نقوله بدرجة أوثق – أن الإسرائيلي سيلجأ لنمط شبه تقليدي استفادة من ضعف الحساسيات للفقد البشري وتحت ضغط الحاجة ضمن سياسة الأرض المحروقة، ولكن سيُفعّل مع ذلك نمطين هناك دلائل قوية على فاعليتهما: التفجير الفراغي للتوغل في المساحة الحضرية داخل العمران، والاستراتيجية العملياتية المتراكبة لتدمير الأنفاق (المسئول عنها العمليات الخاصة لسلاح المهندسين 
Yahalom
، والمشاركة النوعية لوحدة
Samur،
والاشتباك الأوسع للقوات الخاصة
Sayerat Matkal ).
وكتصميم عملياتي؛ هناك احتمالات مختلفة، وهناك غموض حول التصميم الملائم والتي يخدم استراتيجية بعينها.. في كل الأحوال سيبني نسقا دفاعيا على طرف غزة – وسيكون مهما لمرحلة مابعد الحرب
Bridgehead
يتحرك منه إما على موجات تعاقبية توفية لممارسة ضغط سياسي متوالي على قيادة حماس ولغرض استكشافي وقاضم للبنية الدفاعية وبالأخص الأنفاق، أو في لحظة محددة التحول لموجة تقدم تدريجي لضرب الأنفاق و(تطهير البؤر الحضرية) كأسلحة مشتركة وبمجموعات صغيرة قادرة على التراكب بشكل لحظي تبعا للمتطلب التكتيكي، وبالتأكيد يرافقها عمليات خاصة سواء استهداف للقيادات أو تليين لدفاعات أو مصادر تهديد صاروخي أو تحرير رهائن خارج مساحة التوغل العسكري.
ه. كذلك هناك افتراض قوي على صلابة الدفاع الحمساوي تبعا لتطوره في السنين الفائتة واستعداده لهذا النمط، وتضافر البعد المعنوي لمعطيات الأزمة الحالية. ولكن ما يتحكم في ذلك – الإشكال الاستراتيجي الذي أضعف حساسية الإسرائيلي تجاه منسوب الإدماء (وهذا أهم من التوازن القتالي) ويعطيه عامل (الوقت) واستنفار سياسي وشعبي داخلي، ولم يكن هذا حاصلا في جولات سابقة.


وعلى هذا تكون السيناريوهات كما يلي:

أولا) مسار الحرب المحدودة:
          1 تقدم إسرائيلي في إنجاز مهمته المقصودة في تفكيك بنى المقاومة وشبكة الصواريخ والأنفاق، وهذا غالبا سيأخذ أسابيعا. وهو السيناريو الأرجح في هذا المسار ما لم يحدث اختراق في المفصلين الآخريين: تحوير بنية الأزمة لتفرض ضغطا سياسيا إقليمي ودولي وداخلي، و فتح جبهات أخرى.

2 تقدم إسرائيلي تدريجي دون الوصول لمستوى الإنجاز الشامل، يصاحبه انتكاسة في التصميم السياسي عند قيادة حماس مما يجعل الوضع كفيلا لصيغة تهجير حمساوي واستدعاء صيغة بديلة لحكم غزة.. وهذا يبقى ضعيفا لطبيعة الشمول في الهدف الإسرائيلي، وكذلك لطبيعة الجسد العسكري لحماس ودينامية العلاقة مع الرأس السياسي، وأن قيادة حماس السياسية ذاتها بالأساس بالخارج حتى لو مورست عليها ضغوط ما ولكنه يبقى انتحارا سياسيا لها(مفارقة تماما لحالة أبو عمار 82)

      3  تعثر إسرائيلي عسكري.. تبعا لاهتراء مفاجيء في قدرته القتالية، بالأخص إذا صاحبه تفاقم للإشكال في البيئة الداخلية.. ويبقى محدودا بالنظر للمتغيرات سالفة الذكر ولقابليته للنزوع الفوري للكسح النظامي.

    4 تعثر إسرائيلي استراتيجي؛ تفاقم الضغط الدولي والإقليمي تبعا لتطورات في ملف القيادة الفلسطينية وتحسين إدارتها السياسية والاستراتيجية للحرب وملف إدارة غزة، وتطور الوضع العربي النظامي، وهذا ممكن بشرط الالتجاء للاستراتيجية الإسعافية الآتي ذكرها.

ثانيا) مسار الحرب الإقليمية المحدودة (الجبهة الشمالية – حزب الله) يبقى مسارا أقل احتمالا لمعوقات الحساب الاستراتيجي والمتطلبات لفتح الجبهة. ولكن قد يفتحها حزب الله تبعا لخطأ في الحساب. وستكون أكثر فداحة على الإسرائيلي من 2006 بامتلاك مخزون من الصواريخ الدقيقة وعمليات الاختراق (هي بالأساس تطوير من حزب الله وإن فعّلتها حماس أولا.. وعلى هذا تفريغ المدن الملاصقة للشريط الحدودي إسرائيليا). مدى قدرة الإسرائيلي على إدارة حربين من هذا النوع، ليس فقط عسكريا ولكن كبيئة داخلية، صعب الحكم عليه، ولكن بظهور بادرة للتضعضع سيتدخل الأمريكي جوا، وستكون الاستفادة من المشكل الاستراتيجي الذي وضع حزب الله نفسه منذ 2008 (مشكل الشرعية الشعبية لبنانيا وإقليميا، وفشل الدولة الوظيفي) لتحصيل منتوج استراتيجي ضاغط على الحزب.

ثالثا) مسار الحرب الإقليمية المفتوحة.. على أوجه مختلفة بانخراط الإيراني تبعا لمخروط تصاعدي للأزمة (تبادل صاروخي ودفاع-صاروخي وسيصاحبه رد جوي أمريكي – إسرائيلي، انفتاح جبهة الخليج كعمليات تخريب بحري واستهداف تواجد أمريكي بالأخص إذا تحرك مكونات عسكرية أمريكية فيه، أو ساهمت دول خليجية في إطار الدفاع الصاروخي، وهذا سيدفع لتبعئة عسكرية أمريكية فيه).. لا أرى ممكنا تطور الحرب لنمط شامل يعتمد النسق البري ولكن تهدئة وإعادة صيغة ردع تبادلي ومع تدخل أطراف دولية للتوسط.

الخلاصة – يبقى الخيار الأكثر حضورا هو التقدم العسكري الإسرائيلي، ولكن تبقى هناك مساحة للتدخل الاستراتيجي في مساحتي تطوير قيادة فلسطينية برؤية سياسية واستراتيجية مستجدة لإدارة دولاب الحرب وتداعياتها، وإصلاح لخلل الصورة الدولية لحماس، وتطور ضغط نظامي عربي.

التصور الاستراتيجي الموجز يرتكز على جملة من المستهدفات، ثم منطلقات استراتيجية إسعافية، ثم حديث عن منظور الصراع وتفاعلاته بشكل أكثر امتدادا.

المنطق المطروح يسعى لتشكيل – وترميم – أدوات فعل استراتيجي في معادلة الصراع بحيث تضغط على إسرائيل – بغض النظر عن المنتوج الخام للتدافع العسكري – بحيث تتحقق هذه الأهداف:

أ. وقف العدوان، والرجوع للانتشار العسكري ما قبل 7 أكتوبر.

ب. أن تنتهي الجولة بموقف أفضلي لصالح الوضع الفلسطيني والعربي سياسيا وعسكريا.. في جوانب: الاحتفاظ بحضورية لبنية المقاومة في غزة وصيغة لإدارتها بقدر الإمكان تحافظ على ذلك، واختراق في ملف الأسرى، تهيئة لمنطلقات يمكن البناء عليها في المرحلة التالية من تطوير مساحات الفعل المقاوم في الضفة، تعزيز وتجريب مبدأ الوحدة الوطنية الفلسطينية وهدم صيغة التمايز والانفصال السابق، وتطوير الحراك الشعبي في الداخل والضفة والقدس والدول العربية، وتطوير الدور العربي على مستوى الأنظمة في الاقتراب من مستوى الممانعة ودعم المشروع الفلسطيني،

ج. حرمان الإسرائيلي بقدر ما يمكن من تحقيق أهدافه السياسية والتي هي جوهرية لاستعادة منظومة أمنه القومي والثقة الشعبية في الدولة ونظام الحكم، هذا سيعزز تلك المكتسبات التي تحققت في 7 أكتوبر، وتبقى مفصلية لمرحلة تالية من الصراع.

أولا) الضغط لتطوير رأس قيادي فلسطيني مصغر، بقيادة طرف مقبول من السلطة/فتح وعضوية حماس والجبهتين والجهاد لإدارة الحرب وملفات إدارة غزة بالتنسيق مع المصري، والمساحة العربية بافتراض انتظامها.. هذا الرأس السياسي هو حيوي لتطوير ركيزة عليها يتراكم الضغط العربي والشعبي، فضلا عن إدارته لعملية التفاوض أثناء الحرب في ملفات الرهائن، وفي نهايتها تبعا لتعاضد عناصر الضغط على الإسرائيلي.. وفوق هذا – هو تهيئة لتعامل أكثر أفضلية مع صيغة إدارة غزة..

ثانيا) متطلبات عاجلة وتصحيحية للمسار الفائت والحالي لمعالجة حجم الخسارة الفادحة دوليا التي تسببت فيها أحداث 7 أكتوبر..
هذا يشمل ملفات مثل تصحيح الصورة التي تكونت (مراجعة، والإعلان عن تبرؤ ومحاسبة داخلية، والإفراج عن الأسرى المدنيين، بالتساوق مع تصعيد فرضية مذابح الاحتلال وإرهاب دولته).. هذا تأثيره هائل على السياسة الدولية، والصورة التي تكرست على حماس الآن، ويمثل عنصر ضاغط في المخروط الزمني على إسرائيل لتتراجع (مبكرا) وتصبح أكثر حساسية تجاه عنصر الإدماء البشري.
مثلا قرار الأمم المتحدة الذي تحمس له الفلسطيني بقوة ورفضه الإسرائيلي، أدان ممارسات لا تلتزم بقوانين الحرب من كل الأطراف وشدد تحديدا على إطلاق سراح المدنيين، فالتزام حماس بهذا له دينامية شديدة التحسين للوضع الفلسطيني وضاغط على الخصم بالأخص مع اتساع حجم مجازره (وتوقع اتساعها مع الاجتياح)، وهناك من الرهائن العسكريين كفاية.

ثالثا) تصليب الموقف الدفاعي في شمال غزة (اعتماد مبدأ الإغراء الدفاعي لصندق قتل وتطويق للمجموعات بعد تراكبها، وعدم الدفاع عن أرض، وموجات تصعيد مفاجئة بعد تهدئات عرضية..)، مع الدفع فعليا لتطوير مساحات آمنة في جنوب القطاع للمدنيين.. وإقرار استراتيجية دفاعية مقبولة من هذا الجسد القيادي لإضفاء شرعية على مساحات الصواريخ والعمليات النوعية المصاحبة للنشاط الدفاعي.

رابعا) استنفار عربي نظامي لبناء موقف واحد -سواء بفعل قراءة ذاتية للتداعيات الخطيرة لخروج الإسرائيلي منتصرا بما يريج وخصوصا على المصري – أو تصاعد الضغط الشعبي بالدول العربي، وجهة إشرافية تتواصل في ملفات إدارة الأزمة بمراحلها الحرجة والتالية ، قبل الانفتاح على الساحة الدولية! وليس بالضرورة أن يكون هناك اتفاق تفصيلي على مفردات العمل العربي أو ما نقصده من الملف الفلسطيني، ولكن المستهدفات محددة:
أ. تخفيف المحنة المدنية لشعب غزة،
ب. تقليل مكاسب الإسرائيلي وقدرته على احتلال غزة ثم تخليه تماما عن مسئوليته كقوة احتلال،
ج.تغيير الصورة والمنطق الذي يحكم الأمريكي والقوى الغربية في دعمها الكاسح لإسرائيل،
د. تقليل التدخل الدولي والإقليمي في الشأن الفلسطيني وبنية الصراع، والتعامل مع تداعيات ذلك على الأمن العربي المشترك – وبالأخص الخليجي
وهذا مهم أن يشمل قبل الضغط المعنوي فيما يمثله التكتل والاستنفار العربي ذاته، ممارسة أوراق قوة حاضرة سواء فيما يتعلق بإدارة الأزمة (كما فعل المصري بشكل يسير بخصوص المعبر) أو تلك القوة الرئيسة تاريخيا اقتصاديا وجيوسياسيا، وحتى – بالأخص المصري في مقابل مشروع التوطين في لحظات معينة – بالتهديد بإعادة النظر في معاهدة السلام وطرح تعديلها شعبيا.

خامسا)، مع تطور آثار استراتيجية محابية في المساحة الدفاعية، واستهداف الجبهة الداخلية الإسرائيلية، وتطور موقف عربي موحد وضاغط، إدارة مساحة التفاوض والتهدئة، بحيث تشمل الانسحاب الإسرائيلي، وإدارة القطاع بشكل فلسطيني مع دعم عربي، والاستعداد لمحطات تفاوضية أعلى في صفقة تبادل الأسرى، وبقية الملفات على حسب مستوى الإنجاز في بناء فائض القوة الاستراتيجي ذاك بمعناه الفلسطيني والعربي.

من بديهات النظر الاستراتيجي هو ضعف مساحة التنبؤ كما أسلفنا سابقنا، وأن القيمة الحقيقية في التعرف على منطق إدارة و محدودية وطرق توظيف القوة العسكرية وغيرها، وطرح الأسئلة المناسبة، وبناء القابلية الاستراتيجية لإدارة أدوات الصراع وتحويرها – معرفيا ومؤسسيا وتطبيقيا وليس التعلق بوصفات سحرية ثابتة. ولهذا – فيكون من الصعب أن نتخيل دوائر التفاعل في المستقبل الممتد، ونحن حتى الآن في مفترق التدافع العسكري والسياسي الحالي بكل احتمالاته..

ولكن يهمني إشارة عاجلة على بعض النقاط في هذه المرحلة، وربما نعود إليها تاليا:

1 انتهاء الجولة بحرمان الإسرائيلي من تحقيق أهدافه وادعاء الانتصار العسكري والسياسي هو مكسب هائل للقضية الفلسطينية، ليس فقط لأن مفهوم الانتصار للحركة المقاومة في ذلك النمط من الحروب يعتمد على حرمان القوة الأكبر من الانتصار (إفساد فرضية الاحتلال وديمومته، وبقاء مساحة المقاومة مستقبلا)، ولكن لأن الإنجازات التي حصلت في 7 أكتوبر – بغض النظر عما صاحبها من إشكالات استراتيجية جسيمة – يمكن البناء عليها في تحوير بنية الصراع مستقبلا، وتهاوي الأساس المعنوي والاستراتيجي لدولة الاحتلال. وأنه مهما يكن عندنا خلل استراتيجي، فقد يعتري الخصم خلل أشد، والعبرة في النجاح الاستراتيجي (كما كان يقول أستاذي الراحل) في أقل الطرفين خطأ وليس أكثرها تميزا !

2 لكن هذا في ذات الوقت، ليس بديلا عن تأسيس مشروع فلسطيني حقيقي، بقيادة سياسية ذات شرعية وطنية، ورؤية سياسية مرحلية مناسبة ترتكز على قضم مساحات سيطرة وحرية حركية سياسية، ومخروط استراتيجي يجمع بين أدوات القوة العسكرية وغير العسكرية ويعيد اعتبار مراكز الثقل الاستراتيجي والعملياتي (إنهاء ذاتي لمركزية غزة – ولكن أن تبقى بؤرة داعمة و أمان طرفي Sanctury )

3 التبادلية الساخرة لحالات الانتصار والهزيمة مقرة تاريخيا وفي الأدبيات الاستراتيجية.. بمعنى – قد يقود الانتصار لتكريس فرضيات استراتيجية وعسكرية خاطئة، ومفاهيم استخباراتية وسياسية يغزوها التعالي وتقزيم الخصم (إسرائيل 67) تقوده لانتكاسة تالية.. وقد تحصل هزيمة تقدم فرصا حقيقية للمهزوم (بشرط وجود الرغبة والقدرة عنده لتلمسها!) لإحداث تحوير بنيوي دفاعي وسياسي ومأسسي ومستفيدا كذلك من مرض انتصار الخصم ليعزز من قدرته في إدارة الصراع (مصر 67، وإسرائيل 73)

4 كما هو مقرر، بكل ما تقدمه التجربة المقاومة الفلسطينية من بطولات وانتكاسات، تميز وقصور، تاريخيا وحاليا، فإنها كحدود قوة استراتيجية ليس من قدرتها أو المطلوب منها التحرير الشامل، بل الدور النوعي فيه. بل الأصل – أن المشكل ليس صراع على أرض فلسطين وبسببها حصرا، فضلا عن ربطه بمسجد ومسرى مع قيمته الدينية (بل حتى التصور الديني نفسه يقول بذلك)، ولكنه مشكل على سيادة الأمة ووحدتها وتحررها.. فبطبيعة الحال، بالإضافة للمنظور الاستراتيجي فإنها وظيفة الأمة بعمومها .. وهذا يجعل هناك حراجة لملفات التغيير السياسي والاجتماعي بالأساس.

5 كما مرت بنا التجارب المريرة في الربيع العربي (مصر وتونس، سوريا واليمن والبحرين، العراق والجزائر والمغرب والسودان ولبنان ووو)، وصولا حتى لجل مشكلات بلادنا، وليس خليا عنها الحركات الفلسطينية، فإن هناك مشكل ضخم في ضمور النخب السياسية في بلادنا/ ضمورها القيادي والاستراتيجي ومن حيث الرشادة المؤسسية والأخلاقية،
وهناك مشكل في غياب النزعة العلمية والمثالية الأخلاقية وارتقاء الوعي السياسي والديني (الرشيد) في مجموع شعوبنا..
ولهذا – فمهمن يكن نتاج طوفان الأقصى وحرب غزة، فهي بالتأكيد مثلت زلزالا حقيقيا في بلادنا على مستوى الشعور والتناول، وحتى إذا أضحى المنتوج سلبيا – لا قدر الله – فنتأمل أن يكون هذا محثا لانتباهة عامة تعيد قطاعات الأمة فيها التعرف على مصادر الوعي الضروري لإدارة هذا الصراع، الوعي الاستراتيجي والديني والإنساني، وإعادة فرز الأولويات في جوانب التغيير السياسي والاجتماعي، ومواجهة الفرضيات الفاسدة وتجفيف الوعي والحس الأخلاقي الذي ابتلتنا به كل من الحركات المؤدلجة و كذلك غياهب التغييب تحت أسوار الاستبداد التي عاشت فيها شعوبنا أدهرا..

مسارات التدافع العسكري، واستدعاء الاستراتيجية في حرب غزة

مقاربة أولية لتقويم طوفان الأقصى استراتيجيا، ونوستالجيا أكتوبرية

حملة غزة مايو 2023 والمنطق الاستراتيجي: حدود التصميم، والتوظيف، والتراتب العشوائي

ندوة عن (التقييم الاستراتيجي لحملة سيف القدس)

مسارات التدافع العسكري، واستدعاء الاستراتيجية في حرب غزة

https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%85%d8%b3%d8%a7%d8%b1%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d8%aa%d8%af%d8%a7%d9%81%d8%b9-%d8%a7%d9%84%d8%b9%d8%b3%d9%83%d8%b1%d9%8a%d8%8c-%d9%88%d8%a7


يلزمني إيضاحان في البدء

الأول) في هذا الظرف المشحون وجدانيا – بالمعنى العام والخاص – كم يثقل على المرء الحديث بمنطق ولغة (باردة) حول مسارات التدافع العسكري، وإعادة الاعتبار للأسئلة الاستراتيجية ومآلات تفعيلها وقد غابت عن جل الأطراف. ولكنه واجب حتمي؛ فعكسه خيانة لأمانة العلم والخبرة.
وإن الأمة التي تخوض صراعا، لن تفتقر أصحاب الهمم والعزائم وحاشدي العواطف وتمجيد الشهادة، ولكن كما يقرر تاريخنا القديم والحديث، أشد من تحتاجه في مفاصلها الهامة فوق هذا من يتناول هذه الأمور ويقضي (نعم كأنه قضاء، ولا يقضي القاضي وهو غضبان ومشحون بعاطفته) بحسم ودقة حول الموازين ومنتوج تدافعتها وجدواها، ويفصل كما الجراح بمقايسة منضبطة وحادة مسارات تفعيل وإدارة القوة مفصولة عن أي اعتبار غير قطعيات الشرع (إذا اعتبرنا خصوصيتنا).
والعقل الاستراتيجي لأي أمة أو دولة أو حركة، ليس محصورا بقائد أو مفكر أو أكاديمي، ولكنه نخبة تنداح فيها هذه المعارف والسمت والتجريب والعلم والفن، وبالتأكيد، ليس مطلوبا من كل أفرادها أن يقترفوا الاستراتيجية أو يستوعبوا مفرداتها، ولكن بالتأكيد تقدير قيمتها في الميزان والتقويم، ولعل في هذا نسبة لأحد أرفع علوم أصول الفقه تراثيا (المقاصد). ونتاج النظر الاستراتيجي مهما تعمق، فهو لا يقدر على التنبؤ بثقة عن المستقبل وهو قائم على اعتبارات بشرية يغمض قياسها وتدافعات مادية ومعنوية مفاجآت بيئية غير محسوبة، ولكن وظيفته تنظيم الفكر وموضعة القوة وتوظيفها السليم، وطرح الأسئلة المطلوبة وفتح مسارات البحث عن إجابتها برشد أكثر منه تقديم إجابات جاهزة.

الثاني) لا أخفي شعوري بمرارة شديدة حين عرفت أنباء الهجوم المُقاوِم في 7 أكتوبر، لأنه مباشرة أتت لي الأسئلة الاستراتيجية البدهية: ما الأهداف السياسية؟ كيف يمكن توظيف هذا الإنجاز العسكري الباهر في ظل غياب متطلباته الأساسية في مشروع فلسطيني وطني وقيادة برؤية سياسية واستراتيجية تُناوِر به وتضعه في تصميم محدد؟ بل وفي ظل الخلل البنوي في الأهلية الاستراتيجية عند الحركة الوطنية الفلسطينية في مساحاتها المعرفية والمؤسسية والتطبيقية – المؤسسية مثلا .. ضعف سيطرة القيادة السياسية وانتصابها كموجه استراتيجي لجسدها العسكري ونشاطه!
 فضلا عن خصوصيا الحدث في تجاوز واسع في مساحة الشرعية الأخلاقية لحركة التحرر في مسألة استهداف المدنيين وكيف يمكن شيطنتها دوليا وإقليميا وكارثية ذلك تبعا لقوة الصورة في هذا النمط من الحروب (كما هو على خصمك، يسري عليك)،
وأكثر إقلاقا عندي – الأثر الاستراتيجي (غير المقصود) وهو تهديد مصالح حيوية ووجودية عند الخصم تدفعه لتسكين كل الحساسيات في الحساب الاستراتيجي و عنصر الإدماء (وهذا ما يجعل لحركة المقاومة أفضلية استراتيجية وليس كسحها العملياتي!!)، وبهذا حتمية الدخول البري واحتلال غزة، وإلغاء المعادلة التي تقبلها هو نفسه من 2007 لأنها تحقق مقصوده الأمن قومي (بقاء حماس تدير غزة ضمن موازنة ردع وابتزاز يتم تجديدها دوريا، مع بقاء سياسة التمايز في فصلها عن الضفة والقدس).
 نعم، منذ 2007 وغيري – وحتى أنا – مؤمن بضرورة تغيير هذه المعادلة والتحرر من أسر السلطة لصالح مشروع مقاوم صرف يلزمه التماهي مع مشروع سياسي مؤقت فقط تحت بوصلة التحرر دون فقد المناورة الاستراتيجية، ولكن أن يحدث هذا بتهيئة وتدرج وبناء متطلبات استراتيجية في القيادة الوطنية والرؤية، وليس دفعا من المحتل على قارعة تخريب غزة.
ولوجود هذه المرارة، مع اتساع حالة الانتشاء المفرط في شعوبنا ، وهذا متفهم إنسانيا وقيميا، حاولت أن أتوسع كثيرا في مقالي السابق في المشابهة التاريخية لحرب أكتوبر والمساحة النظرية، لأخفف وقع ما أطرح.
أما ونحن الآن على مشارف الاجتياح البري لغزة، وظهور كثير من العوار السابق للعيان، فسأحكي بوضوح عما أراه من تقديرات تتمايز حجيتها، ولكن كلها تقع في دائرة النظر وقابلية الخطأ. ونسأله سبحانه أن ينصر مقاومينا ويرأف بشعبنا الممتحن في غزة بما قد لا تلحظه أبعاد النظر ومنطق التسبيب.

أولا) الهجوم الكاسح في 7 أكتوبر، ليس فقط مثّل ضربة لمنظومة الأمن القومي وفرضياتها ولكنه هدد فكرة الدولة والثقة الشعبية فيها وجيشها وقيادتها السياسية، ما لم يحصل ربما غير في حرب أكتوبر 73. وعلى هذا حصل أمران لا مناص عنهما:
أ. رغبة الإسرائيلي في توفية فاتورة انتقامية، بعد إزالة مكامن العدوان في الغلاف، وتتمثل في فاتورة ضحايا بشرية فلسطينية، والأهم تكسيح عسكري لحماس في بناها الحيوية وإمكاناتها (القيادة، قوات النخبة، الصواريخ، الأنفاق).

ب. إدراك فشل الاستراتيجية التي تبلورت منذ 2007، وهذا – بالإضافة للنقطة السابقة – يحتم الاجتياح البري، وإزالة حكم حماس عن غزة لصالح صيغة مختلفة (تكييفاتها عرضة للمنتوج العسكري، ومفاعيل فلسطينية وإقليمية كما سيأتي).

ثانيا) هناك إشكالان في المنظور الاستراتيجي الإسرائيلي، الأول خاص بالفرضيات العملياتية (إمكانية تحقيقها لما تتطلبه الاستراتيجية كمنتوج عسكري)، والآخر الفرضية الاستراتيجية (المنتوج النهائي نفسه ومدى صيانته وتوفيته لمقررات الأمن القومي.

  • عملياتيا – من السخف كما يقول كلاوزفيتس أن تكون هناك قراءة عسكرية بحالها منفصلة عن سياقها الاستراتيجي الخاص بالتوظيف والحساسية.. مثلا – الجيش النظامي في مواجهات مباشرة، وحتى في نمط غير نظامي ولكن طوّر حاله عقائديا وتركيبيا لمواجهته يسود – مهما تطورت القدرة العسكرية للحركة غير النظامية (إلا في مراحلها الأخيرة وغالبا أمام حكومة محلية أو قوة احتلال متراجعة، بحيث تتحول الحركة لحرب نظامية
    War of Position
     كما أشار ماو قديما).
    تمثيلا على ذلك، التوازن العسكري على مستوى القدرة القتالية للفرد بين حزب الله وإسرائيل (كما أشار أنتوني كوردسمان في دراسته) كانت حوال 5:1 في التسعينات (يعني من كل قتيل إسرائيلي – خمسة من الحزب)، ولكنها ارتفعت ل 2-1:1 في حرب تموز 2006.
    طبعا التوازن العسكري التكتيكي فضلا عن العملياتي أوسع كمعيار قياس من هذا كما نعلم (اعتبارات العقائد والفن التكتيكي والعملياتي والقيادة والانسجام الهيكلي، والتسليح وو)، ولكن هذا يساعدنا في ما نريد طرحه.
    طيب – هل هذا التوازن العملياتي هو ما سيحدد المنتوج العسكري ثم قيمته استراتيجيا ؟
    لا – لأنه دوما تكون هناك حساسية مغايرة للإدماء البشري والاقتصادي والسياسي من قبل جيش الاحتلال، مما يعجل في التسليم وإجهاض النشاط العسكري مبكرا قبل الكسح العملياتي، بما له من تقاصر عن تحقيق الأثر الاستراتيجي في الإرادة السياسية للعدو.
    وأذكر حوارا لي في ورشة عمل مع أحد العسكريين الإنجليز ذوي علاقة وثيقة بإسرائيل في 2009 حين ذكر أن عامل الوقت هو فقط ما منع تطوير الهجوم البري الشامل في جنوب لبنان ومنع الحسم العسكري. حينها ذكرت– بالضبط! لكن الوقت – كما كان يعده أستاذي كولن جراي-  أهم بيئات الاستراتيجية  
    Dimensions
    وهو في حالتنا عالة على السياق الاستراتيجي في تباين الحساسية والحساب  
    strategic interdiction
    ومتواليات الضغط الدولي والشعبي، وهذا مثل بالتالي وزنا استراتيجيا للإنجاز العسكري للحزب وليس التدافع العسكري ذاته ومنتوجه المبتور.

ثالثا) في ذات السياق العملياتي .. من ناحية، ما يصب في مصلحة إسرائيل الآن، هو تحييد جملة من هذه الحساسيات الأفضلية للمقاومة، بسبب ما قدمته المقاومة ذاتها في 7 أكتوبر من رفع الحراجة الوطنية لدرجة تتراجع فيها هذه الحساسيات سياسيا وشعبيا.
ولهذا فقرار الاجتياح البري استبعده الكثيرون بسبب وجود الأسرى الإسرائيليين خصوصا المدنيين منهم، ولكن هذا كما أوضحت في المقال السابق قياس مغلوط على سياق استراتيجي حكم الفترة السابقة، وقد تغير. ولهذا – كان الحرص على تشكيل حكومة الطواريء لإعطاء شرعية وتشاركية في تحمل الثمن السياسي تبعا لهذه الخطوة، وأيضا الخسائر العسكرية التي ستحصل مع الاجتياح البري. وهذا بالتأكيد يجعلنا أمام جيش مختلف – كمعايير توازن عسكري صرف. وهذه العلاقة الاضطرادية بين مستوى العمليات والاستراتيجية ، فكلاهما يؤثر في الآخر حرفيا.

رابعا) ولكن من ناحية أخرى، يبقى سؤال القدرة التكتيكية والعملياتية ذاتها لتحقيق حسم عملياتي في غزة (الأنفاق، القادة، النخبة، الصواريخ، التمدد الاستحواذي…). وهذا عمق الإشكال الإسرائيلي كنظرة عسكرية بحتة، وكانت تشغله طيلة العقدين السابقين: نوع القدرة القتالية التي يريد أن يقيم عليها جيشه (عقائد وتركيب وقيادة وتسليح) ومدى كفاءتها عند الاختبار..
وبالرغم من وجود جهد ضخم من الرؤى والخطط والمناورات، فهناك عدم حسم وسببه استراتيجي بالمناسبة.
خبرة حرب تموز أفادت بضعف القدرة التكتيكية للجيش، والعملياتية (ضعف القدرة على الحركة على مستوى الألوية) وربما تم ربط ذلك بوجود مفهوم عملياتي
Operational Concept
 يغلب عليه الغموض، والمفهوم الأمريكي
Effects Based Operations
الذي يلقي عبء المنتوج الاستراتيجي وليس فقط العملياتي على حسابات كمية لضربات الجو (وهذا تحيز رئيس الأركان الإسرائيلي حينها دان حالوتس، وتبنيه لعقيدة الضاحية – ضرب القاعدة الشعبية لبناء ضغط على الخصم وتحوير سلوكه).
ولهذا – حصل توسع أولي في الشق النظامي البري وترسيخ الحسم التكتيكي كما كان المفهوم العملياتي الذي ارتكزت عليه خطة تينف في عهد شاؤول موفاز 2008. ومع تنامي الخطر غير النظامي في غزة، وبعدها الأزمة السورية وتطور في مكونات معادية فيها، ظهر مفهوم العمليات بين الحروب
(CBW)  Campaigns Between Wars
، وفيه يقصد الجيش ضمن استراتيجية  استهداف متكرر ومحسوب القضم من البناء العسكري المعادي، وضربات لتمتين حاجز الردع التقليدي ورسم خطوط حمر للعدو، مما يحجّم الحاجة لاشتعال حرب شاملة على الجبهات. ولو تم وضع هذا المفهوم العملياتي في المنظور الاستراتيجي الخاص بترك غزة لحماس وسياسة التمايز، فهذا منطقي. وهذا ظهر في مفاهيم عمليات طرحها رئيس الأركن بيني جانتز، ثم غادي إيزينكوت في وثيقته حول (توظيف القوة
Force Employment
) وخطة جدعون 2015، ثم حتى تطويرها في وثيقة 2018 والتي حاولت التجميع بين أدوار الحسم العسكري والوقاية والعمليات بين الحروب.
لكن بمجيء آفيف كوخافي حدث تحوّل في النظرة الحاكمة – دون بالضرورة أن تأخذ مداها في تطوير البنية والقدرة والفاعلية. بعد استنفار قيادي داخلي، طرح كوخافي مفهوم الانتصار
Concept of Victory
، كنتيجة ليس فقط للنتيجة الملتبسة التي أدى لها
CBW
خصوصا في الجبهة السورية وبالعكس تمدد سيطرة الإيراني وعبر تماهيه مع المكون العسكري السوري، ولكن أيضا استعادة للنظرة التقليدية .. الجيش لابد أن ينتصر في أي مواجهة مفتوحة أو حرب جبهات، بغض النظر عن استدعاء الاستراتيجية لهذا السيناريو من عدمه. من الممكن فهم كثير من خطوات تدعيم القوات البرية والتشابك في الحرب المشتركة خصوصا مع الجو، والاستخبارات والدمج المعلوماتي والذكاء الاصطناعي (حلقة إدارة المعركة في تحديد مصادر التهديد الصاروخي والتعرضي وتصفيتها)، وعلى كانت الخطة العسكرية تندوف أو الزخم
Momentum.
المأزق هنا – أن الحرب الشاملة هي كذلك على حركات غير نظامية، بتشكيلها وتركيبها ومنطقها العملياتي
modus operandi
وترسخها في حرب المدن، تقتضي نمطا مختلفا عن الحرب المشتركة التقليدية على مستوى الأولوية، بل لابد من مطّ الهيكلية العسكرية للجيش الإسرائيلي وترسيخ الحرب المشتركة على قوات أصغر، ولكن لها قدرة تدميرية هائلة وذكية
Smart
، ولهذا طرحت الخطة مفهوما وتركيبا تجريبيا يسمى
Multi-Layer Forces أو Ghost Units.
ولكن من الواضح أن الجيش لا يزال بعيدا عن هذا المأمول.
ولكن في ذات الوقت – سيلجأ الجيش فضلا عما له من اعتبارات تقليدية في النشاط العسكري، وبعض الوحدات التي تدربت على النسق النوعي المحدود عددا ولكن المتسع كتشابك تسليحي وقوة نيران، على خطين تكتيكيين في حرب غزة.. ما يعرف قديما بالتفجير الفراغي
Hollow Explosions
– أي الانتقال الخطي في مسرح العمليات داخل التجمعات السكنية ذاتها عبر ما يقدمه سلاح المهندسين من خطوط داخلية. وكذلك ما راكمه بإنجاز ما في استهداف الأنفاق.. والأخير مسئول عنه عملياتيا وحدة العمليات في سلاح المهندسين
Yahalom
، والتي تدير مساحات تقنية متكاملة في اكتشاف الأنفاق وتحييدها صاروخيا وأرضيا – وبالأخص الوحدة التقنية
Samur
، وبمساندة تقليدية من قوات النخبة
Sayerat Matkal.

خامسا) من هذه التطوافة في المنطق العملياتي الحاكم للجيش، وبالنظر إلى تشكيل مرجح لقوات احتياج غزة واعتمادها على التشكيل التقليدي غالبا للقوات.. فيظهر لنا:
    أ.    ضعف الحساسية التي كانت تكبح الجيش في القيام بعملياته البرية وتقضم من معادلة التوازن العسكري.
   ب. الجيش فيه حالة ارتباك كثيفة على مستوى العقيدة والتركيب والوحدات، وطبيعة السلوك التكتيكي والعملياتي السائد، ولهذا – فالمرجح لجوؤه لمنطق القوة النظامية التقليدي
Brute Force
، مع إمكانية أوسع للتقدم بالأخص في مساحة التجويف المعماري، وتجفيف الأنفاق.
ج. كل هذا عالة بالأخير على عمق الدفاع العسكري المُقاوم، واستعداداته المسبقة، والتجائه لنمط غير تقليدي في الكمائن والفخاخ واستقلالية المسار الصاروخي عملياتيا وغيره.. ولكن كما أسلفت في سياق استراتيجي مختلف عما سبق.

ثالثا) استراتيجيا.. وهو الإشكال الأوضح، وربما أشار له الأمريكي مبكرا، وهو استراتيجية الخروج، وبمعنى أدق كما يراه الإسرائيلي لأنه هنا ليس في معرض خروج، استراتيجية مستجدة للتعامل مع مشكل غزة بعد الاجتياح وبافتراض تحقيق هدفه العسكري… وهنا يظهر أمام الإسرائيلي خيارات:
استدامة الاحتلال بتكلفة عالية، وقد يبحث مع الوقت عبر أقنية يقلل بها هذا العبء، كاختيار جزئي لما يأتي.
2 إعادة السلطة الفلسطينية، خصوصا مع التكلفة البشرية والمعاناة الإنسانية لغزة، وخسارة حماس عسكريا وكشرعية سياسية عبر تحميلها ما حصل، وبافتراض قبول السلطة ذاتها ودعم مصري وعربي. وفيها سيحصل غالبا إعادة انتشار لبعض قوات الاحتلال في شمال وشرق القطاع لتنتصب حاجزا دفاعيا أمام غلاف غزة.
3 صيغة أكثر تشاركية – عبر إشراك المصري، خصوصا إذا احتمل جزءا من عبء التهجير الغزاوي، ويظهر له هذا كبديلا أكثر قبولا من فكرة التوطين.
4 فكرة التوطين بالرغم من قدمها في ذهن الاحتلال، إلا أن هناك رفضا قاطعا مصريا، ويبدو أن الإسرائيلي لا يضعها الآن في أعلى سلم شغله استراتيجيا.. هي جزء من حل ممكن – بشرط قبول المصري – لمرحلة مقبلة. ولكن حاليا – كل ما يشغله وعلى هذا دفع لنزوح شعب غزة جنوبا ألا يعيق العمليات البرية.
5 بالطبع فكرة القبول بدرجة من الموضعة الحمساوية في صيغة إدارة غزة ممكنة نظريا، ولكن تقتضي خضوعا سياسيا من الأخيرة مستبعدا، وفي ذات الوقت – الهياج الداخلي في إسرائيل ضدها.

وكما نرى، في كل هذه الخيارات، بافتراض إسنارها بالمنتوج العسكري سالف الذكر، تبقى هناك مشكلة ضخمة إسرائيلية على المستوى الاستراتيجي. خيار الاحتلال بلاشك أكثرها كارثية خصوصا إذا استوعبت المقاومة الفلسطينية الدرس وصاغت حراكا مختلفا برؤية سياسية واستراتيجية مستجدة، وتطوير خطوط متكاملة بين حروب العصابات وإعادة بناء الهيكل التحتي والداعم، والاتكاء على مخزون الاستنفار الشعبي نتاج اجتياح غزة لتطوير النشاط المقاوم بالضفة وتوسعة الأطر الشعبية للمقاومة السياسية فيها والقدس والداخل.

حتى المسارات الأخرى – فدون انهيار الحس المقاوم فلسطينيا وتطويعه بنسق تنازلات سياسية وأمان اقتصادي، وإعادة الاعتبار للسلطة الفلسطينية بدعم عربي (إعادة أجواء أوسلو وما بعدها)، وهذا وضع بعيد حاليا عن التكوين السياسي الإسرائيلي ولكن ليس بالضرورة أن يبقى كذلك، فضلا عن تجريم حماس وشيطنتها داخليا، فقد يتجه بشكل تدريجي للمسار الأول (الاحتلال).

ثانيا) في ذات الوقت، فهناك تضخم لعناصر قوة بيئية لم تحصل في تاريخ الحراك الفلسطيني المقاوم بالأخص في الوضع الشعبي العربي (بما قد يقارب معركة الكرامة، والتي بالتأكيد لها سياق تاريخي مختلف أشد محاباة لها وتداعياتها في توسع الدعم الشعبي والنظامي العربي للمقاومة).
الأنظمة العربية التقليدية وضعها لايزال إيجابي لحد ما بالنظر للدفن (المؤقت على الأقل) لمشروع التطبيع مع السعودية، وخفوت صوت أطراف موجة تطبيع 2020، وتصلب للنظام المصري في نقد إسرائيل والدفع لمحور إنساني ورفض مطلق لمسألة التوطين، وفي ذلك الوقت عدم تجريم صريح للمقاومة (نظرة لموقف مبارك لحرب 2006 وهي كانت أكثر قبولا أخلاقيا دوليا تشي بالفارق)، وبالعكس تحميل التعنت الإسرائيلي المسئولية عن التصعيد الحالي والخسائر في المدنيين.

ثالثا) المأزق الاستراتيجي الحالي عناصره كالتالي:

1  غياب المتطلبات الوظيفية والبنائية للاستراتيجية ليس فقط حرمت المقاومة من ضبط بوصلة وحدود 7 أكتوبر، وتسكين نتائجها ضمن مخروط واضح من التدافع السياسي والعسكري وصولا لنتائج مرحلية أو بنائية، لكن هي تبقى عقبة الأن في طريق إدارة مرحلة الاجتياح وما يليها. وكما رأينا، هي شديدة التعقيد من حيث الخيارات والفرص والتهديدات، وهناك عدد هائل من الاعتبارات التي لابد من المفاضلة والمزاوجة بينها ضمن رؤية استراتيجية واضحة – كذلك اتكاء على المنتوج العسكري، وما قد يترشح عنه التدافع الاستراتيجي من وضع لغزة (احتلال، احتلال جزئي مع سيطرة وسيطة، أو صيغة تشاركية، أو حتى استعادة جزئية لمعادلة سابقة).

2 هناك ضرورة بالتأكيد للتصلب العسكري الدفاعي في غزة، وزيادة فاتورة الخسائر عند الإسرائيلي. وحقيقة – لايوجد بين أيدينا معطيات صلبة كما هي الحال عند تحليلنا لجيش الاحتلال تشي بالقابلية العملياتية والقدرة التكتيكية، خصوصا في ظل نمط عسكري يختلف في تقييداته الاستراتيجية عما سبق. ولا نعلم على وجه الدقة، حجم الخسارة البشرية والنوعية في القوة المشاركة في 7 أكتوبر. ولكن بالنظر لحجم الإشكال العملياتي والتكتيكي كذلك لقوات الاحتلال فإن حجم الخسارة ستكون واسعة عند الأخير، وهذا يزيد من حراجة وقيمة تشكيل رأس سياسي وطني يتولى مساحة التفاوض.

3 كما أشرنا على عجل في آخر المقال السابق، هناك خيار إسعافي لابد من التحرك فيه قائم على بناء تقارب مع السلطة الفلسطينية وبقية الفصائل، وتأليف هيكلية مشتركة لإدارة هذه الحرب بأبعادها السياسي والتفاوضي والإنساني على الأقل.
وهذا ضرورة استباقية كذلك لتحصيل متطلب أفضلي في مرحلة مابعد الاجتياح وإدارة غزة.
وأكيد كان هناك مطلب ضخم لحماس تحديدا لاستعادة شرعيتها الأخلاقية كحركة مقاومة في الفضاء العام – لايكفي فيه الخطاب الإعلامي، أو تبيان زيف الرواية الإسرائيلية في بعض النقاط، ولكن بتحييد المدنيين مطلقا والإفراج عن المختطفين منهم وإدانة أي سلوك متفلت حدث سابقا وتحمل مسئولية سياسية وإن ليست أخلاقية عن بعض ماحصل.
وهذا جوهري لتوسعة الحركة السياسية مع السلطة والنظام العربي الرسمي ودوليا في مرحلة تالية.
وبحصول ما سبق، يتساوق معه خيار استنفار شعبي في الضفة والقدس والداخل، وبالتأكيد الترميم الأخلاقي يساعد الأخير، وعلى مستوى الشعوب العربية وخصوصا دول الطول،
وكذلك التواصل مع النظام العربي الرسمي بفرض ترشح هذا الرأس الفلسطيني ولو بشكل مؤقت، ضمن مطالب محددة، وتفعيل أدوات ضاغطة فيها.. بالتأكيد – الأولويات هي في حماية المدنيين وحضانتهم، ومسألة إدارة غزة، وتبادل الأسرى.

4 خيار الحرب متعددة الجبهات يبقى كما أسلفت خيارا نظريا حتى الآن، بسبب مأزق حزب الله الاستراتيجي في الداخل اللبناني (مشكلة الشرعية السياسية والشعبية بدءا من 2008، وصولا للانهيار الوظيفي للدولة والعنت الشعبي) وكذلك في فقدان جزء كبير من شعبيته في الواقع العربي تبعا لحركته الإقليمية خصوصا في سوريا. وكذلك جبهة سوريا تبقى مرجوحة كقدرة إيذاء فعلي وكذلك ديناميات نظام الأسد نفسه وأمانه. فضلا عن إيران بكل إشكالاتها الداخلية وتوقيها انفراط صيغة الردع المتحسس مع الأمريكي.
ولكن مع ذلك – فإن تصاعد أدوار اشتباكية من هذه الجبهات – الشمالية بالأخص – تبقى مطلوبة كحيز إشغالي.


على عكس ما يتخيل البعض، فإن المنطق الحاكم أمريكيا بالأخص هو تقليل التداعيات الإقليمية، ولكن تقديم الدعم الكامل للحرب الإسرائيلية على غزة، وتأمين إطارها الردعي ضد دور إيراني محتمل.
علاقة التحالف العضوي استراتيجيا معلومة، ومهم أن ندرك أن إرسال حاملة الطائرات جيرارد فورد كانت توفية سياسية ومعنوية لهذه العلاقة وكذلك لاعتبار السياسة الداخلية وصورة القوة الكبرى دوليا مع تعرض حليفتها لمحنة في منظومة أمنها، دون بالضرورة أن يصل التعدي كميا وجغرافيا لمراكز الثقل في الدولة (شبيه بالدعم الذي تلقته أمريكا نفسها بعد أحداث 11 سبتمبر).
ولكن كما أشرت – كتوظيف استراتيجي بحت يبقى لتدعيم الرسالة الردعية ضد إيران، وأقل منه كثيرا تدعيم التواجد في شرق المتوسط، إذ أن الأمريكي متواجد بالفعل عبر أسطوله السادس بما فيه من 40 سفينة و 175 طائرة و20 ألف مقاتل ومساند، ووجود حاملة الطائرات هو بالأخير بشكل مؤقت كرادع ، ومشارك في الحرب الجوية ضد الجبهة الشمالية أو إيران إذا اقتضى الأمر.
كنتيجة معاكسة، فهي بالتأكيد تقلل من اعتبارات استعادة الردع والثقة في قدرة الدولة ذاتيا على ضمانة أمنها القومي، وبشكل متناقض أيضا، فرصة أوسع للضغط الأمريكي على إسرائيل في محطات تالية ترتبط بالصيغة السياسية المطروحة. تناقض حصل كذلك بعيد حرب أكتوبر 73، وساهم في إرغام الإسرائيلي للقبول بضغط أمريكي على صيغة لا تتواءم مع طبعته الاستراتيجية بعوارها، وإن ظهر فيها تاليا المصلحة الأكبر لكليهما.

كوضع إقليمي أوسع، فكذلك لا يظهر تحول عريض فوق نتيجة تأخير التطبيع وتقزيم تمظهر موجته السابقة لحين. وأعتقد أنه مع عدم تطور الوضع الفلسطيني لشكل أكثر حيوية في الرأس القيادي والخطاب العام، فلن يجد النظام العربي الرسمي الحاجة غير القيام بأدوار محدودة مراعاة للسياسة الداخلية، أو تعامل أكيد مع ملفات العبء الإنساني الغزاوي ومشكلة سيناء وبالتأكيد أدوار الوساطة وتوليد نسق نظامي لحكم غزة محابي كالنظام المصري.

متساوقا مع هذا الإطار، فتيقى تدافع وتلاقي المصالح الدولية ضمن معادلة محاولة تقييد كل طرف لنفوذ الآخر (الصين/الروسي – الأمريكي)، وهذا أربك مثلا معادلة الحساسية التي كانت قائمة بين الروسي وإسرائيل، ولكن كذلك دون اختراق في الأمر. وأيضا إمكانية الاستفادة غير المباشرة لتحويل ثقل الدعم العسكري الأمريكي إسرائيليا عن أوكرانيا (مع محدودية أثر ذلك على مسار الحرب).


لمزيد اطلاع

مقاربة أولية لتقويم طوفان الأقصى استراتيجيا، ونوستالجيا أكتوبرية

مقاربة أولية لتقويم طوفان الأقصى استراتيجيا، ونوستالجيا أكتوبرية

https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%85%d9%82%d8%a7%d8%b1%d8%a8%d8%a9-%d8%a3%d9%88%d9%84%d9%8a%d8%a9-%d9%84%d8%aa%d9%82%d9%88%d9%8a%d9%85-%d8%b7%d9%88%d9%81%d8%a7%d9%86

يهمني الإشارة لنقطة جوهرية قبل أن ندلف لما سنحكي عنه.. الإحساس بالفخر والانتشاء خصوصا من جيلنا الذي أزخمت معاناته الشخصية مرارات الانكسار وطيّ حلمه بالتحرر والوحدة وأوطان حرة وكريمة وديمقراطية، ولكن هذا لابد من تسكينه إذا تحدثنا بمنطق التقويم السياسي والاستراتيجي.

وكذلك – فإن كل أحاديثنا في هذا الباب لا تقارب الشرعية الأخلاقية لمن حملوا أرواحهم على أكفهم واقتحموا عرائص المجهول لايبالون في طريق العز لأمتهم والانتقام لكرامتها المسفوحة لعقود.. ولعل في هذا نسب لإشارة ابن تيمية القديمة عن استقلال أهل الثغور في التقدير.

 فقط – ما ندركه من قيمة الاستراتيجية وحاكميتها على كل مساحات الصراع ومنجزاته، سواء أدرك الناس هذا أم غفلوا عنه، وأنها بنت أهلية تتعدى كثيرا – وغالبا – حدود الاستغراق المكاني واستقلال النظر كشرعية استحقاق، وأنه دور المُقِل – هو ما يدفعنا لمثل هذا الحديث.

مبدئيا، ماحصل تحول كبير في مسار الصراع العربي الإسرائيلي يتعدى حدود التقويم السياسي والاستراتيجي لعملية أو حرب بشكل مباشر. وأنا لا أحكي هنا بشكل عاطفي، ولكن استراتيجي بحت.
في مسارات الصراعات الممتدة، نعم للجولات والحروب قيمتها، وضرورة خدمتها التراكمية والتعاقبية للأهداف الكلية كاستراتيجية عظمي، ولكن أحيانا تحصل نتائج فارقة تؤثر على المنظور الكلي – وعناصره النفسية والبنيوية فضلا عن موازين قوى للصراع ككل.. وحتى لو انتهت الجولة بمنتوج سياسي (نهايات مرحلية) أو استراتيجي (مفردات توزيع القوة وتوظيفها) مُحبِط وسلبي، تبقى المنجزات تلك قائمة.

وأوضح مثال على هذا – للمفارقة – هو حرب أكتوبر 1973، وبالتأكيد هناك أوجه نسبة وتشابه بين طوفان الأقصى معها، ولكن دون مبالغة كذلك، لأن حرب أكتوبر ونحن في ذكراها تتخطى في ميزان الكم والكيف والزلزال في مصفوفة الأمن القومي الإسرائيلي وبنية الدولة ما حصل من يومين..

الأهم هنا – حرب أكتوبر نتيجتها العسكرية كانت سلبية عربيا، بالنظر للعبور المعاكس، وحصار الجيش الثالث ومدينة السويس، وخضوع المصري تحت طائلة التفاوض في الكيلو 101 ثم فض الاشتباك الأول (فض الاشتباك الثاني تحديدا لم يكن لها علاقة بالتوازن العسكري وتصور الأطرف له، ولكن لتصور مغاير للسادات منتكسا عن تصور عبدالناصرلدور مصر الوجودي والإقليمي). ولكن، الانكسار الشديد الاستراتيجي الحاصل أول الحرب (ضرب نظرية الأمن القومي الإسرائيلي كما نص عليه التوجيه الاستراتيجي للحرب كما خطه هيكل) ، وحتى مفردات الانتشار العسكري بعد الحرب مقارنة بما قبلها .. يشي بدرجة ما من أفضلية المنتوج الاستراتيجي لصالح مصر (ليس نجاحا).

بعض المنظرين الاستراتيجيين – كالراحل مايكل هاندل، وهو أمريكي صهيوني، بما عنده من نضج استراتيجي، مهمن يكن متحيزا، فهو لا ينحصر في التقييم الغربي السائد أن الحرب هزيمة عسكرية لمصر، لأنه يدرك أن العلاقة بين المنتج العسكري والمنتوج الاستراتيجي ليست خطية (وهذا درس مبدئي هنا للإخوة في حماس، كما هو لإسرائيل.. وأوضح مثالا على هذا حرب 67، فمع عبقرية الحسم العسكري الإسرائيلي فنتاجه الاستراتيجي كان هزيلا بشكل قريب، وأفدح كمدى متوسط تبعا لحربي الاستنزاف وأكتوبر). ولكن هاندل في ذات الوقت، ربط خطأ بين حرب أكتوبر كمنتوج ومعاهدة السلام، والتي تمثل بحق – أوضح نجاح إسرائيلي على مستوى الاستراتيجية العظمي كما أشار، وفي رأيي حتى أهم من 48، لأن العرب لن يحاربوا كجيوش دون مصر.

ولكن ما لم ينتبه له هاندل، أن معاهدة السلام، وحتى قبلها فض الاشتباك الثاني كانت نتاج أشواط وأنماط متباينة من التدافع السياسي والديبلوماسي وتحولات بنية الأنظمة والوضع الإقليمي والدولي. وفي ذات الوقت – فحجم الانجاز المعنوي والقيمي للنصف الأول من حرب أكتوبر كان هائلا – في كسر أسطورة الجيش الإسرائيلي الذي لايقهر
invincible
 – داخل إسرائيل والأهم عند العرب..

هل ما حصل في اليومين السابقين يفوق أو يتقاصر عن هذا فيه نقاش آخر. لكن الأهم أنه حصل، ولن يمكن تغييره بعض النظر عن نجاح أو فشل الأطراف – وخصوصا حماس – في تحصيل منتوج سياسي واستراتيجي يمكن البناء عليه.

وما يهمني في هذه العجالة أن أتناول نقاطا محددة، من الأدنى للأسفل..
أولا – لانطلاق من عرض ما حصل تكتيكيا وعملياتيا، لأن هذا ما يسود الخطاب العام حاليا

ثانيا – إطلالة على المفاجأة الاستراتيجية والخلل الاستخباراتي

ثالثا – مقدمة في المقاربة الاستراتيجية لما حصل

رابعا – المسار الممكن والموصى به استراتيجيا

بوضح، كذلك – مثل حرب 73، ما حصل لم يشتمل على تكتيكات وأسلحة مفاجئة، ولكن الأهم هو المفاجأة الاستراتيجية والتصميم العملياتي وتراكب مسارات التكتيك بشكل يمثل منتوجا عملياتيا كاسحا.

نمط اختراق الحدود عبر مجموعات نوعية تسندها هجمات صاروخية، واحتلال مؤقت للمستوطنات وإنزال درجة من التخريب والترهيب كرسالة، والعودة بأسرى، معروف إسرائيليا. حتى أنا حين زرت لبنان في 2008 في وقت تحضيري لرسالتي للماجستير (الأداء الاستراتيجي في الحرب غير المتماثلة – دراسة حالة بين حزب الله وإسرائيل) تعرّفت عليه.

نعم، التصور الأكثر حضورا عنه هو أنه سيحصل في الجبهة الشمالية، وعلى هذا كانت كل التحضيرات والمناورات العسكرية وتغيير الهيكل الدفاعي هناك إسرائيلي في السنين الفائتة. طيب – مع الاتصال العضوي بين حزب الله وحماس، أليس من المفترض إمكانية حصوله بالجبهة الجنوبية؟ هنا يأتي الخلل الهيكلي في المفهوم الاستخباراتي كما سنفصله لاحقا– هناك درجة كبيرة من تقليل التقدير الفادح لقوة حماس، والأهم – ترسخ فرضية أن حماس محجوزة بردعها الذاتي تبعا للمأزق الاستراتيجي التي وضعت نفسها فيه بانكفائها على غزة وخضوعها للحصار بعد 2007.

بإنصاف – للتصور الاستراتيجي إسرائيلي درجة من الحجية، وهذا ربما منطق قلقنا كما سيأتي، ولكنه بالتأكيد، لاينفي ضرورة الاستعداد العسكري والأمني، وعدم أسر التحليل الاستخباري لفرضية يابسة، ونفترض- أنه بالنظر للاختراق المعلوماتي الواسع لغزة – ازدراء معلومات قد تكون تضافرت الفترة السابقة ، مهمن يكن جدية حماس في الأمان المعلوماتي تحضيرا لعملياتها.

تكتيكيا، حماس طبقت هذا النمط السالف ذكره بدرجة عالية من البراعة، ووسط انهيار دفاعي إسرائيلي كامل حتى كأننا نشاهد فيلما كارتونيا، والنتاج العسكري كان باهرا بدرجة غير متخيلة، استباحة ثماني قواعد عسكرية وقرى ومستوطنات غلاف غزة فضلا عن ستارة صاروخية كثيفة قادت لإشباع في القبة الحديدة وأحدثت تخريبا معتبرا، قتلى إسرائيليون يتجاوزون السبعمائة، وأسرى يتجاوزن المائة (نظرة لمعدل تبادل أسرى المقاومة اللبنانية والفلسطينة مع كل رأس إسرائيلي ينبئنا عن حجم الإنجاز).. وكل هذا يشتمل على عسكريين ورتب رفيعة!

ولكن يبقى عندي تحفظ  – حتى أنهي هذا الملف التكتيكي – عن ضعف الحساسية نحو المدنيين والأسرى العسكريين سواء كنشاط عسكري، أو تعامل شعبي غلبت عليه بعض مظاهر التفلت والانتقام، مفهوم إنسانيا، ولكن الحساب الأخلاقي والاستراتيجي له شأن آخر.

أنا لن أخوض في التناول الفقهي والأخلاقي المنضبط لهذا الأمر، وحتى محمد الضيف أشار في أواخر كلمته للقاعدة الدينية في عدم استهداف النساء والأطفال والشيوخ، ونزيد عليه الأسرى.. وبالتأكيد أن احتجازهم كرهائين واستخدامهم دروعا بشرية هو مناقض لتلك القاعدة.. وكما حكي د. وليد سيف على لسان صلاح الدين في روايته التمثيلية، حين تعجب أصحابه من سماحته الزائدة مع الصليبيين في استعادة القدس مع المجزرة التي ارتكبوها هم أول الأمر (الحرب بيننا ليست بالقتال فقط، ولكنها على الأخلاق والشرف، فإن ألزمونا أخلاقهم فقد انتصروا فيها وإن انتصرنا نحن في الأولى).

ولكني أشير إلى القيمة الاستراتيجية لقوة الصورة –
power of image –
في هذا النمط مع الصراع المعاصر
War Among People
كما سماها روبرت سميث.. الانفلات في الاستهداف الشعبي له نتائج وخيمة في مساحات التأييد الدولي والشعبي، وزيادة مساحة التشنج العدواني عند الخصم.. هذا الأمر كما له تأثير مُربك للقوى الكبري في الحرب غير النظامية (أمريكا مثلا في العراق وأفغانستان، وقبلها أفغانستان) فهو كذلك يعمل على حركات المقاومة. وهذا يتجلى على مساحات ترتبط بالتكييف الاستراتيجي للصراع:
أ. مستوى الدعم الدولي ليس فقط كحكومات ولكن كشعوب، حين تترسخ صورة إرهابية النشاط العسكري الفلسطين.. وبالنظر لحجم الإنجاز في مساحة المقاطعة الشعبية والأكاديمية حتى في الغرب، وبالنظرة الحالية حتى لاضطرار كثير من المتعاطفين مع قضيتنا غربيا لإدانة العمليات الفلسطينية بوضوح، فهذا أمر لا يجب التضحية به.

ب. من أهم اعتبارات الفرص الاستراتيجية كما ستناولها، ظهور حماس كطرف سياسي
Responsible,
, والحقيقة كثير من المكونات الدولية والإقليمية – حتى التي لا تكن ودا لحماس، كان تعتبرها هكذا بدرجة أو أخرى. وهذه قيمة أساسية لأي توظيف سياسي لمنتوج ما حصل في بناء نسق سياسي كشرعية داخلية وحركة بالإقليم ودوليا محابٍ للمشروع الفلسطيني، إلا إذا استبطنا النظرة الكليانية للقاعدة وبناتها في بناء نظام دولي شديد المغايرة والأن!
وفي ذات السياق، الإسرائيلي منذ عشرين عاما وهو يطرح فرضية أن حماس والقاعدة وبعدها داعش من صنو واحد، وهي فرضية ساقطة كما نعلم لكل الاعتبارات، ولكن بعض مشاهد ماحصل، وطريقة إدارتها إعلاميا في إسرائيل والغرب، وقلقي الشخصي من إتمام التهديد بالإعدامات المتكررة ستكرس الفرضية السابقة تلك.

ج. درجة ما من التوحش في السلوك العسكري والاستهدافي ليس بالضرورة مفيدة في بناء حاجز رادع. سلوك الدول غير سلوك الأفراد، بل بالعكس، كثيرا ما تقود لتصعيد أشد.. وهذا سأعود له لاحقا.

التقارب بين طوفان الأقصي وأكتوبر، وأصبح تيمة في بعض الخطاب العام عربيا ودوليا، له كذلك تفصيلات تتجاوز حجم الإنجاز في خط الصراع –  أهمها المفاجأة الاستراتيجية، ودينامية الخلل الاستخباراتي الإسرائيلي لارتكازه على مفهوم خاطيء –  ما جرى تعريفه في أدبيات الاستخبارات التي تناولت سلوك المخابرات الإسرائيلية قبل حرب أكتوبر ب
Concept  
.. فكما وضعت أمان مفهوما خاطئا أن العرب والمصريين تحديدا لن يقدموا على حرب إلا بعد امتلاك سيادة جوية أو حيازة صواريخ دقيقة التوجيه – كدرس مستفاد من حرب الاستنزاف حين استباحت إسرائيل بضربات العمق مصر، فكان ما سبق – هكذا استقر عند الإسرائيلي – ضروري لتأمين حاجز الردع لمستوى معين مع أي تصعيد عسكري..
فيتضح أيضا، أن هناك تقديرا شديد الدونية لقدرة ونية حماس على الانفتاح الاستراتيجي بهذا الحجم والمعدل، مع حضور معلومات قوية على وجود هذه التكتيكات عند الجبهة الشمالية والجنوبية كما أسلفت.

ولعل ما جعل هناك استقرار لهذا ال
Concept
 القائل بحتمية مراعاة حماس لتوازن الردع والانكفاء داخل غزة.. هو سلوكها في الردع الذاتي في مرحلة ما بعد سيف القدس، وبالأخص بعد أخر جولتين في غزة وقصف قيادة الجهاد، والتصعيد الاستثنائي منذ عقدين في الضفة.

وبذات النسق، هذا السلوك رسخ بالتأكيد المفهوم الاستخباري، كمثل ما رسّخ سلوك السادات في نكوصه عن الحرب بأنواعها المختلفة ( سواء عملية محدودة في 1972 تبعا لقراءته للانشغال الدولي بحرب بنجلاديش، أو تأجيل الحرب في مايو تبعا لتأخر محطات التنسيق مع السوري والاستعداد التسليحي).. وهذه الأخيرة – حين نقل معلوماتها أشرف مروان، وتحرك الإسرائيلي بتعبئة عامة، ليس فقط رسخت ال
Concept
، ولكن جعلت لأمان أسبقية في التزهيد في معلومات أشرف مروان، وهذا ظهر حين صدقت معلوماته قبل حرب أكتوبر الفعلية.

نعم – السادات صك خداع استراتيجي رائع، ولكن السلوك المتقاصر السابق لم يكن مقصودا ولكن كان له الدور الأوضج. كذلك – يصعب عليّ تقييم هل كان سلوك حماس الانسحابي العامين السابقين جزء من استراتيجية خداع دون معرفة طبيعة السياق الداخلي عندها والمنطق الذي دفعها لهذه الجولة. تقديري – أنها لم تكن، وأن هناك مستجدات دفعتها لهذه الخطوة الاستراتيجية الفارقة، ربما يكون للإيراني دور أساسي فيها. وهذا بصراحة يقلقني على المآل وإحسان التحضين والتوظيف الاستراتيجي لما حصل ويحصل وسيحصل. لماذا؟ لأن المهمة الاستراتيجية في توظيف هكذا عمليات ومتوالياتها من الصعوبة بمكان، ليس فقط لاقتضائه درجة عالية من التحكم والتخييل والمرونة، وتغيير المخروط العملياتي من أسفل، والمسارات الديبلوماسية الموازية تبعا للمستجدات وما تحدثه من فرص وتهديدات، ولكنه يقتضي كذلك الاستقلالية والالتزام الكامل بتعريف المصلحة الوطنية.
من أشد مخاطر السلوك الاعتمادي
Dependent
على قوى أخرى، حتى لو تتشارك في مصالح استراتيجية وأبعاد قيمية، هو ضعف الاستقلالية سواء في شق الأهداف السياسية والمنظور الاستراتيجي ابتداء وتحريكه، بل وحتى معارضة هذه القوى لأي مسارات أو منتوجات تقلل من هذه الاعتمادية.

المنطلق الأول، أن هناك حاكمية للسؤال الاستراتيجي.. ماذا نقصد سياسيا من استخدام القوة العسكرية وغيرها، وعبر أي منظور استراتيجي يقصد لترتيب وتكييف هذا الاستخدام وضبط تصميمه العملياتي والتكتيكي. ولأن أي صراع هو عرضة لتحولات حادة تبعا لتغيرات البيئة وردود أفعال الخصوم والأطراف المحيطة، فلابد من امتلاك القدرة المعرفية والمؤسسية والحزم لتعديل هذا المخروط تباعا، واقتناص ما تقدمه التحولات تلك من فرص، وتلافي التهديدات والمخاطر.

المنطلق الثاني تبعا لهذا، أن العلاقة بين النشاط العسكري، والأثر الاستراتيجي، والمنتوج السياسي المباشر لجولة الصراع أو الممتد ليس خطا تلقائيا ، ولكن تحصل فيه تناقضات ومفارقات
– Paradoxes –
كما أشار لوتواك في دراسته الشهيرة.. فرب انتصار عسكري ساحق يقود لتراجع استراتيجي عند المنتصر، واستفاقة وتحوير إيجابي عند المهزوم، لا يؤثر فقط على منتوج هذه الجولة، ولكن ما يتبعها من جولات.. ونظرة كما أسلفت لحروب 67، والاستنزاف، و73، و82، و تموز 2006، تقرر هذه العلاقة المعقدة والمتناقضة بشكل مطرد.

المنطلق الثالث، كما أشرت في مقالي الأخير (حملة غزة مايو 2023: حدود التصميم والتوظيف والترتيب العشوائي)، فهناك مشكلة في القابلية الاستراتيجية عند حركات المقاومة بمساحاتها المعرفية والمؤسسية والتطبيقية، وليس هذا فحسب، بل غياب السؤال الاستراتيجي ذاته في أحايين كثيرة. هذا السؤال للمفارقة كان حاضرا بشدة في تجربة حركة التحرر الفلسطينية فترة الستينات والسبعينات – لأسباب أيديولوجية، ولكن دائما كانت إجابته تتم بشكل خاطيء، لأسباب في فساد البنية المؤسسية والمصالح الضيقة وحتى الانسياق الأيديولوجي نفسه (عدم إدراك مشكلة التسييق، أن الحرب الشعبية بطبعاتها الشرقية واللاتينية قد لاتناسب الوضع الفلسطيني).
لماذا تحديدا الحركات المقاومة الإسلامية بها ضمور في هذا الأمر؟ أعتقد لاعتبارات خاصة بارتكازها على أبعاد الحشد العاطفي، وتضخم العنصر الغيبي مع أن مقصود التشريع قائم على التسبيب وضبط مناط التكليف إعذارا، والتلقين التربوي، وتقديس التجربة التاريخية والقيادية، وتحريم النقد والنظر المتحرر والمتشكك .. وهذه متطلبات ذهنية ومزاجية ضرورية لاقتراف الاستراتيجية.

المنطلق الأخير، أنه مع ضعف المكنة الاستراتيجية، فإن اتساع مساحة التصعيد في جولات الصراع وتعقيد ديناميتها، تؤدي إلى ضغط
straining
 على هذه المكنة، ويقود لانحسار أشد في إدارة الصراع ذاته.

وسأفصّل:

  1. لا توجد قيادة فلسطينية حاليا بمشروع محدد يتمثل في أهداف سياسية مرحلية، فيمكننا بالتفاوض أن نضغط على العدو والطرف الإقليمي والدولي للدخول فيه. الصيغة السائدة، أن هناك معادلة ردع قائمة مع غزة، وسيطرة عسكرية وأمنية على الضفة، وتحصل جولات مستمرة لاستعادة الردع من قبل الإسرائيلي، وكذلك تعزز حماس من شرعيتها كقائدة لغزة. ما قدمته (سيف القدس) من فرصة، لتطوير حركة فلسطينية جامعة، وإعطاء الأولوية للقدس والضفة والداخل كأهداف للصراع وساحات له، بحيث تقود تدريجيا لمنجز مرحلي – لم يحصل. وزاد عليه كما أسلفنا – تضافر الردع الذاتي عن حماية الجهاد في غزة، والتعاطي مع التطور في إعادة استباحة الضفة.
  2. هذا بحد ذاته، يجعلنا متحيرين في تعيين الهدف السياسي لهذه النقلة النوعية عسكريا، لأنها أتت من غير سياق ممهد، ولا طريق تال واضح. ما هو مقصودها؟ و من وراءها؟ فضلا أن نتخيل كيف يمكن تقود لتحقيقه. هناك هدف عليه اطراد – ليس فقط في التحليل الغربي، ولكن حتى خطاب المقاومة الفلسطينية واللبنانية، وهو تعطيل مشروع التطبيع بالأخص مع السعودية.. وهنا قد يظهر الدور الإيراني في الدفع لهذه الجولة.
    ولكن بوضوح – لو صح هذا، فهذا هدف شديد التواضع، وسيحصل نعم ولكن بشكل مؤقت.. لأن هذا التطبيع له معطيات ترتبط بالصيغة الدفاعية التي يقوم عليها الخليج العربي وما حصل فيها من انحسار أمريكي، والسلوك غير الرشيد سواء لمكوناته وكذلك الإيراني في التدافع الذي حصل في جبهات متعددة في مرحلة مابعد الربيع العربي بالرغم مما حصل من تطور إيجابي الفترة السابقة وكان ينبغي البناء عليه، وإشكال الشرعية الداخلية للنظم ورغبتها في التسويق لنفسها أمريكيا.. وهكذا. فلا يعتمد بالضرورة على تصور لمنجز عسكري أو انكشاف دفاعي إسرائيلي في لحظة بعينها، فضلا أن الجولة تلك لم تنته بعد.. نتمنى بكل تأكيد النصر لمقاومتنا، ولكن ما حصل من إشكال حول رشادة السلوك السياسي والعسكري لها، وكذلك من تبعات جسيمة نسأل الله تجنيبنا إياها لها دلالات. بوضوح – أقصى ما يمكن أن تحدثه هذه الجولة هو تأخير التطبيع لا إنهاؤه، بغير العمل على تغيير المعطيات الإقليمية السابق ذكرها.
  3. هناك هدف آخر، يمكن تخيل تحققه، ولكن فقط بافتراض أن الجولة انتهت على ما هي عليه الآن، وهو تطور الشرعية السياسية والعسكرية لحماس في حكم غزة، وتعديها للسياق الفلسطيني الأوسع، وبالأخص بالنظر لما تحدثه الصفقة التاريخية لتبادل الأسرى من نتائج في تحرير الأسرى الفلسطينيين، ومكاسب في تخفيف حصار غزة، ولو واتت الظروف في تعديل السياسة من الاستيطان والقدس. العائق هنا، أن هذا للأسف لن يحصل، لذات المنطق الاستراتيجي الخاص بحجم الإنجاز الذي زلزل منظور الأمن القومي الإسرائيلي وبنية الدولة، ومنطق الردع وديناميته. وهذه نقطتي التالية.
  4. إذا لم تكن هناك قدرة على الحسم العسكري الشامل ضد إسرائيل، أو توفير ظروفه بشكل حتمي، فنحن أمام صراع محدود. وحركة المقاومة بطبيعتها تحاول إدماء العدو وتهديده بجملة من الخسائر التي تؤثر في حسابه السياسي فيتنازل، ولكنها غالبا لا تقدر أن تضرب بنيته الوجودية والحيوية، ولو استطاعت أن تهددها، فهي بهذا تلغي إمكانية مفاضلة الحساب الاستراتيجي تلك strategic interdiction..
    أي أن الإسرائيلي هنا، لن يجري هذا الحساب بأي يتراجع لأجل الحفاظ على مصالح سياسية واقتصادية وبشرية، لماذا؟ لأن مصالحه الحيوية والوجودية على المحك. وليس هذا فحسب، بل إنه سيحاول تهيئة كل المعطيات لأجل القيام برد فعل كاسح يستعيد هيبة الدولة، والمقرر الأمني الذي تقوم عليه حالة الاحتلال، والثقة الشعبية فيما سبق، وصورة القوة في الإقليم، فضلا عن المصالح الحزبية لنخبة الحكم.
    ولهذا – فلايمكن التراجع قبل إحداث فاتورة من الاستهداف البشري (المدني للأسف الشديد) في الحال الفلسطيني، والتدخل البري تبعا لسيناريوهات مختلفة، ولكن بالتطور المشار له في مقالي السابق حول تطول القابلية الاستراتيجية الإسرائيلية، فهناك نقاش حول سؤال استراتيجية الخروج ووضع غزة.
  5. الاستراتيجية الإسرائيلية التي استقرت بشكل متدرج بعد 2007، كان بالفعل إقرار سيطرة حماس على غزة مع إخضاعها للحصار، وتدعيم الردع التقليدي بحملات من وقت لآخر، والأهم – تبعا لذلك ومساوقة معه – تكريس سياسة التمايز (الفصل) بينها والضفة والقدس. وأن الأفضل إبقاء حماس حاكمة بكل تبعات ذلك السياسية والبشرية وحتى الأخلاقية وكابح لفوضى ممكنة. الإسرائيلي الآن أدرك – بسبب ما حصل – فشل هذه الاستراتيجية بشكل مرعب، وخيار احتلال غزة وتقديمها للسلطة حاضر، أو على الأقل – القبول بالصيغة السابقة ولكن بعد توفية فاتورة – ليس فقط استعادة الردع، ولكن استعادة منظومة الأمن القومي وهيبة الدولة ابتداء.
  6. من متطلبات ما سبق كزخم سياسي ودولي وعسكري، بناء حكومة طواريء وطنية، اتساع حجم الدعم الدولي والإقليمي وبالأخص تضخيم واستغلال الخسارة البشرية المدنية كقتلي و(مختطفين)، وصك أهداف سياسية محددة والتدقيق فيما تتطلبه من استراتيجية شاملة وعسكرية. ولعل هذا ما طرحه نيتنياهو من أهداف: تنقية غلاف غزة من جيوب الاختراق الفلسطيني، وفاتورة عقابية ضخمة، وتأمين الجبهات الأخرى تحسبا لتطور حرب متعددة الجبهات. من الممكن النظر أن كثيرا من هذه المتطلبات في طور التشكل، وربما فقط السلوك العربي – حتى السعودي – ولو حتى في شكله الرسمي كان إيجابيا ومغايرا بشدة لما تطمحه إسرائيل.
  7. فيما يتعلق بالأسرى الإسرائيليين في غزة، كذلك افتراض أن الحساسية الشديدة إسرائيليا نحوها كما كانت في الأربعين عاما السابقة كما هي افتراض خاطيء. لأن مساحة الحساسية تلك ومدى الصلابة
    Resilience
     تجاه هذا الملف شديد الارتباط بحراجة الملف الدفاعي وفكرة الدولة ذاتها. وهذا رأيناه بشكل واضح في حرب 1948 (نسبة الخسارة الشعبية في الحرب كانت عالية بشكل استثنائي)، وحرب 73، بل حتى بعض عمليات اختطاف الرهائن في السبعينات.. وخصوصا مع المكون اليميني الديني في الحكومة وضعف حساسيتهم تجاه هذا الملف (ليس مفاجئا أن أغلب التشكيل الاجتماعي لقوات النخبة بما فيها من مخاطر عالية من هذه الشريحة). ولكن بالتأكيد – هذا عبء شديد على الحكومة الحالية، ولهذا بالتحديد يريد نيتنياهو حكومة طواريء لعدم تحمله بشكل فردي للفاتورة البشرية تلك. هذا السلوك الإسرائيلي يتكرر فقط حوالي الحروب الكبرى لتكريس الحشد ومحدودية التنازل السياسي معها (كقبيل حرب 67). وهناك أيضا التحسب من انفتاح الجبهة الشمالية بشكل مصاحب، ولكن الإلحاح الشديد في ملف حكومة الطواريء الآن مرده بالأساس حرب غزة.
  8. ولكل ما سبق، الإشكال في تعريف الأهداف السياسية فلسطينيا، التصعيد الذي ضرب مصالح حيوية وهدد بضرب أخرى وجودية مما يبطل معادلة التمايز في الحساب الاستراتيجي عند العدو ويجعله يتجاوز مساحة الإدماء تلك، وليس فقط يتوقف ردعه عن الفعل العسكري أو تصعيده، بل يفرض عليه ذلك التصعيد وما يستتبعه من فاتورة خسائر ضخمة فلسطينيا، وإعادة ترتيب وضع غزة جذريا، والضعف البنيوي فلسطينيا في إدارة الصراع استراتيجيا، وغياب متطلبات جوهرية لتسكين المنجزات العسكرية فيه وتحصيل منتوج سياسي منها، وزيادة الممانعة الشعبية والعسكرية وحرية الحركة إقليميا ودوليا (قيادة فلسطينية موحدة بمشروع سياسي واضح وقدرة على التفاوض ورشادة الصورة) .. كل هذا هو سر قلقنا الشديد وما نراه مأزقا استراتيجيا تقع فيه حماس والقضية عموما حاليا.

مهم أن ندرك أنه في تلك المفاصل الحرجة يصعب علينا التحرك في أدوار بنائية، سواء تلك في تطوير القابلية الاستراتيجية، أو إنضاج المشروع الفلسطيني بمفرداته القيادية وكشرعية سياسية وأخلاقية وشعبية ومأسسة وصك مشاريعي.. هذه غالبا تكون مواسم الحصاد لا الزرع في هذه المساحة.

كذلك – أحيانا تكون هذا الفورات في مسار الصراع بطلقات يصعب إرجاعها ثانية، بالرغم من متوالياته المُقلقة والمُهددة، ويكون أمامنا غالبا خياران:

الأول) هو كبح مساحة التصعيد، وتوثيق فقط الإطار الدفاعي لتحسين المنتوج العسكري داخل غزة، وإصلاح كثير من جوانب العطب الحاصلة خصوصا في مساحة التكتيك والتصميم العملياتي (إزاحة العنصر المدني من بيئة الصراع، وحتى إعادة تكريس كود أخلاقي وإدانة بعض الممارسات)، ولكن الأهم هنا: تغيير محدود في البوصلة السياسية وطريقة التفاوض، وبالعكس – قد يكون في المأزق الحالي فرصة لتحسين البنية الفلسطينية لمشروع مستجد، بالأخص في:

     أ. التقارب مع السلطة، وتصديرها كرأس تفاوضي خارجي، مع الاحتفاظ بالورقة العسكرية داخليا.. وهذا لا مناص عنه حاليا. وهنا بالتأكيد أثمن مثلا خطاب السفير الفلسطيني في لندن، وهو دلالة بالضبط على ما تحتاجه القضية الآن وليس فقط حماس.

    ب. التقارب مع المكوّن العربي، وليس فقط المصري، ولكن السعودي، وإعطاؤه حتى بعض الاعتبارية في مرحلة التفاوض، وما لهذا من قيمة على المستويين الإقليمي والدولي..
ولكن بالتأكيد ضمن صيغة مضادة للتطبيع، وتعديل الخطاب والسلوك الاعتمادي على الإيراني مع تصدير منطق التهدئة الإقليمية بين الأخير والخليجي.
حماس، والحركة الفلسطينية عموما، شاءت أم أبت داخلة في هذا الملف. وإحسان خطابها وسلوكها، ولحد ما متابعتها للسلوك العراقي في السنين الماضية، ليس فقط ضروري لمجاوزة الأزمة الحالية وبالعكس تحصيل نتائج سياسية معقولة منها، ولكن لتوهين مسببات حالة التطبيع ذاتها. والحقيقة – دائما كانت مشكلة الحركة الفلسطينية – وحماس ليست نشازا – أنه لا تدقق في ضبط استراتيجيات التحالف مع الدول الداعمة حتى لا تصل لاعتمادية، فضلا عن تبعية. وأعتقد أن درجة من التخييل السياسي وإحداث مراجعة لهذا الملف قادرة على تحصيل منتجات ذاتية وإقليمية هامة.

ج. وضع مستهدفات سياسية معقولة في ملفات الأسرى والاستيطان والقدس، وإعادة تعيير إدارة غزة بشكل جماعي.. وبالتأكيد لابد أن يصاحب هذا التوحد السياسي – وإن كان جزئيا – توحد أوضح في النسق الدفاعي لغزة، لإطالة مدى المقاومة العسكرية وزيادة إدماء الخصم، والأهم – انفتاح للمقاومة الشعبية في الضفة والقدس والداخل، مع بعض السلوك الإشغالي من الجبهة الشمالية لفائدة رصيد معتبر من المخزون العسكري الإسرائيلي والتأهب السياسي والشعبي. ولكن كل هذا كما أسلفت لابد أن يكون مسنودا بإعادة الاعتبار للشرعية السياسية والأخلاقية.

الثاني) وهو الحقيقة يبقى خيارا نظريا لكثير من اعتبارات الإشكال الإقليمي الفادح في دول الطوق كقدرات عسكرية واستراتيجية وإرادات سياسية، وطبيعة الإشكال الشعبي والداخلي في غزة والضفة ولبنان، ومنطق التبعية للإيراني بحساباته المصلحية الذاتية المتسيد في تلك الجبهات، وهو الحرب متعددة الجبهات. ضرورة لهذا، وتبعا له كذلك، فلابد من تأسيس قيادة سياسية موحدة لإدارة هذا الصراع، فضلا عن تدقيق في المفردات التكاملية والمناوِرة بالجبهات وأولوياتها كاستراتيجية عسكرية وتصميم عملياتي.. ولكن هذا فوق ما قدمنا بذكره، يقتضي درجة من تجاوز المسحة الوطنية المباشرة لمنظور أكثر قومية هو غير حاضر حاليا كمفاعيل، ولا يكتفي به حديث ما يسمى (الإعلام المقاوم) عن وحدة الساحات وما شابهها..

إطلالة مؤسفة وتقويمية على حملة غزة – أغسطس 2022

https://www.raialyoum.com/%D8%AF-%D9%85%D8%AD%D9%85%D8%AF-%D8%A8%D8%B1%D9%8A%D9%83-%D8%A5%D8%B7%D9%84%D8%A7%D9%84%D8%A9-%D9%85%D8%A4%D8%B3%D9%81%D8%A9-%D9%88%D8%AA%D9%82%D9%88%D9%8A%D9%85%D9%8A%D8%A9-%D8%B9%D9%84%D9%89

بطبيعة الحال، فإن الصراع بين حركات المقاومة الفلسطينية وإسرائيل – كأشباهه من نمط الحرب غير المتماثلة – يبقى صراعا ممتدا بجولات من التصعيد وتسكينه. وأي تفاعل عسكري له أثر استراتيجي ما بفعل التراكم وتداعي الحوادث وآثارها على إرادة وحسابات المتصارعين وظروف البيئة. الفارق – أن الطرف الحائز على رؤية استراتيجية مبدئية لإدارة الصراع بخطه الممتد، وعنده قابلية معرفية ومؤسسية وتطبيقية لشق مستهدفات مرحلية يوجه لها نثريات أدائه العسكري – وغير العسكري – بدأب ومراجعة، هو من يتحرر من قدر عشوائية الأثر الاستراتيجي ويحقق نجاحا. وفي أغلب الأحايين، يبقى التقدم الاستراتيجي عالة على أخطاء الخصم في الحساب والخيار والبنية والتصميم بأكثر منه نجاحا ذاتيا.

وبوضوح.. فالإطلالة العاجلة على الحملة الأخيرة على غزة 5-7 أغسطس والتي أسمتها إسرائيل (الفجر الصادق) في إشارة إلى محو السواد -اللون الرامز لسرايا القدس (الجناح العسكري لحركة الجهاد)، وأسمتها الجهاد في مفارقة مؤسفة ترمز كذلك لعُمق الخلل البنيوي والتطبيقي لمسار المقاومة الفلسطينية (وحدة الساحات!)، لا تدع أي مجال للشك في نجاح واضح لإسرائيل في تحقيق أهدافها من الجولة، وكذلك تقدم استراتيجي معتبر على الخط الممتد، في مقابل خسارة استراتيجية للمقاومة الفلسطينية – هذه الخسارة أوسع كثيرا من آثارها على حركة الجهاد الإسلامي مع أنها تبدو أكبر المتضررين منها والمسئولين عنها!

وحين نحكي عن النجاح والفشل هنا فنقصد بالأساس المستوى الاستراتيجي، القدرة على شق أهداف سياسية قابلة للتحقق، وتحريك وتوجيه الأدوات العسكرية – وغيرها لتحقيقها، بالمقابلة مع قابلية ومستوى نجاح الخصم.

ويهمني الآن تناول أهداف الحملة المُعلنة إسرائيليا، عبر رئيس حكومتها، ومدى تحققها، قبل تقويم استراتيجي للوضع العام ولما يأتي:
1- الهدف العسكري المباشر، وهو تسكين وتحجيم التهديد العسكري للطوق الشمالي لغزة من قِبل الجهاد الإسلامي – مضادات الدروع بالأساس والتحرش الصاروخي بمستوطنات الغلاف. وهذا كما هو واضح هدف عملياتي مرتبط بالجولة، ولكن له آثار سياسية داخلية (الرصيد الشعبي للحكومة الحالية)، واستراتيجية (تدعيم الشق الإنكاري
Deterrence by denial
في معادلة الردع التقليدي التي تحاول إسرائيل تمديدها وتدعيمها – إنكاري بمعنى تحجيم فرص الخصم في الحركة والإيذاء). وقد نجح هذا فيما يتعلق بمضادات الدروع. أما الصواريخ، فقد أطلق الجهاد وبعض الفصائل حوالي 600 صاروخ وقذيفة خلال الأيام الثلاثة، ونعم تم التصدي لأغلبها عبر منظومة القبة الحديدية، ولكن كما أسلفنا سابقا، فإن منظومة مواجهة الصواريخ إسرائيليا أوسع من الدفاع الصاروخي، ولكن عبر مستويات أربعة (الردع – وهما كما سيأتي نجح بشكل معتبر فيه تبعا لعدم اشتراك حماس وإنهاء الحملة سريعا، والدفاع الإجهاضي – ويغيب عن يدينا تفصيل دقيق لحجم التدمير للبنية الصاروخية للجهاد ولكن واضح أنه ليس قليلا فضلا عن ظهور مشكل بنيوي وتكتيكي ذاتي عند الأخيرين، والدفاع الإيجابي بالقبة ومقلاع داوود للمتوسطة وآرو للطويلة، والدفاع السلبي وهو المنعة الشعبية والأمان المدني وهذا واضح أنه حصل به تطور كذلك).

2- الحفاظ على سياسة التمييز  
Differentiation
والفصل بين غزة والضفة – بقاء الضفة بعيدة عن متواليات الصراع وجولات استعادة الردع مع غزة
وهي السياسة التي استطاع الإسرائيلي أن يستكشف نجاعتها، بعد أن مهّد له الخصم شروطها واستمراريتها بعد حسم غزة 2006.

3- ضربات موجعة للبنية العسكرية والقيادية للجهاد – بدأت كممارسة تقليدية لمنطق الردع الإيذائي
punitive
– فضلا عن القصقصة الدورية لمصادر التهديد تكتيكيا وعملياتيا. ولكن تطورت مع الوقت للوصول لنتيجة موجعة في فقدان قائدي المنطقة الشمالية والجنوبية للجهاد في القطاع (تيسير الجعبري وخالد منصور)، وقائد مضاد الدروع وشريحة هامة من رفاقهم. وللأسف – فإن هناك مساحة أخرى من خسارة الجهاد أكثر خطورة وهي مسئولية تراجعها التكتيكي عن إحداث ضحايا في مدنيي القطاع، في الوقت الذي حرصت فيه إسرائيل بعض الشيء على مراعاة الأضرار الجانبية على المدنيين وسوقت لذلك إعلاميا وحتى بلجنة تحقيق في نشاط الجيش حاولت رفع مصداقية جيش الدفاع حين حملته مسئولية مقتل 5 أطفال في إحدى الضربات

4- بقاء حماس بعيدة عن النشاط العسكري التبادلي مع الجهاد في غزة. وهذا الحقيقة أخطر وأهمّ هدف تبعا لآثاره على الخط الممتد للصراع!
 من ناحية مرحلية، فهو فرض لقاعدة الردع الذاتي
self-deterrence
 على حماس في غياب رسائل معلنة وجهها الإسرائيلي للحركة للإحجام عن التدخل، وتطوير وتمديد قاعدة الردع – هنا ليس فقط فصلا بين الضفة وغزة، ولكن إحجام الحركة عن التدخل رغم تصفية للرأس العسكري لحركتها الرديفة بالمعنى الوطني والمُقاوِم داخل القطاع. ولأنها المسئولة السياسية عنه، فهذا يأخذ من صورتها كحامٍ للقطاع، ومن رصيدها الطامح لقيادة الحركة الوطنية الفلسطينية سياسيا وعسكريا.
وهذا يُخفف بعض المعضلة التي تعانيها الاستراتيجية الإسرائيلية في استيعاب حماس وإغرائها برفع درجة الأمان الاقتصادي في غزة، فحزمة التحفيز والأمن هذه تزيد من الردع الذاتي للتصعيد حفاظا على المكتسب السياسي والاقتصادي من ناحية، ولكنها كذلك تزيد من شعبيتها السياسية في القطاع على الأقل. ولكن هنا، بالنظر للبنية الاجتماعية والسياسية للقطاع، بالرغم من التململ للضغط الاقتصادي جراء دعم المشروع المقاوِم، فتداعي العُنوان المُقاوِم يقود لتراجع سياسي.

ولكن هناك بعد استراتيجي أهمّ، وهو عكس فرص الانعتاق من المأزق الاستراتيجي للمقاومة في غزة بعد 2006 كما تناولنا بتفصيل في معرض مناقشتنا لحملة (سيف القدس). هذا المأزق يتمثل في: انحسار مشروع المقاومة الفلسطينية لحرب حدودية دنيا في قطاع غزة تحت الحصار وعمليات إسرائيلية بين الحرب لتمتين حاجز الردع، وخسارة الضفة والقدس والداخل وما لذلك من قيمة وجودية بالمعنى السياسي والاستراتيجي والعقائدي للصراع (وهذا المقصود بسياسة التمييز الإسرائيلية، وكذلك الارتهان لمحاور الإقليم لبقاء مشروع غزة قائما عسكريا واقتصاديا على حساب النظر المستقل للمصلحة الوطنية التي قد تقتضي تحالفا استراتيجيا مع جهة خارجية ولكن تمايزا عنها في صراعتها الأخرى ورسم حدود التصعيد ذاتيا.

(سيف القدس) ليس فقط قدّمت فرصا حقيقيا للانعتاق من كل ماسبق؛ استعادة مشروع المقاومة بأبعاده السياسية والشعبية والعسكرية الشاملة، واستعادة للمركزية السياسية والاستراتيجية وبوادر (العملياتية) للضفة والقدس – والأخطر – الخط الأخضر، وترقّي في الوضع الإقليمي لبناء علاقات أكثر صحية مع كل الأطراف كالمصري والأردني وربما الخليجي لاحقا.. ولكنها هيأت لإحداث اختراق استراتيجي في مسار الصراع وتصحيح عيبه الخِلقي – أعني: فرصة لتطوير قيادة سياسية وعسكرية للمشروع الفلسطيني، مما يتيح فرصة ممكنة ل: أ. تطوير رؤية سياسية مرحلية واستراتيجية بمفرداتها المختلفة. ب. تطوير القابلية الاستراتيجية بمساحاتها المعرفية والمؤسسية والتطبيقية. ج. تطوير البنى التحتية في مسارح الصراع الأهم – الضفة والقدس وداخل الخط الأخضر.

النقطة التي أثارت عندي بعض التفاؤل حينها، ولكن المُحيّرة كذلك، أن ما سبق ذكره، ظهر ولو بشكل مبسط في خطابات بعض قيادات حماس حينها خصوصا السنوار. ووجه الحيرة – أن التوظيف الاستراتيجي المرحلي للحملة كمُخرج
end point
، والأهم – البناء عليها بالاستمساك بما أتاحته من مكتسبات وفرص وتطويرها (بالأخص في جوانب بناء القيادة السياسية والعسكرية والتي تقتضي تعاملا وطنيا وسيطا مع القطاع، تطوير القابلية الاستراتيجية، والبنى التحتية في الضفة والقدس والداخل)، لم يحصل بعد ذلك بشكل جدي. وبشكل أو آخر – تمت العودة ثانية للمنطق الذي كان حاكما في محورية وتمديد السيطرة على غزة. ولعل تعمّد الإسرائيلي أول أيام التهدئة بإعادة الزيارة المتحرشة للحرم الأقصى – وهي ما أشعلت الحملة ابتداء – وتأكده من صمت المقاومة أوسع من مجرد مكسب صوري تلقفته وسائله الإعلامية لاستعادة قدر من ماء الوجه المُهدر للحملة، إلى استعادة ضمنية لمعادلة الردع السابق، وإجبار الطرف الآخر على قبوله ليس فقط كنهاية حملة، ولكن الإحجام عن مسلك الاختراق الاستراتيجي المُشار إليه.

ومن هنا ندرك قيمة هذا الهدف السياسي المُعلن بوضوح إسرائيليا من منع حماس من الاشتراك في الحملة الفائتة، ولتحقيق هذا – فبالرغم من نجاحه العسكري الباهر في ضرب قطاع معتبر من قيادة الجهاد، وتحجيم التهديد على الغلاف الشمالي، إلا أنه كان متعجلا في الوصول لتهدئة وحتى بشروط فيها بعض تنازل (النظر في الإفراج لاحقا عن بسام السعدي واعتقاله هو ما أشعل رد الجهاد ابتداء بالتهديد الأمني للغلاف الشمالي). لماذا؟ لينهي الحملة قبل تغيّر حسابات حماس!

تقويم استراتيجي ونظرة لما يأتي:

من ناحية، فهذه الجولات في صراع ممتد نتائجها لا تكون نهائية، لا أعني فقط الخسارة العسكرية بالمعنى العملياتي والتكتيكي فهذه هينة بالطبع ويسهل تعويضها، ولكن حتى بمنطق آثار الحملة كتوظيف استراتيجي وفق رؤية ممتدة. فكما رأينا في (سيف القدس) قد تضيع المكتسبات وحتى تتراكم خسائر تبعا لتهاون التصميم السياسي والاستراتيجي عند الطرف المتقدم للبناء على ماحققه، أو يُصاب بسكرة الانتصار، أو تكون فرصة للطرف الخاسر في إحداث تصحيحات بنيوية ترفع من رصيده في إدارة الصراع ككل وتطوير قابليته الاستراتيجية. وحتى قبل سيف القدس، حملة 2006 أفادت كثيرا إسرائيل في إحداث تغييرات بنيوية في ميزان القدرة الاستراتيجية وورّطت حزب الله في عقبات ومثالب. وبالطبع 67 بالنسبة لإسرائيل، و73 لمصر. وهذا عين ما أشار له المفكر الاستراتيجي الأمريكي– ذو الخلفية الصهيونية – إدوارد لوتواك،
Strategy paradox
، أي التناقض والسخرية اللازمة في الاستراتيجية كمنطق وتجربة.

بوضوح، هذه خسارة بالميزان الاستراتيجي لحركات المقاومة الفلسطينية، ليس فقط كنتائج الحملة العسكرية وتحقيق الإسرائيلي أهدافه منها، ولكنها ضربت موارد أساسية في التصحيح الاستراتيجي والبناء على مكتسبات (سيف القدس):

  • تكريس التمايز بين غزة (فلسفة الحفاظ عليها كإمارة تحت الحصار والمكافآت والحملات المحسوبة) والضفة والقدس والداخل.
  • ضرب الثقة في حماس كقائدة للمقاومة الفلسطينية، وللثقة المتبادلة الضرورية لبناء أي جسد قائد عسكري وسياسي، وهو ضرورة وجودية لتطوير رؤية سياسية واستراتيجية، وبناء أطر وقابليات استراتيجية قادرة على تحريك وتوجيه وتحوير مصادر وتمظهرات الصراع الشامل – بالأخص بعده العسكري – لتحقيقها مرحليا وبشكل ممتد.
  • الخسارة الفادحة العسكرية والقيادية للجهاد، وخسارة شعبية لم تتضح معالمها بعد. وكذلك وصمة ممكنة على مستوى القاعدة الشعبية لحماس.

هل كانت ثمة بدائل بالنظر للمأزق الذي كان ماثلا أمام حماس للرد؟

هذا المأزق لايظهر فقط أنه بسبب معادلة الردع القائمة، وتبعات التصعيد على الرصيد الشعبي والسياسي للحركة بالقطاع والتخلي عن بعض المكتسبات الاقتصادية التي سمح بها الإسرائيلي (تراجع الحصار، وتصريحات ل 20 ألف غزاوي للعمل بالداخل)، ولكن لسلوك شديد السلبية والخرق من قيادة الجهاد. من الواضح أن سلوك التصعيد كان أحاديا، وخطاب رئيس الحركة (زياد النخالة) كان سيئا الحقيقة وصادما للحد الأدني من الوعي السياسي والاستراتيجي (خطابات يتقازم أمام بؤسها الخلل السياسي للقيادة الإسرائيلية في حملتي 2006 على لبنان و2009 على غزة!)، والأمر ليس فقط خطابات مع قيمتها في هذا النوع من الصراع لكن لأنه من يقود الحركة فعليا.

وهناك أمرٌ آخر قد يُزهّد حماس في الانجرار خلف الجهاد في تصعيدها، فوق انفرادها بقراره بالمخالفة لمبدأ الوحدة العسكرية للمقاومة (عنوان وحدة الساحات الذي رفعته الجهاد وخالفته برفعه!)، وهو التضعضع التكتيكي والعمليات للجهاد والذي كان صادما لي الحقيقة وعلى اعتبارات عدة – خصوصا وأنا منذ زمن طويل أُثَمّن الموقف والموضعة السياسية للجهاد في رفضها لمنطق السلطة وآثار أوسلو، وحتى الاستراتيجي في تحفظها على حسم غزة وبقاء معادلتها، مع وجود سلبيات وقصور يتمثل بلاشك في ضعف قاعدتها الشعبية لعدم تركيزها على العمل الاجتماعي بالمفارقة لحماس، ودرجة أوسع كثيرا من الاعتمادية على إيران أوهنت بدرجة كبيرة استقلال قرارها السياسي والاستراتيجي.
وبالرغم أنه ليست بين يدي معلومات محددة عن هذا التضعضع، ليست كالتي مثلا عند فصيل مرافق ومسئول عن القطاع كحماس، ولكن الشواهد أمامي كمراقب من الخارج واضحة: الفصل القيادي عملياتيا بين الشمال والجنوب ابتداء لتسهل السيطرة عليه من الخارج، الخرق الأمني بحيث وجود قيادته العسكرية ضمن بنك الأهداف الإسرائيلية على هذا النحو، مشكلة الصواريخ ليست فقط تكتيكية أو تقنية كما يتراءى لأن أي مشكلة من هذا النوع إذا توسعت لمستوى الجبهة يتم اعتبارها مشكل عملياتي بنيوي ووظيفي، وإذا قاد لآثار استراتيجية فادحة (كما حصل تبعا للتصعيد مثلا دون إدراك القدرة الذاتية ومحدداتها) يتم اعتبارها مشكل استراتيجي بنيوي أو وظيفي!

أقول، أني أتفهم جيدا اعتبارات حماس في صمتها في هذه الحملة، ولكن كذلك لكل الاعتبارات الاستراتيجية؛ سواء تلك في متطلبات تخليق وبناء قدرة استراتيجية للتعامل مع الخط الممتد للصراع  (تطوير الثقة فيها كحركة قائدة، والثقة المتبادلة وتكريس مبدأ الكل لأجل الواحد والواحد لأجل الكل، وإعادة المركزية للضفة والقدس والداخل، والتخلي عن حاكمية صيغة غزة)، أو تلك الخاصة بالتعامل والتوظيف الاستراتيجي لجولات التصعيد (تدعيم معادلة الردع الأفضلي، وامتلاك زمام المبادرة ورسم مسار الحرب، واستغلال التصعيد لتحقيق شروط تطوير القابلية الاستراتيجية وتجريبيتها والبناء القيادي والعملياتي عسكريا وفي الساحات)، أو التعامل الإيجابي وحتى التصحيح لسلوك وبنية المقاومة بالداخل وبالأخص الجهاد (الوقوف مع الجهاد كان يتيح فرصة أكبر ودالة لفرض حزمة تصحيحية وإعادة التزام بالقيادة العملياتية المشتركة)، فإن موقف حماس يُعتَبَر خطأ فادحا استراتيجيا!

من ناحية، هناك اختبار بسيط تستطيع حماس أو أي مراقب القيام به. هل لو حصل الاستهداف العسكري الذي تعرضت له الجهاد بنفس النوع والكم لحماس، هل كانت ستتحرك؟ حديثي هنا ليس في خانة الواجب الوطني والأخلاقي مع أهميتهما، ولكن الحساب الاستراتيجي البحت الخاص ببناء الثقة فيها كحركة قائدة، والتمهيد للقيادة الجامعة.

هل كان أمامها بدائل؟ بالتأكيد ولكن ضمن قاعدة الاشتراك والتصعيد! أنا لن أسرد هنا تفصيلات لخيارات استراتيجية، ليس فقط لأنها تحتاج لمعلومات عن الموارد والمعطيات العملياتية والبيئية لا أملكها، ولكن كذلك لأن الخيارات الاستراتيجية التفصيلية ليست وصفات طبخ جاهزة لأنها تعتمد على ردود أفعال ومبادرة الخصم والبيئة المحيطة ومتغيراتها ومقايسة الفرضيات الاستراتيجية والعملياتية خلفها عند التطبيق..

ولكن أقول بشكل عام، أن المخروط التصعيدي خصوصا إذا تم ربطه بوسائل ديبلوماسية وإعلامية وشعبية، يضع عددا واسعا الحقيقة من التخيّرات.. منطق حماس في الحملة ينبغي له أن يكون الانخراط الرسمي مع محاولة تفعيل الوسيط الديبلوماسي والشعبي وتوسعة الساحات غير العسكرية للوصول لصيغة تهدئة مناسبة، ولكن الاستعداد النفسي والقيادي لدرجة أوسع من التصعيد إذا أراده الخصم، والذي سيكون بشكل وآخر استنساخا مصغرا من سيف القدس.

الإسرائيلي يدرك بوضوح، أن تطوير التصعيد العسكري لما هو فوق استعادة معادلة الردع والتي يحتاج – هو وحماس – للوسيط المصري ينهي التبادل العسكري بشكل يحفظ ماء وجه الطرفين كسياسة داخلية ومنتوج استراتيجي، يعني التدخل البري في غزة. وهذا له حسابات مختلفة حاضرة خططيا وبشكل أقل كاستعداد عسكري، ولكن ليس كقرار سياسي وقدرة على تحمل كلفتها استراتيجيا. وأكيد لابد أن تتحرك الدائرة الخططية للمقاومة لاعتبار هذا المستوى عملياتيا، والأهم منه كتوظيف استراتيجي مرحلي وامتدادته واستراتيجية الخروج المناسبة، ولكن المقصد –  أن كلا الطرفين لايريدونه الآن.

وكما أسلفت، سيقود المخروط التصعيدي لحماس لمنجزات على الثلاثة خطوط التي لابد وأن يتحرك فيها النظر الاستراتيجي: مسلتزمات الخط الممتد لاستراتيجية الصراع وبالأخص بناء القيادة الموحدة وتطوير القابلية الاستراتيجية، التوظيف الاستراتيجي المرحلي للحملة، وفرصة أكبر لعلاج المشكل الداخلي مع الجهاد.

أما وقد حصل ما حصل، فهل هناك سبيل للحل؟ بالتأكيد.. ولكن إن كنا قد أوصينا بُعيد حملة سيف القدس أن يحصل استنفار حقيقي للمراجعة السياسية والاستراتيجية لحركات المقاومة وعلى رأسها حماس، كمطلب لبناء وتطوير وتصحيح القيادة الاستراتيجية للصراع فضلا عن ضرورة الشروع في تطوير القابلية الاستراتيجية لإدارته معرفيا ومأسسيا وتطبيقيا، فهو في حالنا الآن أكثر إلحاحا، وبالعكس، قد تقود مرارة الأسف والخسارة لتحريك الضمير الرسالي والوطني عند جميع الأطراف لهكذا مراجعة وتصحيح بأكثر مما يدفع له انتشاء الانتصار.


لمزيد مراجعة:

مقال – على هامش (سيف القدس): استشراف الرؤية الاستراتيجية للحراك الفلسطيني المُقاوِم

ندوة عن (التقييم الاستراتيجي لحملة سيف القدس)

مقال: هل تُعيد (سيف القدس) المبادرة الاستراتيجية لحركات المقاومة الفلسطينية؟

https://www.inss.org.il/publication/breaking-dawn-strategy/

ملاحظة حول التصعيد الصيني حول تايوان

3 August
بخصوص التوتر الصيني التايواني، وردا على زيارة رئيسة الكونجرس الأمريكي، أعلنت الصين مناورات بالذخيرة الحية في 6 نقاط محيطة بتايوان.. هل ممكن تطور الأمر لنزاع عسكري؟ وما وضعية معادلة الردع؟

بداية – مهم إدراك سياق الأزمة بأبعاده التاريخية وماحصل فيها من تطور بعد 2000 (وجود قيادة سياسية تنحاز للاستقلال من خارج الكومنتانج)
وكذلك في الكم سنة الماضية في مساحات مختلفة
(حكومة الحزب الديمقراطي التايواني المؤيدة للانفصال بعد فترة من التقارب السياسي النسبي، التمدد العسكري الصيني ويصاحبه بعض التشددات التي أثارت قلق تايوان بالأخص قانون الأمن القومي لهونج كونج الذي يمثل إنذارا – في نظر تايوان – حول استحكام سيطرة الصين عليها مستقبلا، فضلا عن تصاعد التنازع الأمريكي الصيني، وحضور شبح التدخل الروسي في أوكرانيا الذي أعاد مبدأ النزوع الحاد لقوة رئيسة للتدخل العسكري المباشر في تحقيق المصالح القومية والإقليمية، وكذلك تدهور واضع في ال
strategic posture
الأمريكي – كمصداقية في نجاعة وجاهزية المبادرة الاستراتيجية والقدرة على توظيف الأداة العسكرية أكثر منها تراجع المعادلات الكمية)..
هناك أيضا التشتت وغلبة بعض التحيزات السياسية على عناصر صنع السياسة الأمريكية، وهذا شيء معتاد في الحال الأمريكي خصوصا في الأزمات دون الوجودية وحتى بعض الحيوية.. مثلا – هناك تصريح بايدن العام الماضي بدعم سلامة تايوان ووضعها المستقل فعليا ولو بتدخل عسكري، ولكن كذلك معارضته لزيارة بيلوسي لما تسهمه في توتير الوضع، وفي نفس الوقت تصريح مجلس الأمن القومي بأن أمريكا سياستها لاتزال لمبدأ صين واحدة الذي تم الاتفاق عليه في 1979.
وكتوازن عسكري واستراتيجي، فهناك غلبة واسعة صينية في المحيط الإقليمي القريب (وهذا عقدة استراتيجيتها الأمن القومي والدفاعي) ولكن تفوق أمريكي واسع في المحيط الأشمل باعتبارات كيفية، وكمية نسبية
projection of power

من ناحية تاريخية كما أسلفت، ملف تايوان يبقى مستندا دافعا للتصعيد دوما.. فهناك الالتباس في وضعية تايوان نفسها وطبيعة الغموض في ترتيب هذا دوليا (بعد فترة من احتلالها مقعد الصين الدائم، تم طردها وإعطاء مقعدها للصين الشعبية، وتوقف الاعتراف بها دوليا.. ولكن في ذات الوقت – مبدأ صين واحدة ونظامين مستقلين كان قائما ومُقر صينيا وكاتفاق مع الأمريكي منذ 1979، ولكن تعريف مساحة الأمن القومي والسيادة الدولية والإطار الخارجي وما يتصل به من تعديات وتجاوزات على وحدة الصين واستقلالها بهذه المساحة تبقى دوما عرضة للشد والجذب – والاستغلال من قبل القوى الإقليمية – اليابان مثالا – والأمريكي)

، ولكن كذلك حجم التداخل والاعتمادية الاقتصادية، وطبيعة تفكير مؤسسات صنع القرارا الاستراتيجي عند الأمريكي والصيني (الذي يحتاج لفترة زمنية تختمر فيها متواليات منظوماته التحديثية بالأخص في المعايير النوعية للقدرة القتالية التقليدية).. فكل هذا يجعل الطرفين أبعد ما يكونان عن استدعاء نزاع عسكري شامل

ولكن هذا لا يعني، أنه لا يمكن أن تتدهور الأزمة من قِبَل تايوان مستقبلا، كقراءة خاطئة لعمق وطبيعة الالتزام الأمريكي بتأمينها دفاعيا. ولو حصل هذا، فالصين يقينا ستتحرك عسكريا لحيازة تايوان، ولكن حينها كذلك – ستدعم أمريكا الأخيرة بوسائل دون التدحرج لأزمة نووية. قريبا مما حصل في أوكرانيا مع اختلاف في كم ونوعية الجدوى لتصليب الدفاع التايواني.

ما يحصل حاليا بعيد عن هذا، ولكن قد يؤدي لتقديرات خاطئة عن حكومة تايوان فيما يتعلق بعمق الدعم الأمريكي وكذلك بمستوى وصدقية التهديد العسكري الصيني.
مناورات الصين بالذخيرة الحية هي مجرد إشارة – حصلت بالمناسبة منذ عامين بعد زيارة مسئول للخارجية الأمريكية كذلك – في معرض سياسة تحذيرية
warning
تبادلية- لا تصل حتى لدرجة أن تكون قسرية
coercive
لأنه لا الطرف الأمريكي ولا الصيني يريد تحريك ملفات الأن..
ولعل هذا ما وراء تصريح رئيس هيئة الأركان المشتركة أنه لا نية عند الصين لتعدٍ عسكري وشيك.

في استفهام الاستراتيجية العسكرية الروسية: إشكال الفرضيات أم التطبيق؟

https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%81%d9%8a-%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d9%81%d9%87%d8%a7%d9%85-%d8%a7%d9%84%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a%d8%a9-%d8%a7%d9%84/

كما قال كلاوزفيتس قديما، “فإن أول وأعلى تقدير – والأكثر إحاطة – الذي ينبغي أن يصل له القائد السياسي والقائد العسكري يتعلق بطبيعة الحرب التي يريدان شنّها (بفحص مدى خدمتها للغرض السياسي منها)، كي لايخطئا في هذا، أو يحاولا تبديلها لشيء آخر مغاير لطبيعتها. هذا هو السؤال الأول والذي يسبق ماعداه في الاستراتيجية”.

وهي تدخل أسبوعها الرابع، تبقى الحملة العسكرية الروسية في أوكرانيا مصدر جملة من الإشكالات. روسيا اختارت مسار التصعيد الشامل عسكريا ضد أوكرانيا بنسق إحاطي من الأطراف واستهداف مبكر لكييف من الشمال على جانبي نهر دنيبرو. الهدف السياسي الواضح أنه محاولة لتغيير بنية النظام السياسي في أوكرانيا، وعلى الأقل تغيير سلوكه السياسي فيما يتعلق بقضيتين جوهريتين: منع التوجه غربا بالأخص الانضمام للناتو وبدرجة أخرى الاتحاد الأوروبي، وكذلك استيعاب معتبر للدونباس داخل الإطار السياسي والدستوري – بنسق فيدرالي – وكذلك ثقافيا واجتماعيا، وبالتأكيد الإقرار بتبعية القرم لروسيا.

المأزق الأكثر مباشرة، أن سلوكها العسكري في الأسبوع الأول ليس فقط قاد لجملة من الخسائر على المستوى العسكري ؛ بل والاستراتيجي. مهم تذكُّر أن الخط الاستراتيجي العام لموسكو بعد صحوتها في الألفية كان فعالا بشكل كبير في حماية أمانها الدفاعي في محيطها القريب
Near Abroad
، وتمثّل في تطوير البنية العسكرية (بالأخص مشروع التحديث العسكري الذي بدأ في 2008 بعد أداء تكتيكي متواضع في جورجيا)، وفي ذات الوقت – مسار يدمج ما بين الديبلوماسية الإكراهية والردع التقليدي (تهديد واستخدام محدود ورمزي للقوة العسكرية التقليدية مع قفزات عسكرية محسوبة كما في جورجيا والقرم) للتأثير على السلوك السياسي للناتو وأطرافه المحلية، وحرب معلوماتية وتموضع ديبلوماسي يهدف لتفكيك وحدة الناتو بما يشمل تعميق الخرق الحاصل به وتسهيل تحوّل أنظمة حكم في دوله لأنظمة (التيار اليميني المتشدد) تكرس العزلة الوطنية على حساب تمتين التحالف، وبقاء وتحسين وتوظيف الردع النووي لكفح مستوى التصعيد
De-escalation.

لكن طبيعة المأزق الاستراتيجي الحالي تتلخص في نقطتين:

أولا) محدوديات خيارات العمل العسكري التي كانت متاحة أمام الروسي ابتداء وتناولناها في مقال (تعقّب استراتيجي للأزمة الأوكرانية: مأزق ومحدودية خيار الحرب)، ليس من حيث قدرته العسكرية على إنفاذها، ولكن فاعلية هذه الخيارات في تحقيق الأثر الاستراتيجي والسياسي المنوط بها؛ فإن التعثر العسكري يزيد التورط الاستراتيجي الروسي إشكالا!
سواء: أ) احتلال الدونباس وتوسعة نطاقها الدفاعي والذي سيدفع أوكرانيا للناتو أكثر، أو ب) مزج ذلك بضربات عسكرية (جوية وصاروخية وكوماندوز عقابية) للضغط السياسي على نظام كييف وقد يعطي ذريعة للتصلب السياسي الذي يؤدي لتصعيد عسكري بثمنية عالية وتفاقم العزل الاقتصادي والدولي لروسيا،  ج) الحملة العسكرية الشاملة التي تقصد احتلال كييف وإسقاط نظامها وزرع نظام موالي) والذي ليس فقط سيورط الروسي في احتلال عالي التكلفة وتطوير حرب مقاومة ضدة، بل يقدم للناتو فرصة لإعادة الحشد السياسي والشعبي تقدِمة لتغيير بنيوي في تطويره كحلف دفاعي كموارد وتوظيف وعنوان مشروعية وتكريس تفكك وتشقق الناتو كان في مركزية الخيار الاستراتيجي الروسي طيلة العقدين الفائتين.  نعم – المنتوج الاستراتيجي يعتمد بالأساس على التقابلية بين طرفين الصراع كما أشرنا في مقال (خيارات روسيا والناتو)، والناتو قد يعجز عن انتهاز الفرصة لتطوير بنيته ووضعه في أوروبا بشكل يقلب طاولة الصراع لصالحه، ولكنه على الأقل – حتى اللحظة – نجح في عزل روسيا، وتطوير بنية وقدرة المقاومة المسلحة الأوكرانية لإدماء الروسي في هذه المرحلة وما قد يعقبها من احتلال سيتم جعله بثمنية عالية.

ثانيا) الخسائر هنا ليست تكتيكية بالأساس، ولكنها – حتى باعتبار خسارة روسيا للفضاء الشبكي والإعلامي والذي كان عنصر تميز في المسار الروسي السابق وما فيه من مبالغات تخصم من كفاءة الجيش الروسي– فالصورة الردعية لروسيا كقوة سياسية قادرة على المبادأة الحاسمة
 Aggressive Initiative
لتفعيل الأدة العسكرية الكفؤة – ضمن خيارات القوة الشاملة – قلّت كثيرا. وفوق هذا – تصاعد الضغط الاقتصادي الخانق،

التفسير الظاهري ليعض جوانب التعثر العسكري تكتيكيا سهل نسبيا، فالتمدد العسكري كان عبر وحدات متناثرة من الدروع بخطوط ضيقة ونمطية
Methodical
، أثّر غياب وحدات المشاة المساندة والدعم الجوي أو مضادات الطيران بشكل واقعي على أمانها
convoy security
، وهذا قاد لخسائر واسعة في المعدات والأفراد بضربات جوية وكمائن. هذا المشكل تفاقم بالطبع تبعا لتنامي القدرة الأوكرانية على هذا النمط بفعل طبيعة الدعم العسكري في المعدات والخبرة من الناتو كما سيأتي.
كذلك ظهرت مشكلة اللوجستيك (عدم شق واستدامة خطوط دعم معقولة بالأخص في الوقود)، وضعف للروح القتالية عند قطاع من الجنود.

لكن وإن كانت هذه تبدو مشكلات تكتيكية، فهي بالأساس انعكاس لمشكل عملياتي :

أولا) في تشكيل وتوظيف مسارات الفعل العسكري
force structure and employment.
لأن المشكلة التكتيكية تلك تشمل جلّ القوات المشاركة في الحملة. كذلك – غياب منطق الأسلحة المشتركة بالأساس هو مشكل عملياتي.

ثانيا)  بعد تفعيل جيد للقوة الجوية والصاروخية في استهداف الرادارات والدفاعات الجوية الأوكرانية أول يومين، حصل شبه كمون للقوة الجوية الروسية (حوالي 300 طائرة حواليْ أوكرانيا) وتقاصر عن استكمال تحقيق السيادة الجوية أو الدعم التكتيكي.

ثالثا) ثم مشكلة التعامل مع المدن ومسارات العمليات
lines of operations
، وهي من أهم بنود التصميم العملياتي المُفترض للحملة
Operational design
؛ ولكن عدم وضوح منطق التوظيف الاستراتيجي لها يجعل المشكلة أكثر تعقيدا.. محاولات اقتحامها واستهدافها جويا والتقدم البطيء حواليها لا يتناسق مع أي غرض عسكري (فضلا عن توظيفه استراتيجيا)، هل المقصود هو تجاوز المدن (عدا المخانق الاستراتيجية أو ذات قيمة كرمزية سياسية أو عزل أوكرانيا بحريا والوصلة البرية بين القرم والدونباس: كخاركيف وماريوبول وأوديسا) وصولا لكييف؟ أم الإحاطة بالمدن وحتى اقتحامها بغرض الإكراه السياسي؟ أم اقتحامها والسيطرة عليها تبعا لمخطط أوكرانيا بديلة؟ – في كل هذه الأحوال – من وجهة نظر تصميم وتوظيف القوات عملياتيا – فإنه يقتضي:
         1  تشكيلا أوسع من حيث القوات المسخرة للعملية. فالتقدير العددي يتراوح بين (80-160 ألف مقاتل تتراوح كثيرا نوعياتهم، ولكن الواضح أن هناك قدر لابأس به من قوات تجنيد غير محترفة)، وهذا أقل كثيرا مما تتطلبه هذه العملية بمنطق معادلة التكافؤ العسكري البحت بين قوات الهجوم والدفاع (نحكي عما لايقل عن 200 ألف مسلح أوكراني)، فإن وضعنا معايير أخرى مثل المفارقة بين النسق النظامي وغير النظامي الذي لجأ له الأوكراني دفاعيا وتعطي أفضلية للأخير، وأيضا الاحتياج لمهام حشدية وتحريكية وسيطة (سواء حصار المدن، أو اقتحامها، أو تأمين الأرداف والمخانق ومناطق الارتداد)، فالعدد أقل كثيرا مما هو مطلوب.
       2  تكريس مبدأ الحرب المشتركة كبنية وتوظيف وبحيث يكون التشكيل الأدنى قائما على كتيبة مدرعة مدعومة Augmented Battle Group – ABG
– كما ينص المذهب العسكري
Doctrine
 الروسي، في خطوط التمدد النظامي والالتحام المباشر، ولكن عندها قدرة على التفتت المنهجي دون فقدان السيطرة، للقيام بأدوار الانتشار واشتباكات المدن والتحكم في نقاط السيادة المدنية. 
      3 وحين يكون اقتحام المدن عاملا مركزيا في التصميم العملياتي فهذا يفرض التشبيك بدقة بين الكتائب المدرعة والضربات الجوية والصاروخية (بالأخص تحويلها للدعم التكتيكي أو التادخلي
Interdiction
 بضرب مصارد البناء والتحريك العسكري داخلها، أكثر منه الضرب العقابي والنفسي
moral bombing
، خصوصا في السياق الاستراتيجي الذي على الأقل يدرك الروسي مدى حساسيته لأي فاتورة خسائر مدنية كما يتضح من بعض قواعد الاشتباك المتحفظة خصوصا لقوات المشاة والأمن داخل المدن!
    لكن بوضوح، يظهر أن هناك قصورا في الفرضية الاستراتيجية التي على أساسها يتأسس التخطيط العملياتي.

بمعنى:
أ. لو الخيار الاستراتيجي يقتضي سرعة حيازة كييف لتحقيق هدف سياسي مرتبط بتغيير النظام (الهدف الذي أعلنه بوتين بخصوص تغيير بنية وتوجه النظام يشي بذلك)، فهذا كان يقتضي مسارا عملياتي مختلفا يتم تصحيح ما سبق ذكره، وفقط ينشغل بحيازة السيادة الجوية، وتكثيف المسار العسكري من الشمال، مع أو بدون حيازة بعض المناطق الحيوية في الجنوب وتأمين الدونباس دفاعيا.

ب. لو الخيار الاستراتيجي هو وسيط، بتوسعة النطاق الدفاعي للدونباس مع ضغط عسكري شامل، فهذا كذلك يقتضي ذات التطوير العملياتي العام، مع محاصرة المدن دون اقتحامها، مع مسارات دعم إنساني وانفتاح ديبلوماسي، وضبط مفرط لقواعد الاشتباك والضربات الجوية لتجنب أي خسائر مدنية، مع الاستعداد لطول مدة العمليات.

ج. لو الخيار الاستراتيجي هو فقط توسعة نطاق الدونباس دفاعيا، فهذا معناه التهيؤ الاستراتيجي والعسكري لأوكرانيا تلتحق بالناتو، وحينها يتم تفعيل أدوات أخرى ترتبط بتطوير الردع النووي، والتحرك على مستوى العقاب الاقتصادي والتكتل الدولي. ولكن الحقيقة، أن هذا أسوأ الخيارات لأنه يعني هدما للصيغة الردعية، وفي ذات الوقت تقديم ذريعة لخسارة أوكرانيا.

هذا لايعني أن الخيار الأول، والثاني ليس بهما معوقات استراتيجية -كما أشرنا، أهمها ليس فقط العقوبات الاقتصادية، ولكنه يعطي للخصم (الناتو) فرصة للحشد وتعديل بنيته الدفاعية وعنوانه السياسي وقابليته الاستراتيجي بشكل جذري وتجاوز كثير من مشكلاته السابقة في الخلاف الداخلي وفقدان الإرادة السياسية والشعبية خلف تطوره كمؤسسة حلف عسكري، والتي استغلها وفاقمتها الاستراتيجية الروسية خلال عقدين. ولكن نحكي هنا عن كيف تتدخل الاستراتيجية في هيكلة وتحوير بنية وتوظيف العمليات العسكرية.

والمأزق الأدق هنا هو تحليلي، في استفهام منطق التعثر العسكري وآثاره الاستراتيجية وكيف حدث؟ هل المشكل في مستوى الأهداف السياسية، أم الخيار الاستراتيجي، أم القدرة العملياتية في تحقيقه؟

وكما هو واضح، فإن الأهداف السياسية الخاصة باستدامة فائض الردع النووي والتقليدي وتحوير السلوك السياسي الأوكراني هي ممكنة استراتيجيا، سواء باستدامة الخيارات الاستراتيجية السابقة، مع إضافة الحشد العسكري مع خيارات الضغط الاقتصادي والاستيعاب السياسي والتكتل الدولي، وحتى الخيار القائم على توسعة الضغط العسكري الشامل دون دخول المدن أو كييف مع تغيير في بنية المسلك الإعلامي والديبلوماسي لروسيا لنمط أكثر استيعابا وحساسية للعنصر الأوكراني، وإن كان يقتضي التطوير العملياتي السابق ذكره لجعله ممكنا.

لكن اللغز هنا يقع في تفسير الخلل العملياتي الفادح، هل هو عالة على مشكل بنيوي عسكري، أم خلل في الفرضيات الاستراتيجية. حتى لو الأول، فالاستراتيجية عليها مسئولية بلاشك، لأنها  توصيل بين تلك القدرة العملياتية وأنماطها وما يترشح عنها من آثار استراتيجية تحقق الهدف السياسية.

لكن بالإضافة إلى اضطراب مسار التصميم العملياتي وعدم انسجامه مع الخيارات الاستراتيجية الرئيسة، فإذا كان مأزق القدرة العملياتية شاملا  وبالأخص -يخالف مستوى التكييف والكفاءة التي تقرره العقيدة القتالية والتجارب السابقة، فهو بيقين عالة على خلل في التكييف الاستراتيجي ابتداء. نعم، قد يحصل الاضطراب العسكري بسبب المفاجآت في بيئة العمليات التي تُدحض صوابية الفرضية الاستراتيجية المبدئية التي أسست لبنية وتوظيف المسار العملياتي – من حيث إمكانية تنفيذ الخيار عسكريا، هذا من طبيعة أي حرب..  ولكن حتى في هذه الحالة، فواجب الاستراتيجية أن تعيد تعديل مخروط الخيار الاستراتيجي (الصلة بين الأهداف، والخيارات، والأدوات).

نعم، هناك مشكلات بنيوية في الأداة العسكرية الروسية، وربما حتى السوفيتية قبلها، ونتاج أسباب أعقد في طبيعة النظام السياسي، والبنية الاجتماعية والتقنية للجيش والدولة عموما، وما يُعرف بالثقافة الاستراتيجية (أثر المركبات والتحيزات الثقافية على بنية القابليتين الاستراتيجية والعسكرية).. مشكلات: كالمركزية المفرض، والضعف الأصيل في المبادأة التكتيكية وحرب الأسلحة المشتركة والقيادة بالمهام، والتراجع التقني-اجتماعي في بناء وتوظيف منظومات التسليح، واللوجستيك. ولعل كتاب
Armies of the Sand
من أوسع الدراسات في هذا الشأن، ولكن بالأخص بعد اهتراء الممارسة التكتيكية في حملة جورجيا 2008، قام الروسي بما أشرنا بمشروع واسع للإصلاح العسكري في كل مفردات القابلية القتالية (عقائد، ومنظومات قيادة وسيطرة وحرب مشتركة، وتقنيات). ونعم، هناك شواهد على تركيز على مساحات الردع النووي، والتقنيات، وبقاء بعض المشكلات الهيكلية قائمة. ولكن كما في أوكرانيا 2014، وسوريا، والعديد من العروض التدريبية ومشاريع الحرب، فهناك تطور كبير في بنية والقدرة التوظيفية للأداة العسكرية، بشكل يناقض بفجاجة الأداء العسكري في الأسابيع الثلاث الماضية.

بل أوضح من هذا، ماحصل يخالف المذهب العسكري الروسي، وال
Order of Battle
 في الحرب المحدودة. في التصور الاستراتيجي الروسي كما نصت وثائق متعددة، هناك مستويات للتصعيد العسكري ضمن المخروط الاستراتيجي؛ بدءا من نزاع عسكري دون الحرب، وحرب محلية، وحرب إقليمية (قد يتم توظيف السلاح النووي التكتيكي ردا على التقدير الروسي للفجوة العسكرية التقليدية لصالح الناتو والخشية من ضربات عالية الدقة على مراكزه الحيوية السياسية والعسكرية
Comprehensive high precise strikes
، ولكن الاستعداد للرد النووي الاستراتيجي في مواجهة نزوع الناتو لهذا الخيار تبعا لمذهبه العسكري بالتالي)، وحرب شاملة نووية. وعلى مستوى الحرب المحدودة، فهي كتكييف عملياتي وقواتي مبدئي قائمة بالأساس على حرب عالية القوة والتشكيلات المشتركة، ولكن الواضح أن عملية أوكرانيا تقع روسيا تحت عنوان (العملية مادون الحرب)، وهذا التفسير الوحيد الذي يفك اللغز السابق: (لماذا تحركت روسيا عملياتيا – بغض النظر عن مأزق الخيارات الاستراتيجية في توظيف الأداة العسكرية – بشكل أقل كثيرا كما وكفاءة مما هو مطلوب فضلا عن تفسيخ مجمل ومنطق التشكيل التكتيكي والعملياتي المُقرر مذهبيا).

المسألة ليست أن هذا ما أعلنه بوتين، أنها (عملية أمنية) وليست حربا، أو أن معظم القيادات التكتيكية لم تعرف بأنهم مقبلون على حرب إلا ليلتها!، وبقيت معظم القوات من الجنود وضباط الصف تتخيل أنها في تدريب أو عملية حفظ سلام! وهذا أثر بالتالي على انخفاض حاد في روحها القتالية في الأسبوع الأول كرد فعل للدفاع الشرس من الأوكراني. ولكن للخلط الشديد في تكييف هذه الحرب حين يربط بين (عملية أمنية) وتشكيل وأداء عسكري مهتريء، ونزع سلاح أوكرانيا والحيازة السيادية عليها (كما يقتضي مطلب محاكمة المتورطين في استهداف الروس ونزع النازية) فضلا عن ضمان عدم التوجه للناتو. هذا الخلط لايأتي إلا من فرضة قللت كثيرا من قدرة الأوكران على الفعل العسكري، وتلمس الناتو في هذا المسار الدفاعي المُربك والمُورّط للروسي في التزام عسكري عالي الثمنية – في طريق الوصول لكييف وبعد السيطرة عليها، حتى إذا لم يقم بالتطوير الممكن في بنيته ووظيفته. وهنا نستحضر ما استفتحنا به المقال من قول كلاوزفيتس حول أن تعريف طبيعة الحرب وتوظيفها لخدمة الغرض السياسي هو أساس الاستراتيجية.

والتناقض الشديد بين مايقصده الروسي سياسيا وخياره الاستراتيجي وتنزيله في مفردات الوجه العملياتي والتكتيكي للحرب، ظهر نقيضه في وضع الناتو. نعم هو حتى الآن لم يقم بالتطوير الممكن في بنيته ووظيفته كحلف عسكري استغلالا لما حصل، ولكنه بتنى الدعم النوعي للمقاومة الأوكرانية لمسار من الدفاع المرن والمرتكز على نمط غير نظامي وقليل الحدة
low intensity operations
، وعلى هذا كان دعمها بتقوية النشاط الدفاعي والإدمائي للمجاميع الصغيرة بالأسلحة المضادة للطائرات والصواريخ والدروع، والحرب الالكترونية وتطوير دائرة القيادة والسيطرة والاتصال، وليس مثلا الأسلحة الثقيلة والطائرات التي تصلح لنمط عسكري مختلف سيتفوق فيه الروسي قطعا، فضلا عن سهولة ومعرفة نقل المعرفة والخبرة الفنية في النمط الأول.

الروسي بلاشك قام بتحسينات شديدة بدءا من الأسبوع الثاني للحرب على مستويات التكتيك والعمليات، وهو يتقدم على الأرض، وسيحوز كييف وإن بدرجة من المشقة وتراكم الخسارة العسكرية والإنسانية وفي صورة الردع، وهذه التحسينات هي ليس بناء تجديديا ولكن عودة لخطه التقليدي الذي أزاحه عنه فرضيات استراتيجية خاطئة في طبيعة المواجهة التي هو مقبل عليها. ولكنها لن تزيح المشكلات الاستراتيجية في التوظيف والتداعليات الاستراتيجية للحملة بالأخص بعد سقوط كييف. هذه المشكلات جعلت فرصة تميزه الاستراتيجي الممكن، والأصعب، مرتهنة بمدى الخلل الممكن وتهالك الإرادة السياسية للخصم (الناتو)، بأكثر منه قدرة ذاتية على رسم مسار الحرب والسيطرة على مفاصلها.


متابعة للأزمة الأوكرانية – خيارات روسيا والناتو ومنطق التدافع الاستراتيجي

https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d9%85%d8%aa%d8%a7%d8%a8%d8%b9%d8%a9-%d9%84%d9%84%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d9%88%d9%83%d8%b1%d8%a7%d9%86%d9%8a%d8%a9/

في متابعة لمسار الأزمة الأوكرانية، ومع تصاعد الاجتياح العسكري الروسي، يهم التنبيه على قاعدتين تفسيريتين قبل أن ندلف لطبيعة الخيارات أمام الروسي والناتو والتطورات المحتملة في مسار الأزمة.

أولا) الاستراتيجية مُعقدة عموما – وبالأخص في هذا الأزمة. نعم – قد يسهل علينا إدراك خلفية الصراع وبدرجة أصعب – مُحددات الخيارات الاستراتيجية أمام الأطراف، ولكن يصعب بشكل كبير التنبؤ الحاسم بأي خيار سيتم اتباعه. وكما أسلفنا في مقال سابق، فإن المنطق الذي يحكم بوتين روسيا هو التعامل مع أوكرانيا كجزء من أزمة أوسع لاستعادة وضع الأمان الجيواستراتيجي لروسيا والذي حصلت تعديات كبيرة فيه بعد انتهاء الحرب الباردة. وبالأخص – المفارقة بين الصعود السياسي ومحاولة ابتعاث قوة الحركة الإقليمية والدولية لروسيا ، وبين تفاقم أزمة توسع الناتو، وضرب قاعدة النظام الدولي القائم على اعتبارات العدالة وهيمنة القانون الدولي (حتى مع تحيزاته ومساحات قصوره الفجة المعروفة).
بمعنى – تظهر الأزمة على المسرح الدولي ليس فقط بتجاوز منطق العدالة والقانون والتعدي على مصالح وأمان الأطراف المقابلة، ولكن بصعود قوة مضادة من حيث الإرادة والقدرة ترى في هذا التعدي أزمة وتتحرك لصدها.

ولهذا فبعد تبني روسيا لمنطق صراع وتطويرها لقدرة على المضي فيه، كان الخيار الاستراتيجي المُعتمد على الديبلوماسية القسرية والردع التقليدي (بوسائل هجينة) لتطويع السلوك السياسي لأوكرانيا والناتو بشكل أوسع فيما يتعلق بدفن خطة توسع الناتو لأوكرانيا، وكذا لدول أخرى وبالأخص جورجيا ومولدوفا والبوسنة، وكذا دفعه للتراجع في البنية التحتية للصواريخ الدفاعية في المحيط القريب لروسيا بما لها من قدرة لضرب الصاروخ الاستراتيجية الروسية ومعادلة الردع النووي بالتبعية أو تحويرها لأنساق صواريخ بالستية، ثم الوصول لحل بخصوص دانباس بأبعاده الشعبية والسياسية والعسكرية.

ولكن كما أسلفنا سابقا، فإن خطورة هذا الخيار هو احتمالية وضرورة تفعيل الأداة العسكرية إذا فشلت عملية التطويع تلك، وبالأخص – صعوبة تبريد الأزمة دون تحقيق المطلوب. والأخطر – أن كل الخيارات العسكرية – وإن كانت قابلة للتنفيذ – بما فيها حتى الغزو الشامل واحتلال كييف – إلا أن المأزق بها ليس فقط كيف أن تُترجم لنهايات سياسية مقبولة (وهذا مأزق الاستراتيجية بالأخص)، بل ما قد ينتج عن العمليات العسكرية من بيئة استراتيجية وأمنية لعوامل مختلفة هي غير مُحابية لروسيا.

ثانيا) الاستراتيجية تدافعية،  وهذا له أكثر من انعكاس. فإن بنيتها الأساسية ومسارها يعتمد على مبادرات وردود فعل الخصوم، وهذا ليس فقط يجعل من البيئة الاستراتيجية وتقديرات ماسيحصل تاليا أو كمسار أبعد شديد الصعوبة، بل كذلك يجعل مركز ثقل الإجادة الاستراتيجية ليس الخطة المُحكمة؛ إذ أي خطة للحرب – كما ذكر مولتكة الأكبر رئيس أركان حرب بروسيا ثم ألمانيا في حروب التوحيد – لا تحتمل ثلث الحرب أو حتى أول رصاصة فيها. ولكن هناك جملة من الأفكار لمسارات استراتيجية ممكنة، ويتم التحرك بينها لتطويع المسارات العسكرية والديبلوماسية والتلاقح بينها بما قد يقود لأثر استراتيجي على إرادة الخصم السياسية وطبيعة بيئة مابعد الحرب، ثم إعادة تدوير وتعديل هذه المعادلة على حسب مبادرات وردود فعل الخصوم بشكل دوري مستمر. وهنا يصبح مايعتمد عليه الإنجاز الاستراتيجي ليس الخطة أو حتى الأفكارالمؤسسة لها، ولكن حساسية القائد الاستراتيجي للمتغيرات وقابليته في المقايسة المستمرة بين الأدوات (بالأخص العسكرية) ومسارات تفعيلها مع الأدوات الأخرى وبين الآثار والنتائج مع التحفز الشديد لردات فعل الخصم.

ومن الممكن القول، أن بوتين عنده درجة ما من الحساسية تلك، وهذا مثلا يتضح في مسارات سابقة سواء في جورجيا – بالتصعيد المفاجيء ثم التوقف المحسوب على خط الأزمة بعد توصيل رسالة ردعية وتوسعة مساحة الأمان الدفاعي، وكذا في ضم القرم ولكن التوقف أمام التدخل المباشر في دونباس لثماني سنوات. ومثلا في حواره المتلفز مع قياداته الأمنية، وبالأخص إلحاحه في تقويم مايصدر من فم رئيس استخباراته – بما يُظهر قاعدة جوهرية عنده: هناك تصعيدات محسوبة ومتدرجة بالمعنى السياسي والعسكري، وجزء منها قائم على الآثار وردود فعل الخصم (الناتو بشكل أساس) .. (رئيس المخابرات: عندي استعداد لضم الدونباس للاتحاد الفيدرالي الروسي – بوتين: ليس ضم – ضحكة، تقصد فقط اعتراف باستقلال. – نعم اعتراف باستقلال. بوتين: عندك استعداد مستقبلا أم تقصد الآن. -–الآن)

ولكن في ذات الوقت، فخطوة تفعيل مساحات الاشتباك العسكري لها مخاطر واسعة وأكثرها هو في بيئة مابعد الحرب، وأن ميدان التفاعل الاستراتيجي هو مفتوح لجوانب الإجادة والقصور لكل الأطراف، وأن الأصل في السلوك الاستراتيجي هو القصور لأسباب متعددة، ولهذا فكما قال أستاذي كولن جراي في أحد كتبه: غالبا من يتفوق هو أقل المتصارعين قصورا وليس أكثرهم تميزا، وفي قول آخر (النجاح الاستراتيجي هو ليس بإجادة فعل كل شيء، ولكن الأمور الكبيرة التي تؤثر على مجمل المسار). ونعم – فالإجادة الاستراتيجية (في التوصيل بين الأدوات العسكرية وغيرها والنتيجة السياسية) هي المظنة الراجحة للانتصار، ولكنها لا تقود له بشكل حتمي. لماذا؟ لأنها قد تتقاصر عما يقوم به الخصم، وللتغيرات المفاجئة في البيئة الاستراتيجية التي تفتح وتقفل فرصا لهذا أو تُنشيء معوقات لهذا الطرف أو ذاك.

وبالاستفادة مما سبق: تعقيد الاستراتيجية والتعامل مع أوكرانيا كجزء من سياق أزمة أوسع، والتركيز على خيار الديبلوماسية الإكراهية والردع التقليدي ولكن اقتضاء كليهما لقفزات عسكرية محسوبة، وكذلك اعتماد الاستراتيجية كبنية ومسار ونتائج على مبدأ التفاعل، ووجود بعض الحساسية  الاستراتيجية لبوتين، ولكن في ذات الوقت ليست ضمانة على تفوقه في كل محطة أو مجمل المسار، فيمكننا فهم أن خيارات روسيا والناتو يُمكن أن تكون على هذا النحو.

خيارات روسيا في هذا التصعيد العسكري: 

من الواضح سواء من خطاب بوتين الذي ألح بوضوح على إخصاء القدرة العسكرية لأوكرانيا، ونزع (نازيتها)
Denazification
 أي عدائيتها القومية للروس، وحتى محاكمة الأفراد الذي لهم دور في ما وصفه اعتداء وحرب عرقية، فضلا عن خطوط العمليات من الشرق بالأساس والشمال والوسط واتساع الضربات لكييف ومدن كبرى، أننا أمام غزو شامل. ولكن مهم الانتباه لما ذكرناه في النقطتين المؤسستين: هذا جزء من سياق إدارة أزمة أوسع من أوكرانيا وأن منطق الديبلوماسية الإكراهية والتصعيد المرحلي عسكريا وسياسيا هو الحاكم، وكذا تفاعلية الاستراتيجية بحيث أن الروسي سيتحرك في مخروط الأزمة كتصعيد وخيارات تبعا لردود فعل الناتو وبدرجة أقل البيئة الأوكرانية. ومن هنا – نرى أمامه ثلاثة خيارات أساسية:

أ. الاجتياح العسكري للدونباس مع ضربات عقابية جوية وصاروخية، وبغرض تنعيم الأداة العسكرية النظامية المواجهة.  وهذا سيقصد من ناحية أوكرانيا (نظامها الحالي) للوصول لاتفاق بوساطة دولية لأجل حل شامل يمنع دخول أوكرانيا الناتو، وحينها سيمكن إدماج الدنباس بمنطق دستوري معطل لأي تحول جيوسياسي، فضلا عن الاستيعاب العرقي وتفعيل شراكة سياسية ودفاعية (بدرجات مختلفة) واقتصادية مع أوكرانيا. ولكن تبني هذا الخيار يعتمد بشكل كبير على رد فعل الناتو والوضع الأوكراني الداخلي كما أسلفت. نعم ستكون هناك مبادرة بحزمة عقوبات ولكن الأهم – هل سيتحرك الأوروبيون والأمريكي في مسار فك الأزمة لتصل للنهاية المطلوبة – ولو بقدر معقول – روسيا.

ب. إذا تمنع الأوروبيون وأوكرانيا عما سبق – فأمام الروسي إما ضم الدونباس وتوسيع نطاقها الدفاعي، ولكنه سيكون أمام أوكرانيا تنضم للناتو، وهذا سيُعيد منطق الحشد العسكري التقليدي بشكل قريب مما كان في الحرب الباردة، بما له من تكلفة اقتصادية وسياسية داخلية كبيرة، بالأخص مع تفاقم العقوبات. أو – بشكل أرجح:

ج. توسعة الاجتياح العسكري للدخول في كييف، وتغيير النظام السياسي، أو توجهه بشكل جذري بحيث أن يكون تابعا، ومعاهدة ثنائية وبقاء قوات عسكرية روسية كحامية. في حال تقبل الوضع الأوكراني لهذا، فهذا سيقلل من متطلب الحشد العسكري في هذه الساحة، ولكنه بالتأكيد سيُفاقم منطق التصعيد العسكري والاقتصادي والسياسي للناتو ضده في مجمل الساحة الأوروبية.

ويزداد المأزق هنا في مسألة توسعة الاجتياح لكييف، أنه سيستدعي بدرجة كبيرة لمنطق الاحتلال الكامل، وهذا ليس فقط سيفرض الحشد العسكري، ولكنه سيُعرّض الجيش الروسي لحرب غير نظامية تبعا لتصاعد العداء والفاعلية ضده من الشعب الأوكراني، ويُضاف على ذلك دور الناتو إذا أراد استغلال هذه المساحة

أما فيما يتعلق بخيارات الناتو:

فلابد أن ندرك بوضوح، أن هناك أزمة كبيرة في الناتو، ليس فقط كخيار ومسار ولكن كبنية في عالم ما بعد الحرب الباردة. نعم، في حال روسيا ضعيفة كما كان في التسعينات، فهناك مُسوّغ – استراتيجي وليس بالضرورة عدالي أو أخلاقي – للتوسع في محيطها القريب وقضم مواطن نفوذها، ولكن مع تراجع بنية الناتو ذاتها (مايُعرف بظاهرة تقليل العسكري
Demilitarization

 لشعوبه تبعا لانقضاء الحرب الباردة وعدم القدرة الاستراتيجية والأخلاقية على استبدالها بما كان يُطلق عليه بلير الحرب لأجل
النظام والخير
Force for Good
 كما حصل في حروب العراق وأفغانستان وليبيا ) وكذلك صعود روسيا بوتين، فيكون من الحماقة الاستمرار بل التوسع في النهج العدائي والقاضم كما حصل. ويزيد عليه، التضعضع أمام الروسي في محطتي جورجيا ثم القرم. وفي الأزمة الحالية، فكذلك – قرأ الناتو المسار بشكل غير دقيق حتى الآن، بالإلحاح أن الروسي عنده نية أساسية في الغزو، ولكن التمنع عن الاستجابة الديبلوماسية لمخاوفه الأمنية الأساسية في أوكرانيا مع تصعيد خطابي، وهذا جعل نذارة السوء واقعا بالتبعية!، وعدم القيام بخطوات مضادة لكسر مسار الأزمة التصعيدي من ناحية أخرى.

نعم، قد يُدرك الناتو أن خطوة اجتياح أوكرانيا عسكريا قد تُصبح توريطا لروسيا، ولكن المُضي في خيار ما قبل الهاوية الذي يتبعه بوتين، حتى بافتراض نجاح الناتو في الاستفادة منه، سيكون بثمنية عالية تقتضي تحويرا عسكريا وسياسيا بنيويا في تمظهر وجوده الأوروبي، فضلا عن الثمنية البشرية والاستراتيجية في خسارة أوكرانيا، وهذا كان يُمكن تجنبه.

وفي الوضع الحالي، فيبقى أمام الناتو ثلاثة خيارات بالتفاعل مع ما للروسي:

أ.  العقوبات والتدخل الديبلوماسي لحل الأزمة.. وهنا الروسي سيكتفي بمساره الأول، ونعم تنفك أزمة أوكرانيا، ولكن سيُعيد بشكل أو آخرتفاقم وضع روسيا كقوة مهيمنة في محيطها. هذا ليس بالضرورة سلبيا للوضع الأمني الأوروبي، ولكنه تغيير المعادلة القائمة منذ أول التسعينات.

ب. خيار مدافعة وسيط، بحيث يفك الأزمة ولكن بحيث تنتهي لوضع مُحابي. هنا، سيتحرك الناتو باستغلال الأزمة كغطاء دولي لتوسعة إطاره وبنيته: ضم جورجيا ومولدوفا والبوسنة بشكل عاجل، تفاقم العقوبات الاقتصادية وغلق خط الغاز الشمالي بالأخص، وحشد قوات في بولندا ودول البلطيق، ثم السعي الجاد لخيار ديبلوماسي أو الاكتفاء باستعادة منطق الحرب الباردة، مع توسعة خيار العمليات غير النظامية في أوكرانيا. وهذا – بالفعل سيجعل موقف روسيا صعبا إجمالا في المحيط الأوروبي، وكذا في أوكرانيا، وهذا سيقود لردع عكسي على المستوى الاستراتيجي (إدراك روسيا أن خيار الديبلوماسية الإكراهية المصاحب لقفزات تصعيدية هو ضار استراتيجيا).

ج.  خيار تصعيدي لاستعادة مسار الحرب الباردة بكل مساحاتها الخاصة بالحشد التقليدي الشامل، والتصعيد في معادلة الردع النووي والاحتواء السياسي والعسكري والاقتصادي ضد الروسي دوليا. هذا بالطبع سيقود لنتائج حاسمة، ولكنه يقتضي بشكل كبير استغلال الأزمة في صنع عنوان سياسي وتجييشي لدول وشعوب الناتو لتعود ثلاثين عاما للوراء، والاستعداد للتعامل مع المشكلات المعقدة بالمعنى السياسي والاقتصادي والشعبي  الداخلي.

في قول لنابليون، (القائد العسكري إما تصنعه ممارسة الحرب، أو استلهام قدر من الخبرة من قراءة التاريخ). وكذلك، فإن جزء معتبر من الفن الاستراتيجي يتم بناؤه من خلال الممارسة، أو قراءة التاريخ بشكل نقدي – كما ذكر كلاوزفيتس، بما في ذلك الواقع المعاصر. ومن هنا، مع فداحة الثمن الإنساني لأي صراع وحرب، بما في ذلك ما يحصل الآن في أوكرانيا، فإن فيها جملة مفتوحة من الدروس التي تقدح الذهن الاستراتيجي، وهذا ما تحتاجه أوطاننا في مسارات الصراع التي تخوضها، وليس فقط فيما يتعلق بتعاملها مع الصراع الدولي الحالي، بشرط التفاعل المستمر والتمحيصي بين الفكرة الاستراتيجية ومسارات الحوادث، دون استسهال للقفز للنتائج، والكفر بذهنية اليقين، وتقدير قيمة الاستراتيجية في ضبط مسارات الصراع لنهاياته بشكل أعقد كثيرا مما تقود إليه القوة المفرطة والحسم العسكري.


مقال- تعقّب استراتيجي للأزمة الروسية الأوكرانية: مأزق ومحدودية خيار الحرب

https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d8%aa%d8%b9%d9%82%d9%91%d8%a8-%d8%a7%d8%b3%d8%aa%d8%b1%d8%a7%d8%aa%d9%8a%d8%ac%d9%8a-%d9%84%d9%84%d8%a3%d8%b2%d9%85%d8%a9-%d8%a7%d9%84%d8%b1/

ليست قيمة النظرية الاستراتيجية أن تهبنا بلورة سحرية قادرة على التنبؤ بحسم حول مسارات تدافع الحوادث وتجليات الصراع ومآلاته بالتبعية، ولكن – كما أشار قديما كلاوزفيتس- قيمتها في تنظيم عقل الاستراتيجي ليستوعب ظاهرة الصراع والحرب بشكل أعمق وأدقّ، ويُجيد طرح الأسئلة الرئيسة ويُقدّم عرائض مناسبة للخيارات ومناسبتها وشروطها، والأهم امتلاك حس العيش في بيئة الغموض والخطر مع بقاء ملكاته الإدراكية والنفسية لقراءة ومواجهة التغيرات والاستفادة من الفرص حاضرة. وهذا لسبب جوهري. أن الأطراف الفاعلة في كل صراع ليست منقادة لمنطق استراتيجي مُحدد يسهل التنبؤ بخياراته تبعا لمُفرداته، ولكن لتحيزات وتقديرات – وفي الأغلب سوء تقديرات، وتدافعات وردود أفعال أكثر من مبادرات واعية. وهنا تقف أمامنا أزمة أوكرانيا درسا في الفقه الاستراتيجي ماثلا.

بالنظر للأزمة المتصاعدة في أوكرانيا، وحالة الهوس في الفضاء الإعلامي والسياسي الدولي المصاحبة، ودراما التفصيلات الخاصة بسحب الرعايا والسفارات والاستنفار في الدعم السياسي والعسكري ورمزياته، فكثيرا ما  تضيع منا الأسئلة الرئيسة وفهم الصورة الأوسع بدرجة مُدقِّقة يمكننا على أساسها ليست الإجابة القاطعة على هل ستشعل روسيا الحرب أم لا، ولكن فهم مأزق خياراتها وشروط كل الخيار والتقدير الترجيحي دون قطع.

لو نبحث عن خلاصة تقديرية مبدئية لتُريح بال الباحث عن إجابات سريعة لأزمات شديدة التعقيد في خلفياتها ومساراتها فضلا عن خياراتها ونتائجها، فالتصعيد الروسي على حدود أوكرانيا، يقع في خانة الديبلوماسية الإكراهية
Coercive Diplomacy
– أي توظيف محدود أو رمزي للقوة العسكرية لإجبار الخصم على تغيير سلوكه السياسي، والردع التقليدي
Conventional Deterrence
 أي فقط التهديد بالقوة المسلحة.. أكثر منه نية أصيلة في الهجوم العسكري. ولكن – كاحتمال مُخفف – قد يتورط في درجة محدودة منه (توسعة سيطرة الفصيل الموالي على دونباس ونهايات سياسية مختلفة)..

ولاستيعاب هذه الخلاصة المبدئية، نحتاج لمقاربة أوسع لخلفيات الصراع والخيارات الاستراتيجية المتبعة والمُمكنة، ومقايستها مع تحيزات الروسي ومنطقه.

خلفيات الصراع والخيارات الاستراتيجية المُتَّبعة:

الأزمة الحالية هي ضمن سياق أزمة استراتيجية أوسع بعد تفتت الاتحاد السوفيتي، ووراثة روسيا لعنوانها الدولي وجزء كبير من ترسانتها النووية (الجزء الموجود بأوكرانيا تم التخلص منه في أوائل التسعينات تحت إعلان بودابست الذي تعهّد بحماية أمنها ووحدتها). وفي عالم القوة الواحدة الأمريكية قضت روسيا فترة التسعينات في حال فوضى هائلة بالمعنى السياسي والاقتصادي الداخلي وكذلك في محاولة ترتيب تصور جيوسياسي مستجد. وعلى الأقل، ظهرت فكرة الحفاظ على درجة من الهيمنة والأمان الدفاعي فيما يُسمّى بالخارج القريب
Near Abroad
(بالأخص الجمهوريات التي انفصلت بعد انهيار الاتحاد السوفيتي) بما يقتضي عدم وجود قوات الناتو أو منصات دفاعه الجوي بها، بالتوافق مع بناء علاقات إيجابية بالمجتمع الدولي والأوروبي ضمن صياغات تقلل من استفراد الأمريكي بالشأن الدولي.

ومع أزمة كوسوفو 1999 – التي تحرك بها الناتو بمعزل عن مجلس الأمن، وكذا العراق، كان هذا استفاقة لتوهم إمكانية الحفاظ على أعراف دولية حاكمة في مقابل انتهازية القوة الكبرى ولعبها بالقانون الدولي، وتوافق هذا مع صعود بوتين ليُقدّم استعادة للمجد السوفيتي مُتفصلا عن مساحاته العقائدية وبالتأكيد مع تقلص شديد في جوانب الموارد والطموح الدولي. هنا روسيا الجديدة تطمح لتعميق الهيمنة القريبة، مع أمان دفاعي، ودور قوي على الساحة الدولية يضمن مصالحها الاقتصادية والعسكرية.

وبالرغم من علاقات إيجابية بدأت مع الناتو في أول الألفية، إلا أن هناك تطورات مثّلت اعتداءات جوهرية على مجال الدفاع الحيوي لروسيا والصيغة التي تم الاتفاق عليها مع الأمريكي والناتو عند تفتت الاتحاد السوفيتي:  الثورات الملونة بالأخص في جورجيا 2003 ثم أوكرانيا 2004، وتاليا في قيرغزستان، وبدعم غربي واضح، لقلب أنظمة موالية لروسيا والإتيان بأنظمة مقتنعة بالتوجه غربا، فضلا عن انضمام دول البلطيق 2004 – مع قيمتها الاستراتيجية وإرثها التاريخي في دائرة نفوذ السوفييت، للناتو، فضلا عن تطوير منظومات دفاع جوي يرى الروسي أنها قادرة – بتعديلات تقنية مُمكنة – لاستهداف صواريخها الاستراتيجية (النووية)، وهذا يهدم قاعدة الردع المزدوج التي تسيدت الحرب الباردة ومابعدها (يُحرّم بناء دفاع جوي يُجهض القدرة الاستراتيجية للمُقابل، اعتمادا على حتمية التدمير المتبادل كمنطق ردعي).

ومن هنا ندرك السياق الذي ظهرت فيه أزمة أوكرانيا. بعد مظاهرات الميدان الأوروبي التي أسقطت حليف روسيا (يانكوفيتش) الذي كبح بشكل ما التوجه غربا والانخراط بالناتو، وحافظ على مصالح روسيا الأساسية وأهمها مثلا العزم على تجديد قاعدتها في البحر الأسود والقابعة في شبه القرم، وكذا قانون اللغات الذي يعتبر الروسية لغة رسمية ضمن سياسة الاستيعاب الثقافي للتنوع العرقي. وخشية من التحولات المقبلة واستغلالا للفوضى السياسية والضعف الدفاعي المصاحب، سارعت روسيا لاحتلال شبه جزيرة القرم بدعم محلي، وضمها، وهذا لقيمتها الاستراتيجية وانعزالها بدرجة أو أخرى وظيفيا وجغرافيا عن أوكرانيا.

ولكن بخصوص شرق أوكرانيا (دونباس) والتي بها تواجد سكاني روسي معتبر، كان الأمر مختلفا. فبالرغم من تصاعد مظاهرات مضادة في تلك المناطق كرد فعل على مظاهرات الميدان الأوروبي وردا على السياسة السلبية تجاه الأقلية الروسية، حافظت روسيا على دعمها اللوجستي والتنظيمي والمادي للحركات الانفصالية في كل من دونتيسك ولوهانسك والتي دفعت لاستفتاء وإعلان حكم ذاتي في كل منهما عن أوكرانيا. وبالرغم من رغبة هذه الحركات الانضمام لروسيا اقتداء بالقرم، إلا أن روسيا تمنعت بحسم، وفقا لتصور أن بقاء هذه الكتل البشرية والسياسية ضمن أوكرانيا من شأنه أن يمارس دورا ضاغطا في وجه التوجه غربا، وتبقى ورقة أساسية للمقايضة والابتزاز.

وحين تماسك نظام الحكم الأوكراني، وبدأت العمليات العسكرية (ضد الإرهابيين) كما كان اسمها في أبريل 2014 لاستعادة السيطرة على دونباس، تقدمت القوات الأوكرانية في معارك يغلب عليها طابع اشتباكات المدن بين تشكيلات غير احترافية مع وجود كثيف للقصف المدفعي كعنصر أساس في تليين الدفاعات وحيازة المواقع بثمنية عالية. وشهدت العمليات تفعيلا أوكرانيا لطائرات مسيرة تركية ولكن دون بالضرورة أن تقود لحسما تكتيكيا، وبعد دور ضربات سلاح الجو الأوكراني خصوصا دوره الحاسم في السيطرة على مطار دونتيست، تراجع بعد توفر مضادات الطائرات المحمولة والصاروخية عند الانفصاليين لاحقا والتي أسفرت عن واقعة إسقاط الطائرة الماليزية. ومع تدهور الوضع العسكري الخاص بالانفصاليين، سارعت روسيا بزيادة الدعم العسكري في أغسطس كمدرعات، وكتائب نظامية ذات قدرة احترافية جيدة ولكن تحت عنوان شعبي وتطوعي (التي وصلت تقديراتها لألف  جندي).

وبالفعل، توقف الزحف الأوكراني، وتيبست خطوط الاشتباك بالجبهة، وأعقب ذلك اتفاقية منسك الأولى التي حملت أفكارا بمنطقة عازلة تحت إشراف دولي وإزاحة خلفية للأسلحة الثقيلة، وتعهدات بتحسين الإدماج السياسي واللغوي للدونباس. ومع استمرار الاشتباكات أعقب ذلك اتفاقية منسك الثانية بتأكيدات أكثر. ولكن لم تبرد الجبهة بشكل كامل طيلة السنين الماضية أو يتصاعد القتال لوتيرة عالية كذلك.

وبالرغم من إحباط الانفصاليين من الخيار الروسي الذي رفض مسألة الانضمام أو تصعيد التدخل العسكري كما في جورجيا ثم القرم، بقي الروسي مُقتنعا بأولوية خيار تحسين شروط بقاء الدونباس في أوكرانيا، كمحاولة للضغط عليها من الداخل لكبح الاتجاه غربا، وفي ذات الوقت استمرار بقية العناصر الهجينة لاستراتيجيته الضاغطة سواء بالملف الاقتصادي (الغاز والتعريفات الجمركية) والهجمات السيبرية والمعلوماتية (الدعايات المضادة والتحريفية للتأثير في مواقف الرأي العام والقيادة السياسية المستهدفة) وتطوير الدعم التنظيمي والعسكري للحركة الانفصالية. وهذه الخيارات كانت عنوان تعامله في الفضاء الأوروبي عموما، بالإضافة للعودة التذكيرية أحيانا لمنطق الردع النووي.

وعلى عكس ما تخيّل المتحمسون لاصطلاح (الحرب الهجينة)
Hybrid War
، فإن تفعيل الأدوات تلك بشكل متكامل ليس مستجدا تاريخيا، ولكن العبرة هي في المسار الاستراتيجي القاصد لموضعتها في خيار دون الحرب ولكن بغرض تغيير السلوك السياسي عبر الديبلوماسية الإكراهية والنشاط الاختراقي لمنظومة القرار. المأزق أمام الروسي، أن كثيرا من آثار هذه العناصر مثل الهجمات السيبرية والعمليات المعلوماتية والضغط الاقتصادي لا يوجد معيار واضح لحسابها فضلا عن التنبؤ بها. الهجمات السيبرية قادرة على ممارسة ضغط وإرباك، وكذا الحصار الاقتصادي (كما تعرضت له روسيا ذاتها) ولكن ليس بالضرورة قادرا على تطويع الإرادة السياسية؛ بل قد يقود لنتيجة عكسية والبحث عن بدائل (كما في حال بدائل الغاز الروسي). وكما أشار لورانس فريدمان في دراسته عن (أوكرانيا وفن الاستراتيجية) – فإن العمليات المعلوماتية مهم ارتكازها على درجة من الحقائق وعدم الفجاجة وإلا قاد فقدان المصداقية إلى ضعف أثرها سواء على القيادات السياسية والحالات الشعبية (وهذا حصل مع الوقت أوروبيا في مواجهة الإعلام الروسي). كذلك، فحتى النجاحات التي حصلت سواء في دعم ترشيح ترامب أو البريكست، فدورها داعم وليس حاسم أو منشيء للمنتوج.

وهنا ننتقل لطبيعة الخيارات الاستراتيجية أمام الروسي في الأزمة الأوكرانية ومحدداتها، وكذا طبيعة الإشكال الذي يقف أمام التصعيد العسكري المباشر. هذه الخيارات قد تشمل:

  • تدخل عسكري بقدر توسعة الوجود والأمان الدفاعي للدونباس، مع تخيُّل إمكانية توسيع هامش المُقايضة مع أوكرانيا  لاتفاق سياسي أفضل من منسك من حيث غلق ملف الانضمام للناتو، وفيتو سياسي دستوريا للدونباس مثلا. ما يقف أمام تخلّق هذا الأثر أن الأوضح – خصوصا من تجربة 2014 التي قاد التدخل الروسي في القرم ثم غير المباشر للدونباس لتهييج الروح الوطنية الأوكرانية وتنامي الشعور الرافض لها شعبيا وسياسي – إلى تأكيد انضمام أوكرانيا للناتو، إلا في حال امتلاك الروسي أوراقا أخرى للضغط على الناتو لأجل تجنب المواجهة المباشرة.
  • تدخل عسكري لغرض إلحاق الدونباس بروسيا وقبول انضمام أوكرانيا بالناتو تبعا لذلك؟ وهذا سيؤدي إلى ضرورة إبقاء الحشد العسكري بتكلفته العالية وتصاعد الحصار الاقتصادي، واستعادة بشكل كبير للتصعيد الاستراتيجي وانتشار القوات بشكل قريب من منطق الحرب الباردة مع افتقاد الروسي كذلك لأدوات الوفاء به غير الردع النووي ولكن انهيار كبير في مساحة التوازن التقليدي والوضع الجيواستراتيجي.
  • خيار توسعة النشاط العسكري لغرض الحسم، واحتلال كييف ومحاولة إنشاء نظام سياسي بديل؟ وهذا ممكن عسكريا ولكن يقتضي تطويرا جذريا في بنية وحجم ومنطق الحشد العسكري على الحدود (الجيش الأوكراني عشرة أضعاف مثيله في جورجيا مع خبرة حرب حديثة ودعم أوروبي أكثر حضورا وقابل للتضاعف)، ثم الاستعداد لتفاقم الأثر الاستراتيجي في النقطة السابقة (استعادة تصعيد الحرب الباردة أمام الناتو مع ضعف كبير في أدوات استدامتها)، مع نقطة أخطر: السيطرة على حال شعبي مُعادٍ؛ وروسيا بالأخص تُثمّن هذه النقطة سواء من تجربتها في أفغانستان قديما ونقدها المتكرر للتجربة الأمريكية في العراق وأفغانستان حديثا.
  • ويبقى خيار تطوير الديبلوماسية القسرية، مع تطوير البنية السياسية والعسكرية للجزء الانفصالي، ومراجعة وإعادة ضبط مسارات الضغط الاقتصادي والعمليات السيبرية والمعلوماتية لمعالجة مواطن القصور الحاصلة (وهذا بشكل عام وليس فيما يتعلق بأوكرانيا فقط)، مع تعديل المقاربة السياسية لأوكرانيا لمنطق استيعابي (سيقتضي التحرك بشكل جاد في مرحلة تالية لتحقيق اندماج ومصالحة وطنية وإعادة تسكين الجزء الانفصالي في المدارات السياسية والوظيفية والعسكرية للدولة).
    وهذا بالتأكيد مُهمّ موضعته في استراتيجية كونية، قريبة مما هو حاصل الآن سواء في زيادة مصادر النفوذ السياسي والعسكري والاقتصادي في الأطراف ليس فقط كأوراق مُقايضة، ولكن في إعادة طرح الروسي كطرف أصيل وموثوق به في المعادلة الدولية وبنسق مبدئي واضح (خصوصا تعميق الاقتراب من الأطراف الدولية التي بها درجة من النفور من السلوك الأمريكي: فرنسا وألمانيا والصين، وأطراف إقليمية). ماينقصه هو ممارسة ضبط  أكبر على توظيف الوسائل الاختراقية سواء كان دعم عسكري لأطراف في نزاعات محلية، أو عمليات استخباراتية ومعلوماتية وسيبرية وحساسية نحو آثارها التي قد تقود لزيادة الممانعة الدولية – خصوصا الأطراف الأوروبية والقريبة، وبحيث يتعمّق الشق (القائم بدرجة ما) بين الأمريكي والأوروبي في صياغة توجهات الناتو بالأخص في الملف الروسي.

ولكن ما يفيدنا في ممارسة درجة من التنبؤ وتقدير مآل مايحصل في أوكرانيا بشكل غير يقيني، ليس مجرد تقييم الخيارات السابقة من حيث المنطق الاستراتيجي (الموارد والخيارات والنتائج والتبعات)، ولكن مقايستها على تحيُز بوتين والروس وخبرتنا معهم سابقا في إدارة أزمة الفضاء الإقليمي منذ أول الألفية وكذلك تصاعدات أزمات جورجيا ثم أوكرانيا 2014 وما تلاها بحيث نتوقع الخيار الأكثر ملاءمة لطريقة تفكيرهم (وليس بالمطلق) مع وضع هامش كبير للانحراف وتداعيات غير متوقعة. ومن هذه الناحية، فبالرغم من تصوّر الروسي أن تدخله في جورجيا منع انزلاقها نحو الناتو (كتصريح شهير للافروف في 2017)، وأن منطق المباغتة والجراءة لتحصيل قفزات حادة في معرض تطوير المكاسب الجيوسياسية استغلالا لضعف إرادة الخصم وتهلهل قدرته اللحظية على المقاومة (ثقافة الجودو التي يتقنه بوتين – كما أشار  البعض بطرافة – لكن دون مبالغة!) ثم التوقف حين يقتضي الحساب – قد يدفعان لخيار التدخل العسكري المحدود، ولكن حساسية الروسي من ملف أوكرانيا لإدراكه الفوارق من حيث التوازن العسكري والتصلب الشعبي ووجود فرصة حقيقية كمخزون بشري وسياسي للتأثير على السياسة الداخلية– فضلا عن العنصر الاقتصادي (خبرة الحصار الاقتصادي التي ضاعفت آثار انخفاض أسعار الغاز والنفط في مراحل سابقة خصوصا مع تطور خط الغاز الشمالي واحتياج الروسي لعلاقات إيجابية مع محيطه القريب ووجود بدائل عنه) .. كل هذا يزيد من حساسيته من التدخل العسكري الفج في الدونباس بأكثر من 2014.

بالأخص – أن الاستنفار الغربي والأمريكي من تصعيده الحالي على الحدود، نعم هو إشارة على تحقيق استراتيجية دبلوماسيته للإكراه على أثر ضاغط (بل يصل لدرجة الفزع) ولكن إن لم يتم الاستفادة منه بمنطق تفاوضي وشامل، والتصعيد العسكري فعليا، فهذا يقود لتفاقم كل النتائج السلبية المُشار إليها سواء في تطوير الممانعة العسكرية داخل أوكرانيا، والأسوأ – بيئة أوروبية أشد عدائية على كل المستويات. ويتضح أن بوتين يدرك ما سبق، ونفهم هذا من حديثه المتكرر عن انعدام نية الحرب، وما أخبر به أقل الأطراف الأوروبية عداء له (ماكرون)، وبدء فك تدريجي للحشد.

ولكن لماذا قد يتطور الأمر لتدخل عسكري بأشكال ونهايات مختلفة وإن بقي الاحتمال محدودا جدا؟

لأن مشكلة هذا النمط الاستراتيجي (الديبلوماسية القهرية والردع) أن من يستخدمه يقع في ورطة إذا قام بتصعيد الأزمة والحشد العسكري حين يتمنع الخصم على التطويع، وكذلك لا يُصعد بحيث يستدعي الاشتباك العسكري. حينها، المأزق كيف يُبَرِّد cooling down
الأزمة بشكل يحفظ ماء وجهه، وفي نفس الوقت لايخسر عن نقطة البدء.

ولأن الصراع في أوكرانيا جزء من الصراع الأوسع في المنطقة، ولأن جزء مهم في تعميم صورة الردع التقليدي إقليميا ودوليا هو تأكيد مصداقيته بالاشتباك والإنجاز العسكري، فيصعب على روسيا فك التصعيد هكذا بصمت. ولكن إذا أعملت منطقا استراتيجيا سليما ستجد أمرا توفيقيا من بقاء درجة من التصعيد الخطابي والحشد العسكري، مع التوسع في مساحات التفاوض والضغط الاقتصادي، وربما هذا ما بدأت تفعله الآن ببدء التراجع عن الحشد والإعلان عن نهاية (حشدها التدريبي)!


مقال: على هامش تسريبات المشروع الصاروخي السعودي – آثاره وحدود المنطق الاستراتيجي للصواريخ البالستية

https://www.raialyoum.com/%d8%af-%d9%85%d8%ad%d9%85%d8%af-%d8%a8%d8%b1%d9%8a%d9%83-%d8%b9%d9%84%d9%89-%d9%87%d8%a7%d9%85%d8%b4-%d8%aa%d8%b3%d8%b1%d9%8a%d8%a8%d8%a7%d8%aa-%d8%a7%d9%84%d9%85%d8%b4%d8%b1%d9%88%d8%b9-%d8%a7/

تابعنا جميعا تقييم استخباري وصور إحداثيات بالسعودية كشفت عنها السي إن إن حول محطات لتصنيع الصواريخ ووقودها الصلب بخبرة صينية، وانزعاج واشنطن بسبب تعقيد المفاوضات مع إيران.

https://edition.cnn.com/2021/12/23/politics/saudi-ballistic-missiles-china/index.html

وسأتطرق هنا إلى جملة من الملاحظات حول تقويم مبدئي لهذا المشروع الصاروخي السعودي، وبالأخص الدعم الصيني له، ومواقف كل من الولايات المتحدة وإسرائيل منه، وآثاره على الحرب الدائرة حاليا في اليمن أو خلفية الصراع مع إيران. ثم نتوسع لمقاربة المنطق الاستراتيجي للصواريخ البالستية ودفاعاتها في الإطار العربي الأوسع – بالأخص مصر، والصراع العربي الإسرائيلي.

بداية – اهتمام السعودية بالصواريخ البالستية يعود لعام 1988 حين اشترت مجموعة من صواريخ صينية متوسطة المدى 
DF-3A
، ومع ضعف توجيهها كان هذا قفزة بالنظر خصوصا إلى عدم امتلاك السعودية صواريخ سكود كما عند مصر والعراق وسوريا. والدافع بالأخص كان القلق من حرب الصواريخ المتبادلة في أواخر الحرب العراقية الإيرانية. في هذا الوقت – انزعج الأمريكي وكان قد أرسى مبادرة  
Missiles Technology Control Regime
لتحجيم بيع أي مواد أو أجهزة للتصنيع المباشر لصواريخ تفوق 500 كم أو للاستخدام المزدوج بين حلفائها، وأيضا نجح في إجهاض المشروع الصاروخي المشترك كونكورد 2 بين الأرجنتين (خبرة تقنية بمساعدة شركات أوروبية) والعراق (تمويل – وربما كذلك اشتركت فيه السعودية) ومصر (تسوّق ولوجستيات ومحاولة تحصيل مواد وكيماويات من الداخل الأمريكي وهذا قاد لأزمة قانونية تبعا لمحاكمة عالم الصواريخ الأمريكي من أصل مصري حلمي عبدالقادر مع ضابطين مصريين من ملحقية الدفاع بواشنطن، وكانت من ضمن أسباب إقالة المشير أبوغزالة). ولكن تقبّل الأمريكي الأمر بمقايضته مع توقيع السعودية على اتفاقية منع الانتشار النووي
NPT.

ثم في الألفية، تطور المخزون البالستي السعودي كذلك بصفقات صينية لصواريخ
DF-21
(غالبا 2010 وتم الكشف عنها 2017)
، وربما
DF-15
قبل ذلك، وهي كذلك صواريخ متوسطة تصل ل 1800 كم، ولكنها أدق كثيرا من سابقيها بمساحة للخطأ  
Circular Error Probable (CEP)
يصل ل300 متر (هذا أفضل كثيرا من التصميم المبدئي لكونكورد 2 مثلا التي تصل مساحة الخطأ ل 800 متر). وكان الدافع الأساس وراء ذلك تصاعد المشروع البالستي الإيراني. وفي هذا الوقت وافق الأمريكي بعد تفحّص عدم إمكانية التصميم المُشترى لحمل رءوس نووية، وفي منطقه أن تتم هذه الصفقات تحت بصره ويتحكم في محدداتها أفضل من إتمامها خلف ظهره.

وباعتبار ماسبق، ومع تطور الصراع السعودي مع الإيراني في العقد الفائت وتصاعد قدرتها التصنيعية البالستية، ومع حرب اليمن، وإشكالات الاتفاق النووي مع إيران سواء خروجها منه أيام ترامب ووصولها لنسبة تخصيب عالية، أو عودتها مع بقاء قدرتها الصاروخية وحركتها الإقليمية لا تُمس، فإن وجود نويات لمشروع تصنيع صاروخي (بالتأكيد تحت نقل خبرة صينية) هو غير مفاجيء، وتم الكشف عنه في 2019 أيام ترامب أيضا. ومع صلاته الوثيقة بكل من السعودية وكونه أقرب رئيس أمريكي وأكثرهم خدمة لإسرائيل، فهو لم يمارس أي ضغط إجهاضي على المشروع.

ومن هنا نفهم موقف الأمريكي وأثر ذلك عليه، لا يزال منطق التبعية والاعتماد الدفاعي على الأمريكي حاضر سعوديا بشكل كثيف ولا توجد بوادر سعودية على تحوّل جذري وبحث جاد عن بدائل في هذا الشأن، وإن كان الأمريكي منذ 2009 ومبدأ أوباما يسعى حثيثا للتملص من الالتزام الدفاعي بأمن الخليج والسعودية بالأخص تبعا لخفوات محركات وفرضيات هذا الالتزام التاريخي (أسواق نفط بديلة، والاتجاه أمريكيا للنفط الصخري، والصعوبات المادية وإشكالات تجارب الانخراط في صراعات الشرق الأوسط كما حصل بالعراق وأفغانستان، والتركيز على ساحات جنوب شرق آسيا وأوروبا مع تصاعد الصين وبوتين). ولكن هذا المنطق في أشدّه، لم يُمانع في تطوير مساحات غير مُهدِّدة له أو لإسرائيل استراتيجيا. لماذا؟

لأن بناء خبرة ومُكنة تصنيع صاروخي بالستي يأخذ أشواطا زمنية واسعة، وليس في أمد قريب أن يقود التقارب السعودي الصيني لمستويات مُهدّدة للتميز والخصوصيات العسكرية التقنية الأمريكية، خصوصا مع المراقبة الأمريكية الكثيفة للأمر، ولا يُهدد حرية الحركة الاستراتيجية الأمريكية في منطقة الخليج بالنظر إلى تراجع اهتمام الأمريكي بالأصل في هذه المساحة (مع إمكانية إعادة ملئها إذا استدعت الضروة) وبقاء منطق التوسع العسكري الصيني مقتصرا على جنوب شرق آسيا وبحر الصين، مع تمظهره في التوسع الاقتصادي وفقط كمشتريات عسكري لما يتعداه، بالأخص مع احتياجه لفترة زمنية طويلة نسبيا لتطوير ذراعه العسكري البحري
Blue Water Navies.
ولكن بالتأكيد موقف إسرائيل يتم اعتباره أمريكيا خصوصا في ملفات غير حرجة له.

أما بخصوص إسرائيل، فكمبدأ عام، هي تعترض وتحاول بوسائل مختلفة إجهاض أي مشروع صاروخي عربي كتصنيع أو مشتريات. دورها معلوم مثلا في إجهاض المشروع المصري في الستينات بوسائل عمليات سرية واغتيالات للعلماء الألمان، أو الضغط على ألمانيا الغربية، وإن استفادت منه في تطوير مشروعها الصاروخي (أريحي) والنووي، وتدشين أو علاقة رسمية للاستراد العسكري من أمريكا حتى وقت كينيدي (صواريخ هوك الدفاعية) ودبابات عبر ألمانيا. وحتى دور إسرائيل في إجهاض مشروع كونكورد ظاهر سواء في الضغط على الولايات المتحدة وبريطانيا لمواجهته مع حلفائهم الأوروبيين، وحتى عمليات تفجير سيارات (اثنان بالقاهرة وثالثة بفرنسا) لعلماء مشاركين بالمشروع، وبالطبع – كانت مواقفها المعلنة الرافضة والضاغطة ضد مشاريع مصرية سواء تلك التي حاولت استكمال كونكورد 2 في التسعينات
(Victor)
، أو توطين تصنيع
Scud-B
 عبر خبرة كورية شمالية، وشرائها
Scud – C
، وكذلك ما يترجح من حصول مصر على تقنية
No Dung
 متوسطة المدى وإن بدقة غير عالية بدءا من 2003.

لكن بالأخص في السنين الأخيرة، فهناك طرح داخلي إسرائيلي بغض الطرف عن بعض القدرات الخليجية في هذه المساحة لمواجهة مشتركة للخطر الإيراني المتصاعد، كذلك بالنظر كما أشرنا، أن هذه المشاريع أمامها فترات ممتدة للنضخ التقني والخبراتي، بالأخص مع ضعف القابلية السعودية كمأسسة وقاعدة اجتماعتقنية -بالنظر مثلا للصعوبات التي واجهها المصري والعراقي مع تفوقهما كثيرا عنها في المساحتين. نعم، مصر والعراق كانا يتحركان في واقع دولي يُحجّم كثيرا من مصادر التقنية والمواد شديدة التعقيد لبناء تصنيع صاروخي ولو متواضع ككونكورد، وأن الرعاية الصينية يمكنها تجازو كثيرا من هذا، ولكن حتى المشروع الإيراني (كذلك بتواصل كوري شمالي وصيني) استلزم عقدين ليحل مشكلة التوجيه للصواريخ القصيرة ومتوسطة المدى والمرحلية
staging
 للمتوسطة. وفي الأخير – السعودية لا تزال في دائرة النفوذ الأمريكي مما يُقيِّد رغبة وحدود الانفتاح الصيني في نقل الخبرة فوق مقتضى التوطئة لقضم جزئي لهذا النفوذ – بما يسمح به الأمريكي – والمكسب الاقتصادي.

ننتقل الآن لآثار هذا المشروع سواء على المفاوضات الحالية مع إيران وهذا سبب الانزعاج الأمريكي، أو مساحة الحرب اليمنية والصراع الأوسع مع الإيراني.  

بخصوص المفاوضات فهناك أثران متناقضان محتملان، الأول هو تعقيدها فيما يتعلق بإدخال تقييدات حول المشروع الصاروخي الإيراني أو حركتها بالإقليم، والثاني هو تسهيلها بالتلويح بالضغط على السعودي في مقابل تليين الموقف الإيراني، وهذا سبب الانزعاج الأمريكي. ولكن الأقرب أنها فقط ستساعد الإيراني لتحسين موقفه التفاوضي حول نقطة لايمكن أن يتراجع حولها تحت أي ظرف وأن الأمريكي هو من سيتنازل آخر الأمر، لخطورة اقتراب الإيراني من النووي أمريكيا وبالأخص إسرائيليا، ولأن المشروع الصاروخي هو واسطة عقد الاستراتيجية الدفاعية الإيرانية.

والحقيقة – أن هناك موضعة وتبادلية جيدة لهذا السلاح ضمن المنظور الاستراتيجي الإيراني ومع بقية مفردات القوة.

النظرية الاستراتيجية الإيرانية تعتمد على بناء الردع الصاروخي – وخلفيته النووي – واصطناع خطوط وكلاء
Proxies
عبر الاستنفار العقائدي المذهبي الإمامي – أو الديني ارتكازا على فكرة الصراع مع الإسرائيلي والأمريكي، والاحتضان العسكري والمادي لتطويق وإشغال الخصوم الإقليميين، وتطوير القدرة البحرية وغير النظامية للتحكم على الخليج العربي عبر خط منع سيطرة الخصم بعمليات صغرى تخريبية وألغام وليس سيطرة بحرية مباشرة، وكل هذا يتكامل في دور توسعة الهيمنة السياسية والعسكرية عبر مسار تدريجي، وهذا عوْدا يساعد على تطوير وتفعيل ماسبق من أدوات، وقفزات تبعا للفرص المتاحة (كما حصل في سوريا والعراق واليمن).

والإيراني له منطق واضح في التوظيف الاستراتيجي للصواريخ البالستية – كردع أمام العدائيات المحتملة سواء من قبل إسرائيل أو الأمريكي، وكذا كمنطق عسكري في أي تصعيد محتمل سواء كردع أمام تصاعد مستوى الاستهداف لحال الحرب الشاملة، وإعادة توكيد الخطوط الحمر كمسلك عقابي، أو أثناء الحرب – توصيل قوة نارية ضافية  لأرض الخصم– تقليدية ولكن كيماوية وبيولوجية في حال استخدام سلاح غير تقليدي من قِبَلِ الأخير – (بالأخص استهداف مناطق حيوية كمفاعل ديمونة ومصانع كيماوية ومطارات ومدن على قطاع القدس- تل أبيب، بأكثر منها استهداف مسارح عمليات وقوات تبعا لغياب هذا الحشد البري في تصعيد مع إسرائيل وقلة احتماله أمريكيا). ولكن تبقى خطوط الوكلاء (حزب الله، حماس، الحوثي، الميليشات العراقية وداخل سوريا – على الترتيب) هي الأكثر حضورا في تفعيل منظومة الردع، وكذا الإشغال لأسباب: التحرك خلفها دون وضع الاستهداف المباشر بتعقيداته القانونية والاستراتيجية، وقيمتها الأوقع لكونها في خاصرة الخصم الاستراتيجية وضعف قدرته على تحييدها. ولأن المنطق الدفاعي قائم على منظومة الردع الإيذائي –
punitive –
وتطوير القدرة غير النظامية بشكل أساس، نفهم مثلا لماذا استراتيجية التصنيع البالستي مرتكزة على الهجومية وليس الدفاعية.

هل يُمكن أن يقود المشروع الصاروخي السعودي الناشيء لتغير في مسار حرب اليمن أو التدافع مع إيران بشكل أوسع؟

بخصوص اليمن، السعودية وتحالفها – الذي فقد أطرافه بشكل فاعل تباعا – ارتكبت أخطاء فادحة بتبنيها الذاتي لفرضيات استراتيجية الإيراني السابقة. فتقدير إمكان حسم عسكري مع الحوثي (حركة عقائدية غير نظامية تتمترس في صعدة والقطاع الشمالي الأكثر تهديدا للمملكة) يتناقض مع بديهيات الاستراتيجية ودروس التاريخ المتتابعة منذ حرب عبد الناصر في اليمن. وأن الرسالة الرادعة لإيران التي قُصِد توصيلها عبر ضرب مساحة تدخلها في اليمن وقطعها، ستعود على المملكة خسارة في ميزان الرادع ومزيد تهديد في فضائها الحيوي واستنزافا بشريا وموارديا وفي سمعتها الدولية (بالنظر للسياسة الجوية غير المُميّزة والتي قادت كما هو متوقع للتصلب العدائي والشعبي للحوثي)، يُصعِّب الخروج دون مزيد تهاوٍ في الوضع الردعي والدفاعي.

وكمنطق للخروج بأقل الخسائر – فليس أمام السعودية إلا إحداث في تعديل جذري سياسيا فيما تقصده من اليمن ليقتصر بشكل ملح على منع الاعتداءات الجوية والصاروخية وغير النظامية من قطاع صعدة، واستراتيجيا عبر تبنٍّ لبناء معادلة ردع ترتكز على الشق الإنكاري
Denial
 بتطوير منظومة دفاعها الصاروخي (باتريوت 3، والانتقال فورا لاستبدالها ب
S 300
 إذا تمنَع الأمريكي)، والأهم – الشق الإيذائي
Punitive
عبر خيار الردع التقليدي
Conventional Deterrence
 – مخروط تصعيدي عقابي بخطوط حمر واضحة، ويتم تجديدها ودعمها دوريا، ولكن في ظل مسار تخفيف التوتر وضبط دقيق لأداة الضربات الجوية. ويستفيد هذا من مسلك استيعابي للحالة اليمنية والتعايش مع يمن بوجود حوثي مهيمن، وتطوير الحوار الإيجابي مع إيران إقليميا ولحل المشكل اليمني. بمعنى أدق – المملكة ستفعل أداتها العقابية بشكل حاسم إذا تم استهداف مجالها الحيوي، ولكنها تتحرك بشكل ديبلوماسي واقتصادي وإنساني لفك الوضع داخليا باليمن دون انحياز فج لأحد الأطراف. وقد يقتضي هذا موقفا ختاميا يتمثل في تصلب دفاعي في قطاع مأرب (بإبرار جوي وقوات خاصة) لتبطئة شعور الحوثي بالانتشاء وحلحلة ممانعته لعملية التفاوض. وكما نرى- ليس في هذا السياق المطروح قيمة واضحة لمشروع بالستي في مراحله الأولية، إلا ما قد يبدو نظريا أنه بناء رسالة ردعية عقابية للإيراني بشكل عام قد تساعد في تخفيف دعمه للموقف الحوثي المتصلّب – إذا اشتراها الإيراني قريبا.

لكن هذا كذلك ليس له محل لسببين: الأول – أن أمام المشروع السعودي أشواطا زمنية وتقنية واسعة للوصول لحد التكافؤ الإيذائي الصاروخي مع الإيراني (البنية التصنيعية للأخير قادرة على تصنيع ترسانة هائلة من الصورايخ المتوسطة جيدة التوجيه كسجيل وشهاب-3 وعماد وقدر وأيضا طويلة المدة من ذوات العوائل وفي مرحلة التطوير، وبنوعي الوقود السائل والصلب، وكذلك صواريخ كروز ومضادات السفن والدروع – وكثير منها قادر على حمل رءوس نووية)، فضلا أن امتلاك القدرة الاستراتيجية على توظيف هذا السلاح ردعيا واستخداما أوسع من مجرد الحساب العددي التفاضلي، ولكن منهجته ومأسسته ضمن نظرية استراتيجية شاملة غير موجودة حاليا.

والثاني – أن مساحات التهديد الإيراني وكذا سبل مواجهتها أوسع من هذا. فمثلا – جزء مهم من توسع تهديد الأخير في العقد الفائت كان بسبب الدور الخليجي السلبي في فتح جبهات له كما في سوريا واليمن وقبلهما العراق، وكل هذا يقتضي مراجعة جذرية تقصد لاستعادة بنى الدول المركزية عبر صيغ مركزية وقومية ملائمة بعيدا عن الحساسيات الشخصية والمذهبية، وهذا ما يحجّم فرص النفوذ والتوغل الإيراني.

كذلك – فعدائيات الإيراني المحتملة ترتكز على التهديد الصاروخي وهذا يستلزم تطوير منظومة الدفاع البالستي ككم ونوعية وتراكب ورؤية استراتيجية وعملياتية مناسبة. في هذا الشق مهم الحرص على مشتريات كافية لمضادات صواريخ المرحلة الواحدة (باتريوت، و
S 300)
ولكن كذلك تلك المضادة للمتوسطة وذات المرحلتين (بالأخص لضربها خارج الغلاف الحيوي في حال كانت محملة بكيماوي أو بيولوجي) وهذا يقتضي إتمام صفقات ثاد مع دعمها ببحث جاد في مشتريات
S-400
للوصول لحد إشباع دفاعي مناسب. وهذا سيجر أزمة مع الولايات المتحدة بلاريب، ولكن الأمريكي في كل حال لن يسمح للوصول لنسق دفاعي صاروخي كامل، فلابد من ترتيب الأولوية الشرائية لتنحاز للخط السوفيتي والصيني. والأهم – بناء المتطلب القيادي والخاص بالدمج المعلوماتي والالكتروني بين النظم المتباينة وتطوير عقيدة قتالية مناسبة، وربما يُساعد المحاصصة الجغرافية والوظيفية في تقليل الحاجة لما سبق وليس إنهائها.

وتبقى الحاجة لتطوير جذري في البنية الدفاعية الخليجية سواء في تطوير القابلية الاستراتيجية معرفيا وكمأسسة، وتخليق رؤية استراتيجية واضحة تتراكب عليها كل ملفات الخيارات الدفاعية وتطوير عقيدة قتالية ومنظومة قيادة وتركيب قوات مناسبة (نحكي هنا مثلا عن العمليات الساحلية
Littoral
والدفاع البالستي والرانجرز والكوماندوز البحري)، وتقليل التبعية والاعتماد الدفاعي على الأمريكي، وضبط سياسة المشتريات والتصنيع لتخدم المنطق الاستراتيجي وليس لتسديد فواتير الالتزام الأمريكي الدفاعي، والشروع الجاد في بناء إطار دفاعي عربي بالأخص مع مصر والأردن، ودفن أي توهّم حول نجاعة التقارب مع الإسرائيلي فإنه شديد السلبية بتقدمته ذرائع لتوغل الإيراني مع ضرب الثقة الشعبية خصوصا داخل المملكة،  مع التركيز على تطوير البنية الاجتماعية للجيش عبر خيارات التجنيد الذكي، وإحياء الروح القتالية والعنفوان والمبادءة التكتيكية. وعلى ذات الأهمية، بناء صيغة شرعية سياسية حاضنة للأقلية الشيعية وهذا يزيد من متانة الدولة وتجازها لمآزق سياسية محتملة، وكذا يحرم الإيراني من فرص عدائية أكثر خطورة مستقبلا.

وكل ما سبق، لابد من موضعته ضمن رؤية استراتيجية قاصدة بالأساس لتخفيف التوتر مع الإيراني، وبناء علاقات إيجابية، مع دعم البنية الدفاعية أمامه، وتقليل فرص تدخله إقليميا عبر سياسة استيعابية للوكلاء، وبالأخص – بالعودة العربية ثانية لتبنٍ جاد للموقف العربي في صراعه مع إسرائيل، والحق الفلسطيني، وليس الارتماء في حضن العدو الوجودي لهذه الأمة.. فهذا مهلكة.

وبالنظر إلى المساحة الأوسع للصراع العربي الإسرائيلي، فتبقى ملاحظات هامة:

أولا) لايوجد سلاح يُعطي لحالة قيمة استراتيجية خالصة (لأستاذي الراحل كتاب جيد عن القوة النووية بعنوان
Weapons Don’t Make Wars)
، ولكن في كيفية موضعته في مسار عملياتي ضمن مفردات متفاعلة معه ضمن خيار استراتيجي يقصد لتحقيق رؤية سياسية ما، ويتم مراجعة دءوبة لفرضيات أثره وتوظيفه. ولهذا – فنظريا، الصواريخ البالستية ودفاعاتها هي شديدة الأهمية في القدرة العسكرية العربية، ولكن مع بقاء الخلل الجسيم في غياب الرؤية والإرادة السياسية، وضعف القابلية الاستراتيجية معرفيا ومؤسسيا وتطبيقيا على توظيف مصادر القوة والتي خرّبت التجربة العربية سابقا، فإن فائدتها محدودة وقد لا تتعدى البرستيج السياسي للأنظمة (كما في قوافل صواريخ القاهر والحسين على ضفاف النيل ودجلة).

ثانيا) قيمة الصواريخ البالستية بالأساس هي في تحقيق توازن ردعي، بالأخص حين تمتلك خاصية توجيه دقيق أو أسلحة غير تقليدية، مع الإسرائيلي، ولكن هذا يبقى مفيدا فقط في تقديم مظلة وقت لمسارات البناء الاستراتيجي والدفاعي الفردي والتحالفي المطلوبة لأي تصور حول حسم الصراع. الردع لايحسم أو يُغير التوازن العسكري والاستراتيجي المُنحاز بشكل فج – يتفاقم مع الوقت – مع الإسرائيلي.

ثالثا) القيمة الأخرى للبالستية هي كذلك في الردع داخل زمن الحرب لكبح مساحات التصعيد، ومعادلة بعض جوانب السيادة الجوية للخصم، بالأخص إذا تزاوجت مع بناء معادلة إنكار جوي بأنظمة دفاع جوي تكاملية. وكذلك – القدرة على إحداث دمار نوعي سواء بنظرية الضربات الجوية الاستراتيجية التلقيدية بطبعتها التاريخية (ضرب المدن) أو ماطرحه جون واردن قُبيل حرب الكويت (قصف الرأس السياسي
Political Decapitation
، أو خطوط القيادة والسيطرة). ولكن كليهما – خصوصا الثانية – يقتضي تطوّر هائل في أنظمة التوجيه، والمقذوفات.

رابعا) العقبة العملياتية الأهم أمام تفعيل الذراع البالستي هو المنظومة الدفاعية الإسرائيلية التي تُصاغ عقائديا وتقنيا منذ أواخر الثمانينات وترتكز على عناصر الردع، والإجهاض، والدفاع الإيجابي (طبقات تكاملية من الدفاع الصاروخي)، والدفاع السلبي (تهيئة الحالة الشعبية وقدرة الدولة على امتصاص الضربات مع بقاء وتحوير النمط الوظيفي بشكل مرن
Resilience)
. وبالأخص في الدفاع الإيجابي، فالإسرائيلي بدأ في أواخر حكومة ريجان مشروع
Arrow
 للدفاع البالستي (للمفارقة بعد إقرار
MTCR
 وإجهاض مشروع كونكورد 2) ووصل لمضادات الصواريخ طول المدى وخارج الغلاف الجوي آرو 3 ولا تقل كفاءتها عن ثاد. ولكن يتراكب معها الدفاع المتوسط
David Sling
، فضلا عن القبة الحديدية والتي تناولناها سابقا باستفاضة وقت حملة (سيف القدس). وتجاوز هذه العقبات تقتضي، في حال التغير الجذري في بنية وإرادة وقابلية الطرف العربي في الصراع، استنفارا لتطوّر تقني وعقائدي مقابل ومستمر، ومزاوجة مثلا بين أنماط من الاستهداف الصاروخي للإغراق التقني والإدراكي لمنظومة الخصم، بما يشمل مناورة وتكامل مع الحركات غير النظامية استراتيجيا وعملياتيا ضمن محطات صراع يحصل تمهيد كافٍ لها.

خامسا) التجارب العربية المريرة في بناء مشاريع تصنيع بالستي (مصر والعراق وسوريا) – ولعل هذا يكون درسا للسعودية- تُجزم أنه لايمكن القيام بذلك بشكل منفرد أو حتى اعتمادي على قوة خارجية كالصين، إذا كانت هناك رغبة جادة حقيقية لبناء مفردات قوة التصنيع تلك بكل روافدها البشرية والعلمية والتقنية والخبراتية والعقائدية والشرائية والديبلوماسية، سواء في مراحل البحث والتطوير، وبناء النماذج الأولية، والاختبار، والتوظيف والدمج والاستيعاب في المنظومة العملياتية والاستراتيجية، والتدافع المستمر مع بنية وتقنيات أذرع الخصم الهجومية والدفاعية عبر التطوير التقني والعقائدي. وكل هذا لابد أن يحدث في ظل وضع دولي شديد التعقيد، ليس فقط لتحجيم الحالة الغربية لموارد التصنيع البالستي، ولكن حتى الصيني والروسي عنده محددات عديدة أمام بناء مشاريع مستقلة وماتقتضيه من تحوير تقني مستقل خادم للاستراتيجيات المحلية. حين يتم تأسيس الرصيف العربي التكاملي لهكذا مشروع، حينها يمكن بناء استراتيجية شراء واستيراد خبرة وابتزاز وقفزات تصنيعية مناسبة، أما غير ذلك فهو حرث للبحر. أخي – كنا هناك وعدنا فوفّر طاقتك وحافظتك لما هو أنفع!